(72) اسْتِخْرَاجِ الْمِيَاهِ مياه الآبار والعيون (3)

يكون ماؤها مشتركًا وحافرها فيه كأحدهم، قد وقف عثمان رضي الله عنه بئر رومة، فكان يضرب بدلوه مع الناس، ويشترك في مائها إذا اتَّسع شرب الحيوان وسقي الزرع.

  • التصنيفات: السياسة الشرعية -

الْبَابُ الْخَامِسَ عَشَرَ: فِي إحْيَاءِ الْمَوَاتِ وَاسْتِخْرَاجِ الْمِيَاهِ

 

اسْتِخْرَاجِ الْمِيَاهِ

مياه الآبار والعيون (3)

فصل: وأمَّا الآبار فلحافرها ثلاثة أحوال:

إحداها: أن يحفرها لسابلة فيكون ماؤها مشتركًا وحافرها فيه كأحدهم، قد وقف عثمان رضي الله عنه بئر رومة، فكان يضرب بدلوه مع الناس، ويشترك في مائها إذا اتَّسع شرب الحيوان وسقي الزرع، فإن ضاق ماؤها عنهما كان شرب الحيوان أولى به من الزرع، ويشترك فيها الآدميون والبهائم، فإن ضاق عنهما كان الآدميون بمائها أحق من البهائم.

والحالة الثانية: أن يحتفرها لارتفاقه بمائها كالبادية، إذا انتجعوا أرضًا وحفروا فيها بئرًا لشربهم وشرب مواشيهم، كانوا أحق بمائها ما أقاموا عليها في نجعتهم، وعليهم بذل الفضل من مائها للشاربين دون غيرهم، فإذا ارتحلوا عنها صارت البئر سابلة، فتكون خاصة الابتداء وعامة الانتهاء، فإن عادوا إليها بعد الارتحال عنها كانوا هم وغيرهم سواء فيها، ويكون السابق إليها أحق بها.

والحالة الثالثة: أن يحتفرها لنفسه ملكًا، فما لم يبلغ الحفر إلى استنباط مائها لم يستقر ملكه عليها، وإذا استنبط ماءها استقر ملكًا بكمال الإحياء، إلَّا أن يحتاج إلى طي، فيكون طيها من كمال الإحياء واستقرار الملك، ثم يصير مالكًا لها ولحريمها.

واختلف الفقهاء في قدر حريمها؛ فذهب الشافعي رحمه الله إلى أنَّه معتبر بالعرف المعهود في مثلها. وقال أبو حنيفة: حريم البئر للناضح خمسون ذراعًا.

وقال أبو يوسف: حريمها ستون ذراعًا، إلَّا أن يكون رشاؤها أبعد، فيكون لها منتهى رشائها. قال أبو يوسف: وحريم بئر العطن أربعون ذراعًا، وهذه مقادير لا تثبت إلَّا بنص، فإن جاءها نص كان متبعًا، وإلا فهو معلول، وللتقدير بمنتهى الرشاء وجه يصح اعتباره، ويكون داخلًا في العرف المعتبر، فإذا استقر ملكه على البئر وحريمها فهو أحق بمائها[1].

واختلف أصحاب الشافعي: هل يصير مالكًا له قبل استقائه وحيازته، فذهب بعضهم إلى أنَّه يجري على ملكه في قراره قبل حيازته؛ كما إذا ملك معدنًا ما فيه قبل أخذه، ويجوز بيعه قبل استقائه، ومن اتقاه بغير إذنه استرجع منه، وقال آخرون: لا يملكه إلَّا بعد الحيازة؛ لأنَّ أصله موضوع على الإباحة، وله أن يمنع من التصرف فيها باستقائه، فإن غلبه من استقاء لم يسترجع منه شيئًا، فإذا استقرَّ حكم هذه البئر في اختصاصه بملكها واستحقاقه لمائها فله سقي مواشيه وزرعه ونخيله وأشجاره، فإن لم يفضل عن كفايته فضل لم يلزمه بذلك شيء منه إلّا لمضطر على نفس.

وروى الحسن رحمه الله أن رجلًا أتى أهل ماء فاستسقاهم، فلم يسقوه حتى مات، فأغرمهم عمر رضي الله عنه الدية، وإن فضل منه بعد كفايته فضل لزمه على مذهب الشافعي أن يبذل فضل مائه للشاربة من أرباب المواشي والحيوان دون الزرع والأشجار.

وقال من أصحابه أبو عبيدة بن جرثومة: لا يلزمه بذل الفضل منه لحيوان ولا زرع.

وقال آخرون منهم: يلزمه بذله للحيوان دون الزرع، وما ذهب إليه الشافعي من وجوب بذله للحيوان دون الزرع هو المشروع. روى أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من منع فضل الماء ليمنع به فضل الكلأ منعه الله فضل رحمته يوم القيامة»[2].

وبذل هذا الفضل معتبر بأربعة شروط:

أحدها: أن يكون في قرار البئر، فإن استقاه لم يلزمه بذله.

والثاني: أن يكون متصلًا بكلأ، فإن لم يقرب منَ الكلأ لم يلزمه بذله.

والثالث: أن لا تجد المواشي غيره، فإن وجدت مباحًا غيره لم يلزمه بذله، وعدلت المواشي إلى الماء المباح، فإن كان غيره من الموجود مملوكًا لزم كل واحد من مالكي الماءين أن يبذل فضل مائه لمن ورد إليه، فإذا اكتفت المواشي بفضل أحد الماءين سقط الفرض عن الآخر.

الرابع: أن لا يكون عليه في ورد المواشي إلى مائه ضرر يلحقه في زرع ولا ماشية، فإن لحقه بورودها ضرر منعت، وجاز للرعاة استقاء فضل الماء لها، فإذا كملت هذه الشروط الأربعة لزمه بذل الفضل، وحرم عليه أن يأخذ له ثمنًا، ويجوز مع الإخلال بهذه الشروط أن يأخذ ثمنه إذا باعه مقدرًا بكيل أو وزن، ولا يجوز أن يبيعه جزافًا ولا مقدرًا بريّ ماشية أو زرع، وإذا احتفر بئرًا أو ملكها وحريمها، ثم احتفر آخر بعد حريمها بئرًا، فنضب ماء الأول إليها وغار فيها أقرّ عليها ولم يمنع منها، وكذلك لو حفرها لطهور فتغيّر بها ماء الأول أقرت، وقال مالك: إذا نضب ماء الأول إليها أو تغيَّر بها مُنِع منها وطُمَّت.

 

فصل: وأما العيون فتنقسم ثلاثة أقسام:

أحدها: أن يكون مما أنبع الله تعالى ولم يستنبطه الآدميون، فحكمها حكم ما أجراه الله تعالى من الأنهار، ولمن أحيا أرضًا بمائها أن يأخذ منه قدر كفايته، فإن تشاحوا فيه لضيقه روعي ما أحيي بمائها منَ الموات، فإن تقدَّم فيه بعضهم على بعض كان لأسبقهم إحياءً أن يستوفي منها شرب أرضه ثم لمن يليه، فإن قصر الشرب عن بعضهم كان نقصانه في حق الأخير، وإن اشتركوا في الإحياء على سواء ولم يسبق به بعضهم بعضًا تخاصوا فيه إمَّا بقسمة الماء وإمَّا بالمهايأة عليه.

والقسم الثاني: أن يستنبطها الآدميون فتكون ملكًا لمن استنبطها، ويملك معها حريمها، وهو على مذهب الشافعي معتبر بالعرف المعهود في مثلها، ومقدر بالحاجة الداعية إليها، وقال أبو حنيفة: حريم العين خمسمائة ذراع، ولمستنبط هذه العين سوق مائها إلى حيث

شاء، وكان ما جرى فيه ماؤها ملكًا له وحريمه[3].

والقسم الثالث: أن يستنبطها الرجل في ملكه، فيكون أحق بمائها لشرب أرضه؛ فإن كان قدر كفايتها فلا حق عليه فيه إلَّا لشارب مضطَّر، وإن فضل عن كفايته وأراد أن يحيي بفضله أرضًا مواتًا فهو أحق به لشرب ما أحياه، وإن لم يرده لموات أحياه بذله لأرباب المواشي دون الزرع كفضل ماء البئر، فإن اعتاض عليه من أرباب الزرع جاز، وإن اعتاض من أرباب المواشي لم يجز، ويجوز لمن احتفر في البادية بئرًا فملكها أو عينًا استنبطها أن يبيعها، ولا يحرم عليه ثمنها. وقال سعيد بن المسيب وابن أبي ذئب: لا يجوز له بيعها ويحرم ثمنها. وقال عمر بن عبد العزيز وأبو الزناد: إن باعها لرغبة جاز، وإن باعها لخلاء لم يجز، وكان أقرب الناس إلى المالك أحق بها بغير ثمن، فإن رجع الخالي فهو أملك لها.

__________

(1) وقال ابن قدامة المقدسي من الحنابلة: ومن حفر بئرًا في موات ملك حريمها، والمنصوص عن أحمد رضي الله عنه أنَّ حريم البئر البدي خمسة وعشرون ذراعًا من كل جانب، ومن سبق إلى بئر عادية فاحتفرها فحريمها خمسون ذراعًا من كل جانب؛ لما روي عن سعيد بن المسيب أنه قال: السنة في حريم البئر العادي خمسون ذراعًا، والبدي خمسة وعشرون ذراعًا، رواه أبو عبيد في الأموال، وروى الخلَّال والدارقطني عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه، وقال القاضي: حريمها ما تحتاج إليه في ترقية الماء منها كقدر مدار الثور إن كان بدولاب، وقد طوّل البئر إن كان بالسواني وحمل التحديد في الحديث، وكلام أحمد رضي الله عنه على المجاز، والظاهر خلافه، فإنه قد يحتاج إلى حريمها لغير ترقية الماء لموقف الماشية وعطن الإبل ونحوه، وأمَّا العين المستخرجة فحريمها ما يحتاج إليه صاحبها، ويستضر بتملكه عليه وإن كثر (الكافي في فقه ابن حنبل: [2/ 438]).

(2) صحيح: (رواه البخاري في كتاب المساقاة [2353]، ومسلم في كتاب المساقاة [1566]).

(3) انظر: ((المبسوط للسرخسي [23/ 162])، و(الإنصاف للمرداوي [6/ 371])).

 

الأحكام السلطانية للماوردي

الكتاب: الأحكام السلطانية

المؤلف: أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي، الشهير بالماوردي (المتوفى: 450هـ)

الناشر: دار الحديث  القاهرة

عدد الأجزاء: 1

[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي]

المصدر: المكتبة الشاملة