رحلتي إلى المتاب

ملفات متنوعة

  • التصنيفات: التوبة -
لقد كنت أعد نفسي لكي أكون من "طليعة" الشيوعيين من خلال قراءات موسعة في مؤلفات لينين ودراسات كتاب علمانيين ويساريين عن الفكر الماركسي والتجربة السوفييتية. بل لقد ذهبت أبعد من ذلك فكنت أغرف من الأدب الشيوعي العربي والأجنبي شعرا ورواية ونقدا وتأريخا لكي أنتج أدبا شيوعيا يعبر عن هذاالتوجه العقدي والفكري.

وقبل ذلك تقلبت في في فلسفات شتى قرأت في الوجودية واقتنيت مسرحيات سارتر ورواياته العبثية التهويمية وحاولت أن أقرأ هيجل وإنجلز رفيق ماركس وتعرفت على شتى المذاهب الفنية والأدبية التي تمخضت عن الفكر الأوربي "التنويري " فيما يسمونه عصر النهضة . ومن كل عاصمة سافرت إليها كالقاهرة ودمشق جلبت تلك الكتب وأنفقت وقتي كله أقرأها وأبحث فيها عن معنى لحياتي وهدف أعيش من أجله. وبالطبع قرأت كتب نوال السعداوي وهضمت روايات غادة السمان ومقالات الكاتبات اليساريات وما كتبنه من مذكرات في معتقلات وما ألفنه من انتاج أدبي. كتب كثيرة مرت علي مئات المؤلفات ومئات الصحف والدوريات اليسارية في العالم العربي المبتلى " بنخبه المأزومة والمأجورة للغرب والشرق ".

ولطالما فكرت في الانتحار في تلك السنوات العجاف من سني حياتي وكنت أفكر في الموت على أنه الراحة الأبدية !! وأنه نهاية كل شيء ولم أحسب للقبر حسابا ولا للآخرة سؤالا وجوابا!!

نعم كنت (مسلمة ) من أسرة مسلمة وكنت أصلي أيضا ولكن أي صلاة ! إنه ركوع وتسليم فحسب لقلب خاو وفكر مكروب !
كنت في الأربعين من عمري أي بلغت أشدي وما صنعت لنفسي خيرا من عمل صالح أو إعتقاد سليم بل كنت قد أسرفت كثيرا كثيرا على نفسي وأتمنى لو أستطيع أن ألقي اللوم اليوم على أحد غير نفسي التي انقادت لشياطين الإنس والجن . لقد تهاونت بديني طوال هذه السنوات وهمت في كل واد ولكني لم أتدبر دستور أمتي الحقيقي القرآن العظيم وتفسيره في السنة النبوية المشرفة .

ألا إنني أشهدكم أنني ما وجدت في تلك الكتب- يمينها ويسارها- إلا الغث الباطل والسم الزعاف: لم أجد تفسيرا لمعنى ولا هدفا لوجود ولا نفعا لطالبه ولا سعادة لتعيس ولا طمأنينة لحيران .

ويشاء الله - سبحانه وتعالى- أن يستحكم طوق الكآبة والسآمة والقلق حول عنقي وأن تستضيق حلقة الحيرة والإحباط وتسيطر على أفكاري ومشاعري وتكتم أنفاسي فلا أجد للطعام مذاقا ولا للنوم راحة ولا للقاء الناس حاجة ولا للعيش معنى بل إنني لجأت للمنومات ألتهمها التهاما لأنام نهاري قبل ليلي لكيلا أفيق على حال الكآبة المرة التي كنت فيها .

ولم أعد أقرأ ولا أكتب شيئا ففي تلك المؤلفات التي فتشت فيها عن الإجابة الشافية لم أجد سوى أشد التناقضات وأسوأ الأخلاقيات وأفسد المقدمات وأقبح الحلول فاين أذهب ؟

لقد حماني الله من الإقدام فعلا على الإنتحار وبوصولي إلى أشد حالات الاكتئاب سوء اهتديت بفضل ربي إلى الحق . كانت رحلتي إلى المتاب عسيرة وبطيئة واكتنفتها أمور مختلفة ففي تلك السنوات المشحونات بالألم الممض وبينما كنت أسير على غير هدى تتقاذفني الأمواج والأهواء كيفما اتفق وانقاد بخفة ويسر لصويحبات السوء كان عالمي الداخلي يتهاوى وكان العالم الخارجي أيضا يخّر من عليائه المزيف .

نعم أحاطت بي زمرة من الأشقياء كالسوار في يد مشلولة ولم يكن لي عاصما من الوقوع في تلك الحبائل ما كان من قيم وتصورات وأوهام عن نفسي وعن الناس وعن العالم من حولي وكل تلك الترهات الفلسفية الفاسدة التي كنت أقرأها وألوكها بلساني لم تغن عني شيئا .

إن عملا أريد به غير وجه الله ليس ينتفع به المرء ولا يقر حقا في قرارة نفسه ولا تستكين به روحه: إن سارتر الملحد الوجودي عندما غرغرت روحه في النزع الأخير قال : أحضروا لي قسيسا ! وكذلك هشمت الجموع المستفيقة تمثال لينين الضخم في ساحة الكرملين بعيد انقلاب جورباتشوف الذي أشعل شرارة الإنهيار الكامل للكيان السوفييتي المحنط كجثة لينين المسجى في احدى المتاحف وقد شاء الله أن ينجو ببدنه آية للمتفرجين عليه ليل نهار في بطن صندوق زجاجي . لقد تقوض الاتحاد السوفييتي في سرعة وجلاء عندما أتى الله بنيانهم من القواعد فخر عليهم السقف وذلك مآل كل من أراد أن يتأله في الأرض من الطواغيت من الدول والعقائد والفلسفات والجبابرة .

وكان الغزو العراقي للكويت قد جلب القوات الأمريكية والقوات المتحالفة معها إلى منطقة الخليج ( ما أشبه اليوم بالبارحة ) وجلب معه الجدل والنقاشات الحادة بجميع أشكالها وكنت حينئذ بعيدة عن بلدي الخليجي في بلد عربي ممن سموا حينئذ بدول الضد وكنت أتعرض بسبب بلادي وسحنتي لحصار من الأسئلة والإستفهامات وفي أحيان كثيرة للغضب والنهر والمحاكمة .

أما السبب المباشر ونقطة الإرتكاز الفعلية لتحولي عن طريق الغواية إلى طريق الهداية..
فكان ببساطة أخوات خليجيات طائعات ملتزمات التقيت بهن في هذا البلد الثالث يصغرنني سنا ويكبرنني فهما ويفقنني نقاء وطهرا، يرفلن بحلة من طمأنينة ويقين ويتحلين بخلق قويم من حياء وصدق وتقى عجيب ، يملكن هدفا حقيقيا ساميا لحياتهن القصيرة في هذه الدار الفانية ، هو ارضاء وجه الله والفوز بالدار الآخرة المستمرة الخالدة ، يثّمن أوقاتهن ويغنينها بالذكر والصوم وقيام الليل تدمع أعينهن الحيية لخشية الله ولصغائر الذنوب ، لا لفراق حبيب ولا لغضبة صديق ولا لشهوة من الشهوات ووهم من الأوهام ، يشتغلن بقول الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، يعلمن ما يقيم دنياهن من الأدلة النقلية : من قرآن متلو عن رب العزة رب السموات والأرض خالق كل شيء وهو على شيء قدير .

وإنني اليوم - أحمد الله إليكم - في خير حال، أعيش عيشة هنية رضية، عيشة ليس تخلو من المنغصات والمتاعب والأمراض التي تعتري البشر في هذه الدنيا ولكنني أواجهها بطمأنينة وفهم واحتساب - إن شاء الله -وقد أراد الله بي تطهيرا من بعض ما اقترفت فأصبت بمرض التدرن الرئوي ثم منّ الله علي فشفاني وتفضل علي رب العزة فاستعملني في الدعوة إليه حينا من الزمن قبل انشغالي بحياتي الأسرية .

نعم كنت مسلمة ، مسلمة بالاسم فحسب ، وما أكثر الذين نصادفهم في الشوارع والمكاتب والأحياء ونستقبلهم في بيوتنا ممن لهم أسماء إسلامية وينطقون الشهادتين ويحلفون- لو استحلفوا- بأنهم مسلمون .
فهل هم كذلك ؟

إنني لم أكن أعرف معنى التوحيد حقا وكنت أصلي وليس لصلاتي أدنى تأثير على مجريات حياتي ولا على مظهري ولا مخبري وكنت أنطق بالشهادتين وحياتي مليئة بنواقض الشهادتين لذلك فإنني أجد نفسي مجبرة على الاعتراف بأنها لم تكن مني توبة إلى الله فحسب بل كانت دخولا إلى الاسلام لأول مرة .


أختكم في الله
أم عمر
المصدر: خاص بإذاعة طريق الإسلام