(40) خانيونس لمن لا يعرفها

مصطفى يوسف اللداوي

دوَّى اسم خانيونس وبلداتها في الأيام القليلة الماضية كانفجار، وانتشر كلهب، وشاع عبر الأثير كنورٍ وضياء، وتداولته وسائل الإعلام كثورة، وأخرى كمجزرة، ولكن العالم سيبقى يذكره كلعنة، ووصمة عار، ودلالة ضعف، وعلامة عجز، وإشارة على اختلال المعايير، وتعدُّد المكاييل، والانتصار للظلم، والابتعاد عن الحق، ومناصرة الباطل، ومعاقبة الضحية، وسيحفظه الإسرائيليون كعِبرة وذكرى، وسيتعلَّمون منه درسًا، يبقى أثره فيهم حتى أجيالهم، أن الدم لا يقهر، وأن الروح لا تزهق، وأن الجذوة لا تخمد، وأن النار تبقى تحت الرماد، وأن الأمل لا يذوي، والقوة لا تخور، والضعف لا يدوم، وأن الثأر يورث، والانتقام لا يموت.

  • التصنيفات: أحداث عالمية وقضايا سياسية -

دوَّى اسم خانيونس وبلداتها في الأيام القليلة الماضية كانفجار، وانتشر كلهب، وشاع عبر الأثير كنورٍ وضياء، وتداولته وسائل الإعلام كثورة، وأخرى كمجزرة، ولكن العالم سيبقى يذكره كلعنة، ووصمة عار، ودلالة ضعف، وعلامة عجز، وإشارة على اختلال المعايير، وتعدُّد المكاييل، والانتصار للظلم، والابتعاد عن الحق، ومناصرة الباطل، ومعاقبة الضحية، وسيحفظه الإسرائيليون كعِبرة وذكرى، وسيتعلَّمون منه درسًا، يبقى أثره فيهم حتى أجيالهم، أن الدم لا يقهر، وأن الروح لا تزهق، وأن الجذوة لا تخمد، وأن النار تبقى تحت الرماد، وأن الأمل لا يذوي، والقوة لا تخور، والضعف لا يدوم، وأن الثأر يورث، والانتقام لا يموت.

خانيونس بينها وبين العدو الصهيوني ثأرٌ قديم، وحسابٌ لا يُنسى، فقد ارتكب في حق أبنائها خلال العدوان الثلاثي على مصر عام 1956م مجزرتين مروِّعتين، أودت بحياة أكثر من خمسمائة من أبنائها، رجالًا وشبابًا، ونساءً وأطفالًا، وأصاب بجراحٍ خطيرةٍ وطفيفة مئاتٍ آخرين، من سكان مخيم خانيونس وبلدة بني سهيلا، وما زال أهل هذه المدينة الصامدة يذكرون غدر العدو وخبثه، الذي دخل مناطقهم بعد وقف إطلاق النار، وانتهاء العمليات الحربية، ولكنه عدوٌ مسكونٌ بالغدر، ومجبولٌ بالخبث، فلا يتخلى عن طباعه، ولا ينسى سوء خلاله، فجمع المواطنين الآمنين العُزَّل، في المدارس والساحات، ثم أطلق جنود جيش العدو النظامي النار عليهم، وأعدم المئاتِ منهم بدمٍ باردٍ على الجدران وفي البيوت، وفي المدارس والساحات، في الوقت الذين كانوا لا يُشكِّلون عليه خطرًا، ولا يحمِلون سلاحًا.

في خانيونس وبلداتها قتل العدو الإسرائيلي عشرات الجنود المصريين، ونكَّل بهم أحياءً، ومثَّل بجثتهم بعد أن قتلهم، وكان يطاردهم ويبحث عنهم، ويُهدِّد المواطنين الفلسطينيين بقتلهم في حال مساعدتهم للجنود المصريين، ولكن سكان خانيونس الذين أثخن فيها العدو قتلًا، لم يُفرِّطوا في جنود مصر، بل أخفوهم ما استطاعوا، وقدَّموا لهم المساعدة ما أمكنهم، وزوَّدوهم بكل ما يحتاجون إليه، ولم يُسلِّموا جنديًا واحدًا، ولم يُفشوا سِرّهم، ولم يكشِفوا أمرهم، فاكتفى العدو بمن قتل منهم ومن سكان المدينة.

وفي عدوانه الجديد على قطاع غزة، ومحاولاته اقتحام محافظة خانيونس وتأديب أهلها، وتطويع مقاومتها، ارتكب العدو مجزرةً جديدةً وما زالًا ماضيًا في جريمته، مُصِرًا على فعلته، مستخدمًا كل قوته، بضراوةٍ وعنفٍ، وقسوةٍ وحقدٍ، وطوع في عدوانه سلاح الطائرات والدبابات والبحرية والمشاة، وسلاح الهندسة وفِرق القناصة.  

دماءٌ كثيرةٌ نزفت في محافظة خانيونس وبلداتها، وأرواحٌ عديدة قد أزهقت، في قصفٍ همجيٍ لا يتوقف، وغاراتٍ عمياء لا تميز، وقنصٍ حاقدٍ غادرٍ جبان، فارتقى فيها شهيدًا أطفالٌ وشيوخٌ ونساء، ودمَّر جيش العدوان الصهيوني المباني والمساجد وأعمدة الكهرباء، وخرب البساتين وحرق الأشجار، وحرث الأرض وجعل عاليها سافلها، ونبش الشوارع واستخرج باطنها، بحثًا عن الأنفاق، وخوفًا من المفاجئات، وتحسُّبًا لخروج رجال المقاومة من جوف الأرض كالأشباح.

استهدف جيش العدو الصهيوني بحقدٍ بلدات خانيونس المقاومة، التي أوجعته بمفاجأتها، وأربكته بعملياتها، وقد خسِر فيها العديد من جنوده، وبعضًا من خيرة ضباطه، وقد اعترف العدو أن ظهره في خانيونس قد انكسر، وأن عموده الفقري قد انحنى، بعد أن نالت المقاومة من خيرة فِرَقِه العسكرية الهجومية، وجوزته التي يفتخر بها أنها لا تنكسر، أغوز وجولاني وجفعاتي، إذ قدَّم جنودهم غرورًا، وقاتل بهم صلفًا، وظن أن النصر على أيديهم صبر ساعة، فاطمئن إلى قوة رجاله، وبأس جنوده، وكثافة نيرانه، وخبرة قادته، الذين رسموا كل القطاع، وأعدوا نماذج له، وتدربوا عليها طويلًا، ولكنهم على الأرض فوجئوا بجديد، وذهلوا من الغريب، الذي أفسد خططهم، وأربك عملهم، وأوقع بالكثير منهم قتلى وجرحى.

اليوم تقف خانيونس المدينة والمخيم، وعبسان الكبيرة والصغيرة، وبني سهيلا وخزاعة والقرارة، بسكانهم الذين يقتربون من ثلاثمائة ألف مواطنٍ، في مواجهة طاحونة الموت، وبركان اللهب، يتحدون طائرات العدو ودباباته التي تقذف حِممها قتلًا وخرابًا في كل مكانٍ من خانيونس وبلداتها، وهو لا يبالي من يقتل وكيف يقتل، ولا يُقلِقه السلاح الذي يستخدم، فقد قتل في هذه المعركة الجرحى والمسنين، والأطباء والمسعفين، وهدم البيوت على أهلها وتركهم تحت الأنقاض يموتون، ومن نجا منهم يُعيد قصفه، ويُطلِق عليه قذائف جديدة، ومن سار على قدميه أو نجا زاحفًا، فإن رصاص القناصة يطاله، ويُجهِز عليه ولو كان مصابًا أو يحمِل جريحًا، أو يحاول مساعدة مسنٍ أو إنقاذ طفلٍ أو امرأة.  

كثيرون هم سكان خانيونس الذين ما زالوا تحت الأنقاض، لكن أحدًا لا يستطيع الوصول إليهم، أو مساعدتهم للخروج من تحت الركام، إذ لا يسمح جيش العدو لطواقم الإسعاف ولا لذوي المصابين وأصحاب البيوت، بالدخول إلى المناطق المنكوبة لمساعدة المصابين والعالقين، والذين يلفظون أنفاسهم الأخيرة اختناقًا تحت الردم، كما ساق العدو العشرات من السكان بعد أن جرّدهم من ثيابهم، وأجبرهم على نزع أحذيتهم، وسيرهم رافعي أيديهم فوق رؤوسهم أسرى إلى مكانٍ لا يعرفه أحد، حيث لا يعرف المواطنون هل نقلهم جيش العدو إلى سجونه، أم أنه قتلهم وأعدمهم.

ظن العدو أن سكان خانيونس سيخافون وسيخضعون، وسيُسلِّمون وسيذعنون، وسيتخلون عن المقاومة وسيُفشون أسرارها، وسيكشفون أنفاقها، وسيفضحون طرق عملها، ووسائل انتقالها، وأماكن اختبائها، ومكامنها وملاجئها، ولكن سكان خانيونس، خيبوا آمال الإسرائيليين، وأفشلوا مخططاتهم، فلم يهربوا من بيوتهم، ولم ينقلبوا على مقاومتهم، ولم يخرجوا في مظاهراتٍ استنكارًا لها، أو رفضًا لوجودها، ولم يكشفوا عن أنفاقها، وهي أكثر ما يُخيف العدو ويُربكه، ويمنعه من التقدُّم والاقتراب، خوفًا من الرجال الذين يظهرون لهم فجأة، ويتقدَّمون إليهم بكل جرأة، ويُقاتلونهم وجهًا لوجه.

إنها خانيونس البحر، وبلداتها الزراعية، ومخيماتها الأصيلة، تأبى إلا أن تكون مِثالًا للفلسطينيين، ونموذجًا للمقاومين، وأهلًا للصابرين الصادقين، فلا تُسلِّم ولا تُفرِّط، ولا تفاوض ولا تساوم، بل تنتظر بشغفٍ الساعة التي تنتقم بها من العدو الإسرائيلي على جريمته الأولى قبل الأخيرة، ولعل ساعة الانتقام قريبة، ويوم النصر قادمٌ بإذن الله.

 

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام