من وحي النظرة - (06) الفطرة

منذ 2014-04-16

لا تستغرب أني لم أعد أُكثِر النظر في عينيك؛ فالحقيقة أني صِرت أغار منك يا ولدي!

لم يُثِرْ غيرتي أنك أصبحت الرجل الأول، صاحب الكلمة المسموعة في البيت -وإن أنكرت أُمّك ذلك حِفاظًا على مشاعري-؛ فأنت الآن من تُحدِّد برضاك موعد نومنا وطعامنا بل وقراءتنا أو حتى مطالعتنا للفيس بوك!

بكاؤك يُعلِن حالة الطوارئ، نُسارِع لإرضائك ودفع ما أغضبك، متى طلبتَ أُمّك كانت عند قدميك مُلبية، منتظرة إذنك لها بتقديم الطعام لأبيك القادم من عمله وقد تضوَّر جوعًا!

لم يُثِرْ كل ذلك غيرتي يا ولدي! كما كانوا يُحذِّرونني دائمًا، وينصحونني بتقبُّل الأمر الواقع؛ فعهد تفردي بالكلمة في البيت قد ولَّى مع أول صرخة استقبلتَ بها الدنيا!

أتفهم ذلك تمامًا يا ولدي! إلى حين، فلا تقلق.. كذا فعلنا بآبائنا، وكذا سيفعل بك أولادك -أمد الله في عمرك على طاعته-..

لا تعجل.. ألمح التساؤل في عينيك، ما الذي أثار غيرتك إذًا يا أبي؟! إنها صحيفتك، صحيفتك البيضاء يا ولدي..! أتذكر يوم خلوت بك في ساعة رضاك التي اختطفتها أُمّك لتقرأ وِردها، وتركتنا سويًا؟!

يومها تعجَّبتَ من دموعي وأنا أغض طرفي حياءً بين يديك، ومددتَ يدك الرقيقة لتجذبني من لحيتي متسائلاً: ما لك يا أبي؟! تخيّلتُ ساعتها يا ولدي فجأة أننا نقف سويًا بين يدي الله -بارك الله عمرك، وأطاله على طاعته-..

تُرى من يكون أقربنا للنجاة يا ولدي؟!

نعم، لي صلاةٌ وصيامٌ وحجٌ وقرآن، لكن لي نية مدخولة لا أضمنها، ولي قلب أصابته الدنيا بسِهامها، ولي عينٌ بها خيانة وجرأة فاجرة، صارت لا تستطيع مقاومة الطُّهر والنقاء في عينيك، فتغض الطرف في استحياء.. أنت يا ولدي الآن أبلغ واعظ في حياتي وإن لم تجد النطق بعد..

ما أنظر إليك إلا وأجد باعثًا للتوبة والاستغفار بداخلي، لعلي أُحصِّل شيئًا من نقاء نظرتك التي تحمل بقايا مشاهد من عالم الملائكة.. فهمتُ الآن لم كانت ابنة عبد الوهاب المسيري سببًا في تغيير مجرى حياته، من ظلمات المادية إلى نور الروحانية يوم ولادتها..

فهمتُ الآن لم كانت مجرَّد نظرة أقرانك سببًا في توبة كثير من آبائهم.. أنتم ممثلو الفطرة النقية في حياتنا يا ولدي، أنتم الوُعّاظ بنظراتهم دون النطق بحرف، أنتم رسائل حيَّة تدعونا لإعادة حساباتنا دومًا..

لي صحيفة يا ولدي! تعجُّ بغدرات وفُجرات، فأين أنا من صحيفتك البيضاء التي لم يجرِ عليها قلم؟!

في هذا المشهد بين يدي الله أيقنتُ أني سأطلب شفاعتك لعلها مقبولة عن أعمالي المنقوصة.. عرفتَ سبب بكائي؟!

استغفر لأبيك يا ولدي..! استغفر لأبيك..!

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام

محمد عطية

كاتب مصري

  • 2
  • 0
  • 1,571
المقال السابق
(05) كم أحتاجك يا ولدي
المقال التالي
(07) ذكريات

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً