(3) اختلاف الهمم والشهوات والأماني

محمد بن إبراهيم الحمد

كِبَرُ الهمة وضعفها يمثلان لك الإنسانيةَ بالسلك الذي ينظم خرزاً كثيراً تباينت معادنها شرفاً وحِطَّةً، واختلفت مناظرها سماجةً وجمالاً.

  • التصنيفات: تزكية النفس -

يختلف الناس في هممهم وأمانيهم وشهواتهم، فمنهم من تسمو همته، ومنهم من تدنو، ومنهم من هو بين بين.
وفيما يلي أمثلة لذلك [1]:

1- اجتمع عبد الله بن عمر، وعروة بن الزبير، ومصعب بن الزبير، وعبد الملك بن مروان بفناء الكعبة؛ فقال لهم مصعب: "تمنوا"، فقالوا: "ابدأ أنت"، فقال: "ولاية العراق، وتَزَوُّجَ سكينةَ ابنة الحسين، وعائشة بنت طلحة بن عبيد الله"، فنال ذلك، وصدَّق كلَّ واحدةٍ خمسمائة ألف درهم، وجهزها بمثلها، وتمنى عروة بن الزبير الفقه، وأن يحمل عنه الحديث، فنال ذلك، وتمنى عبدالملك الخلافة فنالها، وتمنى عبد الله بن عمر الجنة!

2- قال قتيبة بن مسلم لحصين بن المنذر: "ما السرور؟ قال: امرأةٌ حسناء، ودارٌ قوراء [2]، وفرس مرتبط بالفناء".
3- قيل لضرار بن الحسين: "ما السرور؟ قال: لواء منشور، وجلوس على السرير، والسلام عليك أيها الأمير".
4- وقيل لعبد الملك بن الأهتم: "ما السرور؟ فقال: رفع الأولياء، وحطُّ الأعداء، وطول البقاء مع القدرة والنماء".
5- وقال آخر:
 

أطيبُ الطيباتِ قتلُ الأعادي *** واختيالٌ على متون الجياد
وأيادٍ حبوتهن كريماً *** إن عند الكريم تزكو الأيادي



6- قيل لبعض الحكماء: "تمنَّ"، قال: "محادثةَ الإخوانِ، وكفافاً من عيش يسد خلتي ويستر عورتي، والانتقال من ظل إلى ظل".


7- وقيل لآخر: "ما بقي من ملاذِّك؟" قال: "مناقلةُ الإخوانِ الحديثَ على التلاع العُفْر في الليالي القُمْرِ".
8- قيل لأمرئ القيس: "ما أطيب العيش؟" قال: "بيضاء رعبوبة [3] بالطيب مشبوبة [4]، بالشحم مكروبة [5]".
9- وقيل لطرفة مثل ذلك فقال: "مطعم شهيٌّ، وملبس دفيٌّ، ومركب وطيٌّ.

10- وقيل للأعشى مثل ذلك فقال: "صهباء صافيةٌ، تمزجها ساقية، من صوب غادية".
11- وقيل لمَلِكٍ: "ما السرور؟فقال: حمىً ترعاه، وعدوٌّ تنعاه".
12- وقيل لراهب: "ما السرور؟ قال: الأمان من الوجل إذا انقضت مدة الأجل".
13- وقيل لمظلوم: "ما السرور؟ قال: كفايةٌ ووطنٌ، وسلامةٌ وسكن".

14- وقيل لمغنٍّ: "ما السرور؟ قال: مجلسٌ يَقِلُّ هذرُه، وعودٌ يصفو وتره، وعقول تفهم ما أقول".
15- وقيل لورَّاق: "ما السرور؟ قال: جلودٌ وأوراق، وحبرٌ برَّاق، وقلمٌ مشَّاق".
16- وقيل لبعضهم: "ما السرور؟ قال: بنون أغيظ بهم عداتي، ولا تُقرع معهم صفاتي" [6].
17- وقيل لفتاة: "ما السرور؟ قالت: زوجٌ يملأ قلبي جَلالاً، وعيني جَمالاً، وفنائي جِمالاً".

18- وقيل لطفيلي: "ما السرور؟ فقال: ندامى تسكن صدورهم، وتغلي قدورهم، ولا تغلق دورهم".
19- وقيل لقانص: "ما السرور؟ فقال: قوس مأطورة [7]، وشُرعة مشزورة [8]، ونبال مطرورة" [9].
20- وقيل لمحبوس: "ما السرور؟ فقال: فكاك يَفْجَأ، وإطلاق لا يرزأ".

21- قال محمد الخضر حسين:

ولولا ارتياحي للنضال عن الهدى *** لفتَّشتُ عن وادٍ أعيش به وحدي[10]

22- وقال:

أنا لولا همةٌ تحدو إلى *** خدمة الإسلام آثرتُ الحماما

وهكذا تتفاوت الهمم، وتختلف الشهوات والأماني؛ فكلٌّ يعمل على شاكلته، ولكلِ وجهة هو موليها.

فَكِبَرُ الهمة وضعفها يمثلان لك الإنسانيةَ بالسلك الذي ينظم خرزاً كثيراً تباينت معادنها شرفاً وحِطَّةً، واختلفت مناظرها سماجةً وجمالاً [11].

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] انظر وفيات الأعيان وأنباء وابناء الزمان لابن خلكان:3/29ـ30، وانظر عيون الأخبار لابن قتيبة 1/258ـ259، وبهجة المجالس وأنس المجالس لابن عبد البر:1/117ـ127، وانظر المحاسن والمساوىء لإبراهيم البيهقي ص: 306-309، الفاضل في صفة الأدب الكامل لأبي الطيب محمد الوشاء ص:192ـ195، تحقيق د. يحيى الجبوري.

[2] دار قوراء: واسعة الجوف.
[3] الرعبوبة: البيضاء الحسنة الرطبة.
[4] مشبوبة: قد ظهر حسنها وأشرق لونها.
[5] المكروبة: المفتولة المشبوبة.
[6] الصفاة: الصخرة الملساء، يعني لا يمسني أحد بسوء.

[7] مأطورة: من أطرْت القوس إذا حنيتها فهي محنية.
[8] شرعة مشزورة: الوتر مشدود على القوس.
[9] نبال مطرورة: ذات طُرَّة وهيئة حسنة.
[10] خواطر الحياة لمحمد خضر حسين ص91.
[11] حياة الأمة لمحمد الخضر حسين ص32.

المصدر: كتاب: الهمة العالية