الميزان

سهام علي

الميزان هو قرين الحكمة والعدل والرحمة الأزليين كصفاتٍ للمولى عز وجل، والميزان ورد ذكره في عدة مراتٍ لفظيًا، أما ورده ضمنيًا فأكثر من أن يُحصى؛ فالقدر، والعدل، والقسط، والحساب، والجزاء، والدين... وغيرها من الألفاظ -سواءً كانت أسماءً أو أفعال- كلها معانٍ مُتعلِّقة بالميزان.

  • التصنيفات: الطريق إلى الله -

عندما تتبادر هذه الكلمة إلى الأذهان تتدافع إليها صورٍ ومعانٍ لا حصر لها.

فالميزان هو قرين الحكمة والعدل والرحمة الأزليين كصفاتٍ للمولى عز وجل، والميزان ورد ذكره في عدة مراتٍ لفظيًا، أما ورده ضمنيًا فأكثر من أن يُحصى؛ فالقدر، والعدل، والقسط، والحساب، والجزاء، والدين... وغيرها من الألفاظ -سواءً كانت أسماءً أو أفعال- كلها معانٍ مُتعلِّقة بالميزان.

ومن خلال التناول القرآني لهذه المعاني يمكن تتبُّع ثلاث صورٍ للميزان.

الصورة الأولى للميزان -بشقه المحسوس-:

هو التوازن الذي ميَّز هذا الكون بهذا الاتساق العجيب والإحكام الرائع والذي سيضمن له الاستمرار على هذا النحو البديع إلى أن يشاء الله، فهذا النظام الدقيق الذي لا يفارق ذرةً في ملك الله فيُعجِز أفهام العامة ويُذهِل عقول العلماء الذين كلما توصلوا لحقيقةٍ عِلمية جديدة زادتهم انبهارًا بهذا التوازن لكل شيءٍ خلقه المبدع العظيم... فهذه الأرض التي نحيا عليها مثلًا؛ ما كانت لتستقر لولا الجبال التي تحفظ لها توازنها والتي عبَّر عنها القرآن تارةً بالأوتاد وتارةً بالرواسي.

أما الهواء الموجود على سطحها والذي يُمثِّل أول مقومات الحياة؛ فمركّبٌ من غازاتٍ محسوبة النِّسب وإلا ما كان يصلح للتنفس، والتي يستهلكها مع النبات بالتبادل للمحافظة على هذه النسبة.

كذلك موقع الأرض من الشمس الذي لو تغيّر أدنى تغيير بالزيادة أو النقصان لاستحالت الحياة على الأرض، ونظام دوارنها الذي لو تعطَّل لأدّى إلى اتصال الليل دون نهار أو العكس.

 كذلك موقع الأرض من القمر الذي يُحدِّد حركة المد والجزر الذي لو تغيّر لاختل الوضع كله.

حتى في محيط الكائنات الحية بصفةٍ عامة؛ فهناك ما يُسمّى بالتوازن البيئي الذي لو اختلف لأربك نظام الحياة على الأرض، فكل كائن له دورٌ ووظيفةً يقوم بها لحفظ هذا التوازن.

والإنسان هو آية الآيات الدالة على هذا التوازن فالخالق سبحانه لم يخلُق البشر على شاكلة واحدة، وفي نفس الوقت لم يحظ أحدهم بكل شيءٍ ويحرم آخر من كل شيءٍ حتى يتحقّق التكامل الذي هو من دواعي التوازن.

أما الصورة الثانية:

فهي للميزان الذي وضعه الحكيم العليم للبشر ليُحدِّد التكاليف والحقوق والواجبات ليكون دستورًا يحكم حياتهم؛ فلو أن الله تعالى وكَّل أمر البشر لأنفسهم دون أن يضع الضوابط الشرعية إلى جانب الضوابط الفطرية لعمّت الفوضى ثم كان الفناء.

فإرسال الرسل بما حملوه معهم من الشرائع لتحديد علاقة الإنسان بربه، وبالكون، وبالآخرين.. إنما قام على الميزان، قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد من الآية:25]. 

فلما بلغت البشرية أوج نُضجِها الفكري أرسل الله تلك المعجزة الخالدة لكل بني آدم إلى قيام الساعة، والمتمثلة في قرآنه العظيم الذي رافقه الميزان في كل حرف، وليس المقصود بذلك من الناحية اللغوية الإبداعية كما شَهِد بذلك حتى الكفار من أهل الجاهلية أو القلة المُلهمة من علماء اللغة في عصرنا؛ بل من نواحٍ متعدِّدة فالقرآن بحقٍ هو كلام الله المُعجَز الذي يُخاطِب أنواعًا مختلفةً من البشر كلٌ بحسب زاوية استقباله، فمن يتغلّب فيه الجانب الروحي؛ فهو يُدرِك بفطرته السوية أن لا بد لهذا الكون من خالقٍ رحمنٌ رحيمٌ لطيفٌ يرعاه ويحفظه ويجعل ميزانه ضابِطًا له من أي ظلمٍ أو جور.

ومن يتغلّب فيه جانب العقل والمنطق فبأقل تتبُّع لأحكامه وتكاليفه في العبادات والمعاملات؛ يرى نظامًا عبقريًا لم تستطع ألمع عقول البشر مجتمعة إيجاد نظام يُحقِّق أقل القليل مما يُحقِّقه هذا النظام إذا ما وضع موضع التطبيق، وكيف أن هذا النظام يتعامل مع الإنسان بعنصريه الروحي والمادي بشكلٍ لم ولن يكون له نظير، وكيف أن هذا النظام ذاته يُعلِّم الإنسان استخدام الميزان.

أما من كانت اتجاهاته عِلمية فهم الأشد انبهارًا لما أخبر به القرآن من حقائقٍ عِلمية لم تُتَح معرفتها إلا حديثًا من خلال الطفرة الحادثة في المجالات العلمية باختلاف أنواعها.

أما الصورة الثالثة:

هي تلك التي تُطِل علينا من عالَم الغيب -كما أخبر بها القرآن والسنة- وهي الصورة المثيرة للهلع؛ وهي صورة لميزان العدل الإلهي المُطلَق، الميزان الذي يُحاسِب على السرائر والنوايا - فليس كل من قُتِل في النار، وليس كل من سجد في الجنة..

ذلك الميزان الذي يُوازِن ما وهب الإنسان من نعمٍ وما قدَّمه من قرباتٍ لله، فالتفاوت في النعم وفي الأرزاق بين العباد لم يكن عبثًا، فقد قال الله تعالى: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} [التكاثر:8].