(36) أسباب اكتساب الهمة العالية (19)

محمد بن إبراهيم الحمد

الشجاعة لا تقتصر على الإقدام في ميادين الوغى، بل هي أعم من ذلك، فتشمل الشجاعة الأدبية في التعبير عن الرأي، وبالصدع بالحق، وبالاعتراف بالخطأ، وبالرجوع إلى الصواب إذا تبين -ونحو ذلك مما سيمر بنا- وليس من شرط الشجاعة ألا يجد الرجل في نفسه الخوف جملة من الهلاك، أو الإقدام، أو نحو ذلك، فذاك شعور يجده كل أحد من نفسه إذا هو همَّ بعمل كبير أو جديد.

  • التصنيفات: تزكية النفس -

49- الشجاعة والإقدام وإطراح المبالغة في تعظيم شأن الخوف:
فالشجاعة فضيلة عظيمة، وخصلة من خصال الخير عالية، فهي من أعظم مقومات الهمة، ومن أهم أسباب اكتسابها.

فالشجاع يخاف من العار الذي يلحقه من احتمال الضيم، أو يرغب في أن يدرك مجداً شامخاً، فيقوده ذلك إلى أن يلقي بنفسه في مواقع الدفاع، لا يلوي جبينه عن طعان أو نضال، والأمة لا تحوز مكانة يهابها خصومها، وتقر بها عين حلفائها إلاَّ أن تكون عزيزة الجانب، صلبة القناة، وعزة الجانب، وصلاة القناة لا ينزلان إلاَّ حيث تكون قوة الجأش، والاستهانة بملاقاة الماره، وذلك ما نسميه شجاعة [1]، "وحد الشجاعة بذل النفس للموت عن الدين، والحريم، وعن الجار المضطهد، وعن المستجير المظلوم، وعن الهضيمة ظلماً في المال، والعرض، وفي سائر سبل الحق" [2].

والشجاعة لا تقتصر على الإقدام في ميادين الوغى، بل هي أعم من ذلك، فتشمل الشجاعة الأدبية في التعبير عن الرأي، وبالصدع بالحق، وبالاعتراف بالخطأ، وبالرجوع إلى الصواب إذا تبين ونحو ذلك -مما سيمر بنا- وليس من شرط الشجاعة ألا يجد الرجل في نفسه الخوف جملة من الهلاك، أو الإقدام، أو نحو ذلك، فذاك شعور يجده كل أحد من نفسه إذا هو همَّ بعمل كبير أو جديد.

بل يكفي في شجاعة الرجل ألا يعظم الخوف في نفسه حتى يمنعه من الإقدام، أو يرجع به إلى الانهزام.
قال هشام بن عبد الملك لمسلمة: "يا أبا سعيد، هل دخلك ذعر قط لحرب أو عدو؟"
قال مسلمة: "ما سلمت في ذلك من ذعر ينبه على حيلة، ولم يغشني فيها ذعر سلبني رأيي".
قال هشام: "هذه هي البسالة" [3].

بل إن أشجع الشجعان يجدون في أنفسهم ذلك الشعور إذا هم خاضوا المعمعان، وغشوا ساحات الوغى.
لكن ذلك لا يحملهم على الإحجام والانهزام، فهذا عمرو بن معدي كرب [4]، الزبيدي -وحسبك به شجاعة وإقداماً- يصف نفسه، ويصور حالته في ساحة الوغى، ويبين أن الخوف يداخله، ولكن لا يحمله على الفرار والإحجام، فلا ينقص ذلك من قدره، ولا ينزل من مكانته، حيث يقول:   
 

ولقد أجْمَعُ رِجْلَيَّ بها *** ولقد أعْطِفُها كارهةً
كل ما ذلك مني خلقٌ ***حَذَرَ الموتِ وإني لفرورْ
حين للنفس من الموت هريرْ *** وبكلٍّ أنا بالروع جديرْ[5]


فالشجاعة إذاً هي مواجهة الألم أو الخطر أو نحو ذلك عند الحاجة في ثبات، وليست مرادفة لعدم الخوف كما يظن بعض الناس، فالذي يرى النتائج، ويخاف وقوعها، ثم يواجهها في ثبات رجل شجاع، فالقائد الذي يقف على خط النار، فترتعد لذلك فرائصه؛ خشية من نزول الموت به، ثم يضبط نفسه، ويؤدي عمله كما ينبغي هو رجل شجاع، بل هو شجاع -أيضاً- إذا رأى أن خير عمل يعمله أن يتجنب الخطر، وأن الواجب يقضي عليه أينسحب بجنوده حيث لا خطر..

فإذا هو أضاع في موقفه رشده، أو ترك موقفاً يجب أن يقفه، أو فر بجنوده من خطر كان عليه أن يقفه فهو جبان، فالشجاعة لا تعتمد على الإقدام والإحجام فحسب، ولا على الخوف وعدمه، وإنما تعتمد على ضبط النفس، وعمل ما ينبغي في الوقت الذي ينبغي، قال عمرو بن العاص لمعاوية رضي اللَّه عنهما: "لقد أعياني أن أعلم: أجبان أنت أم شجاع؟ فقال:  

شجاعٌ إذا ما أمكنتني فرصةٌ *** وإلا تكن لي فرصة فجبان"[6]


بل ليس بالمحمود أن يتجرد الإنسان من كل خوف؛ فقد يكون الخوف فضيلة، وعدمه رذيلة؛ فالخوف عند الإقدام على أمر مهم تتعلق به مصالح الأمة، أو يحتاج إلى اتخاذ قرار حاسم فضيلة وأي فضيلة؛ إذ هو يحمل على الروية، والتأني، والتؤدة، حتى يختمر الرأي، وينضج في الذهن [7]؛ فلا خير في الرأي الفطير، ولا الكلام القضيب [8]، والعرب تقول: "الخطأ زاد العَجُول" [9]، كما أنها تمدح من يتريث ويتأنى، ويقلب الأمور ظهراً لبطن، وتقول فيه: "إنه لَحُوَّلٌّ قُلَّبٌ" [10]، ولهذا ما زال الحكماء ينصحون الناس ألا يقدموا على مواقع الخطر إلاَّ أن تكون فائدة الإقدام أكبر من خسارته.

قال أبو الطيب المتنبي:

الرأي قبل شجاعة الشجعانِ *** وإذا هما اجتمعا لنفس حُرَّةٍ


وقال:

هو أول وهي المحل الثاني *** حازت من العلياء كل مكان[11]
وكل شجاعة في المرء تغني *** ولا مثل الشجاعة في الحكيم[12]


وإنما الجبن المذموم، والخوف المرذول، هو ما بالغ صاحبه فيه مبالغة تخرجه عن طوره، فهذا هو خوف الجبان الرعديد، الذي يغلب جانب الشر، ويخشى سوء عواقبه، أما الشجاع فلا يفكر كثيراً في احتمال الشر، ثم إذا وقع لم يطر قلبه شعاعاً، بل يصبر، ويتحمله بثبات؛ إن مرض لم يضاعف مرضه بوهمه، وإن نزل به مكروه قابله بجأش رابط فخفف شدته، فمن الحكمة والعقل ألا يجمع الإنسان على نفسه بين الألم بتوقع الشر، والألم بحصول الشر؛ فليسعد ما دامت أسباب الحزن بعيدة عنه؛ فإذا حدثت فليقابلها بشجاعة واعتدال.

قال أبو علي الشبل:

ودع التوقع للحوادث إنه *** للحي من قبل الممات ممات[13]


وبالجملة فالشجاع ليس بالمتهور الطائش الذي لا يخاف مما ينبغي أن يخاف منه نولا هو بالجبان الرعديد الذي يفرق من ظله، ويخاف مما لا يخاف منه [14]، ثم إن الشجاعة ليست هو قوة البدن؛ فقد يكون الرجل قوي البدن ضعيف القلب، وإنما هو قوة القلب وثباته، والمحمود منها ما كان بعلم ومعرفة، دون التهور الذي لا يفكر صاحبه، ولا يميز بين المحمود والمذموم، ولهذا كان القوي الشديد هو الذي يملك نفسه عند الغضب حتى يفعل ما يصلح دون ما لا يصلح، فأما المغلوب حين غضبه فليس بشجاع ولا شديد [15]، هذا ومما يعين على اكتساب الشجاعة، واطراح المبالغة في تعظيم شأن الخوف -زيادة على ما مضى- ما يلي..

أ- الدربة، والمران، والتعود:
فإن قلة الإلف لأمر من الأمور- تقود إلى الجبن؛ فالإنسان إذا لم ير الشيء ويألفه يجبن أمامه، كالطالب إذا لم يتعود الخطابة، فإن هو حاول تهدج صوته، وجف ريقه، وارتعشت أطرافه، وكذلك من لم يتعود غشيان المجالس، ومخالطة الناس- فإنه يخاف منهم، ويلجئه الخوف إلى إيثار العزلة، فإذا هو اضطر يوماً إلى الاجتماع بهم علاه الخجل، وزاد ارتباكه واضطربت حركاته، وثقل على الناس، وثقلوا عليه، وعلاج ذلك يكون بالدربة، والمران، والتعود، والممارسة، فلا يزال يتكلف الخطابة حتى يصير خطيباً، والجرأة حتى يصير جريئاً [16].
قال البارودي:    

واعْتَدْ على الخير، فالموفق من *** هذَّبه الاعتياد والدَّرَبُ[17]


ب- توطين النفس على وقوع المكروه، والحذر من تضخيم النتائج: فمما يفيد في هذا الباب أن يفرض وقوع المكروه، ثم يهونه ويوطن نفسه على احتماله، ثم يشرع في إنقاذ ما يمكنه إنقاذه، فلو تصور أنه خطب ولم يجد، وانتقده السامعو، ثم صغر النتيجة وهونها، وقال في نفسه: كل خطيب معرض لمثل ذلك لتشجع ولم يجبن، بل ربما أصبح فيما بعد خطيباً مصقعاً، لا تقيده حبسه، ولا يثنيه جماح، وكذا لو قرر الأطباء أن تعمل له عملية جراحية فقدر الموت، واستصغره- لقابل الأمر بثبات وهكذا [18]، قال ابن حزم: "وطن نفسك على ما تكره يقل همك إذا أتاك، ويعظم سرورك ويتضاعف إذا أتاك ما تحب مما لم تكن قدرته" [19].

ج- النظر في العواقب: وذلك بأن ينظر إلى عواقب كل من الجبن والشجاعة، فإذا ظهر له أن ما يصل إليه من الخير إن هو تشجع أعظم مما يصل إليه من الجبن استحثه ذلك على الشجاعة، فمن جبن عن أن يرحل عن بلده لطلب رزق أو علم فلينظر في الأمر، فسيرى أن من المحتمل أن يصيبه مرض في رحلته، وأنه قد يموت في أرض غربته.

ولكن من المؤكد أنه إذا لم يرحل ضاق رزقه، أو قل علمه، أو كان جبانا، أو جاهلاً حتماً.
فالنظر في العواقب قد يحمل المرء على أن يكون شجاعاً، لا سيما إذا علم أن ليست الحياة بنبض القلب، ولا بالأكل والشرب، وإنما هي بالعمل الجاد، والإفادة والاستفادة، وإلا أصبح الإنسان من سقط المتاع لا قيمة له عند أحد.

وما للمرء خير في حياة *** إذا ما عد من سقط المتاع


قال أعرابي من باهلة:   

فَلَلْمَوْتُ خيرٌ من حياة يُرى لها *** على الحر بالإقلال وسم هوان[20]


ولهذا كانت عناية القرآن بخصلة البطولة والإقدام؛ حيث أقبل على النفوس، وأخذ ينقيها من رذيلة الجبن والإحجام، ويذكرها بسوء عاقبة الجبناء، كقوله تعالى: {كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً} [التوبة:8]، فقد أشارت الآية إلى أن عاقبة الجبناء أن يبتلوا بذي قوة لا يعرف للعهد حرمة، ولا يقيم للعدل وزناً.
ومن الذي يرتاب أن الموت في مواطن البطولة أشرف من حياة يغمرها الذل والهوان؟ [21]
قال أبو الطيب المتنبي:

غير أن الفتى يلاقي المنايا *** وإذا لم يكن من الموت بد
كالحات ولا يلاقي الهوانا *** فمن العجر أن تموت جبانًا[22]


د- اطراح المبالاة بكلام الناس: فذلك هو باب العقل والراحة كلها، كما قال ابن حزم [23].
ولا يعني اطراح المبالاة بكلام الناس أن يتقصد المرء مخالفة الناس، وأن يعمد إلى مخاشنتهم، والإغلاظ عليهم؛ لأن الحكمة تقتضي مداراة الناس، ومعرفة أحوالهم، ونزالهم منازلهم؛ فالحكيم الحازم العاقل يزن عقول من يلاقونه، ويحس ما تكن صدورهم، وتنزع إليه نفوسه م، فيصاحبهم وهو على بصيرة مما وراء ألسنتهم من عقول، وسرائر، وعواطف، فيتيسر له أن يسايرهم إلاَّ أن ينحرفوا عن الرشد، ويتحامى ما يؤلمهم إلاَّ أن يتألموا من صوت الحق [24]. فإذا قام المرء بما تقتضيه الحكمة- فليقدم على ما قصد إليه دونما التفات أو مبالاة بكلام أحد؛ فلا لوم ولا تثريب عليه حينئذ.

هـ- أن يستحضر المرء أنْ لا سلامة من الناس: فالسلامة من الناس عزيزة المنال، خصوصاً إذا كان المرء ممن يتصدر ويقوم بجلائل الأعمال.

قال ابن حزم: "من قدر أنه يسلم من طعم الناس وعيبهم فهو مجنون" [25].
فإذا كان الأمر كذلك كان حرياً بالمرء ألا يعظم شأن الناس في قلبه، وألا يجعل مراقبتهم والخوف من ثلبهم وعيبهم حائلاً بينه وبين تحقيق مآربه النفاعة لهن ولأمته، ووطنه.

قال بشار بن برد:   

من راقبَ الناسَ لم يظفرْ بحاجته *** وفاز بالطيباتِ الفاتِكُ اللَّهِجُ[26]

وقال سلم الخاسر:  

من راقب الناس مات همَّاً *** وفاز باللذةِ الجسورُ[27]


وبالجملة فاحرص على أن تركز جهدك، وتستفرغ طاقتك في العمل الذي تراه صواباً، ثم بعد ذلك أدر ظهرك، وصم أذنيك عن كل ما ينالك من لوم اللائمين، ونقد الظالمين، الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون.
ومما يعينك على ذلك أن تستشعر أن كلام الناس لا يضرك أبداً إلاَّ إذا اشتغلت به، وأن تتذكر جيداً، بأن النقد الظالم إنما هو اعتراف ضمني بقدرتك وعلو كعبك؛ فبقدر ذلك يكون النقد الموجه إليك، ثم اعلم علم اليقين بأن الناس لا يشغلهم أمرك كثيراً؛ فهم مشغولون بأنفسهم في غالب أمرهم؛ فأدنى شيء يحدث لهم ينسيهم ما سمعوه عنك [28].

و- معرفة قدر النفس: وذلك بأن يعرف المرء قدر نفسه، فلا يقدم على عمل إلاَّ وهو عالم بقدرته عليه، ولا يكلف نفسه إلاَّ ما تطيقه؛ "فالذي يقدر نفسه فوق قدرها إنما يرهقها، والذي يقدر نفسه أقل من قدرها إنما يضيع إمكاناتها سدى.

وأما الذي يقدر نفسه حق قدرها فإنها يضعها في مكانها دون إرهاق لطاقتها، ودون إهدار لمميزاتها" [29].
قال ابن الجوزي: "ينبغي للعاقل ألا يقدم على العزائم حتى يزن نفسه هل يطيقها، ويجرب ركوب بعضها سراً من الخلق، فإنه لا يأمن أن يرى في حالة لا يصبر عليه أن فيفتضح" [30].

ز- أن يستحضر أن الأخفاق لا يضر: فإذا أخفق المرء في بداية أمره مرة أو أكثر- فلا ينزعج لذلك، وليعد الكرة بعد الكرة، وليعلم أن الإخفاق طريق النجاح، ون الخطأ طريق الصواب؛ فليسي الإخفاق عاراً إذا كنت بذلت جهدك بإخلاص، ولا يعد المرء مخفقاً حتى يتقبل الهزيمة كأنها دائمة ويتخلى عن المحاولة؛ فهذا أديسون مخترع المصباح الكهربائي أخفق عشرة آلاف مرة قبل أن يصنع المصباح؛ فلا تقلق إذا أنت أخفقت مرة أو أكثر [31].

ح- الثقة بالنفس: وذلك بألا يقتصر على تذكر جوانب الضعف فيها؛ لأن ذلك يقود إلى المبالغة في احتقارها، وبالتالي تحجم ولا تقدر، بل يتذكر مع ذلك جوانب القوة والإبداع فيها؛ حتى تنبعث إلى الإقدام، وتكتسب شيئاً من الهدوء والثقة،قال الرافعي: "الذي يحيا بالثقة تحييه الثقة" [32].

ط- أخذ الأهبة والاستعداد: فإذا أراد أن يتكلم في مجمع -على سبيل المثال- فليقم بأخذ الأهبة والاستعداد؛ حتى لا يرتج عليه، خصوصاً إذا كان في بداياته؛ فإن التقصير بالأخذ بالأسباب مما يضعف المرء ويربكه، ومما ينفع في ذلك إراحة الجسم؛ ذلك أن الخوف يتبع التعب الذي ينال المجموع العصبي، كالذي ينال الشخص عقب مجهود كبير بذله، أو تفكير طويل فكره، أو حادثة جليلة هزته؛ فهذه الأشياء وأمثالها تضعف المجموع العصبي، فإذا أخذ الجسم قسطاً من الراحة استرد الإنسان راحته، وزال خوفه [33].
فإذا هو قام بالأسباب فليتوكل على اللَّه، وليفوض الأمر إليه.

ي- الإيمان بالقضاء والقدر والتسليم لله في الأمر: فالإيمان بالقضاء والقدر يقتضي أن يوقن العبد بان ما أخطأه لم يكن ليصيبه، وما أصابه لم يكن ليخطئه، وهذا يبعثه إلى أن يقدم غير هياب ولا مبال بما سيناله، فإذا كتب اللَّه له حياة فلن تفوته وإن وقف في جفن الردى، وإن كتب له موتاً فلن يفوته أو يفلت منه ولو كان في بروج مشيدة؛ فما يغني الفرار، وما يضر الإقدام؟

يروى عن أمير المؤمنين على بن أبي طالب قوله:

أي يومي من الموت أفر *** يوم ما قدر لا أرهبه
يوم لا يقدر أو يوم قدر *** وإذا قدر لا ينجي الحذر[34]


وكان معاوية يتمثل بهذين البيتين:     

كأن الجبان يرى أنه *** وقد تدرك الحادثات الجبان
سيقتل قبل انقضاء الأجل *** ويسلم منها الشجاع البطل[35]


قال ابن القيم: "والذي يحسم مادة الخوف هو التسليم لله؛ فمن سلم لله، واستسلم له، وعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وعلم أنه لن يصيبه إلاَّ ما كتب له لم يبق لخوف المخلوقين في قلبه موضع أيضاً؛ فإن نفسه التي يخاف عليها قد سلمها إلى وليها ومولاها، وعلم أنه لا يصيبها إلاَّ ما كتب لها، وأن ما كتب لها- لا بد أن يصيبها؛ فلا معنى للخوف من غير اللَّه بوجه، وفي التسليم -أيضاً- فائدة لطيفة، وهي أنه إذا سلمها لله فقد أودعها عنده، وأحرزها في حرزه، وجعلها تحت كنفه، حيث لا تنالها يد عدو عاد، ولا بغي باغ عات" [36].

ك- الصبر عند الصدمة الأولى: فإذا كان الإنسان في أول الطريق للخطابة، أو للحروب أو نحو ذلك، فإنه يحتاج إلى الصبر عند الصدمة الأولى، لأنه معرض للإخفاق، فإذا صبر في بداية الأمر هان عليه استدراك ما مضى.
وأما إذا أيس وترك الأمر من بدايته فإنه لن ينال مجداً ولا رفعة.

ل- الخطار بالنفس: فهذا مما تنال به الشجاعة، ويطرح فيه الجبن، فقد يحتاج إليه الإنسان في بعض الأحايين، فالتاجر قد يحتاج غليه، والمتكلم والمحارب كذلك.. قال معاوية لعمرو بن العاص رضي اللَّه عنهما: "من طلب عظيماً خاطر بعظيمة" [37]، وكان عمرو يقول: "عليكم بكل أمر مزلقة مهلكة" أي عليكم بجسام الأمور [38].

وقال كعب بن زهير:    

وليس لمن لم يَرْكبِ الهولَ بُغيةٌ *** إذا أنت لم تُقْصِرْ عن الجهل والخنا
وليس لرحلٍ حطَّه اللَّه حاملُ *** أصبت حليماً أو أصابك جاهل[39]


وقال آخر:    

الذلُّ في دعةِ النفوس ولا أرى *** عزَّ المعيشةِ دون أن يسعى لها[40]


وقال آخر:    

لا بد أن أركَبَها صعبةً *** أُجْهِدُها أو تنثني دونه
إما فتى نال المنى فاشتفى *** وقَّاحةً تحت غلام وَقَاح
دون الذي أمَّلت أو بالنجاح *** أو بطل ذاق الردى فاستراح[41]


وقال علي بن المقرب العيوني:     

سأمضي على الأيم عزم ابن حُرّةٍ *** فإما حياة لا تُذمُّ حميدةٌ
أنال المنى فيها وإما مَنيَّةٌ *** يرى العَوْدَ فيما تكره النفس أحمدا
يُحدِّث عنها من أغار وأنجدا *** تريح فؤاداً أحَّ[42] من غُلَّة الصدى[43]


م- التقوى: فتقوى اللَّه عز وجل هي أعظم باعث على الشجاعة؛ لأن من عرف ربه، وقدره حق قدره، وعظم وقاره وجلاله في قلبه هانت عليه الدنيا، وزال من قلبه مهابة الخلق، وانقلبت في حقه المخاوف أمناً، فالتقوى هي العدة في الشدائد، والعون في الملمات، وهي متنزل السكينة، ومهبط الروح والطمأنينة، وهي مبعث القوة واليقين، ومعراج السمو إلى السماء، وهي التي تثبت الأقدام في المزالق، وتربط على القلوب في الفتن [44].

قال الشيخ محمد الخضر حسين: "ومن تفقه في التقوى عرف أنها الوسيلة الكبرى للعظمة الصادقة، فإنها بذل الإنسان جهده وسعيه في طرق الفلاح، ومن تقوى الرجل الذي رزق ألمعية متوقدة، وهمة سامية أن يقتحم الأخطار، ويقذف في نفسه في معالي الأمور، فإذا هو في جلال وعظمة، وإن لم يجد الزهو والكبر إلى نفسه منفذاً" [45].

ن- الإكثار من ذكر اللَّه: فبذكر اللَّه تطمئن القلوب، وتسكن النفوس.
قال تعالى: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28].
وبذكر اللَّه يقوى القلب، ويغلب العدو، وتهون الصعاب.
ولهذا أرشدنا اللَّه تبارك وتعالى إذا لقينا العدو أن نثبت وأن نذكره عز وجل لما في ذكره من الطمأنينة والثبات.

قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال:45].
قال ابن القيم في معرض حديثه عن فضائل الذكر: "إن الذكر يعطي الذاكر قوة، حتى إنه ليفعل مع الذكر ما لم يظن فعله بدون هن وقد شاهدت من قوة شيخ الإسلام بن تيمية في سننه، وكلامه، وإقدامه أمراً عجيباً، فكان يكتب في اليوم من التصنيف ما يكتبه الناسخ في جمعة وأكثر، وقد شاهد العسكر من قوته في الحرب أمراً عظيماً" [46].

وأفضل الذكر بعد القرآن تلك الكلمات الأربع: سبحان اللَّه، والحمد لله، ولا إله إلاَّ اللَّه واللَّه أكبر.
وكذلك: لا حول ولا قوة إلاَّ باللَّه؛ فلها أثر عظيم في شجاعة القلب وثباته.
قال ابن القيم عن هذه الكلمة العظيمة: "وهذه الكلمة لها تأثير عجيب في معاناة الأشغال، والدخول على الملوك، ومن يخاف، وركوب الأهوال ولها أيضاً تأثير في دفع الفقر" [47].

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1]- انظر: رسائل الإصلاح 1/77.
[2]- الأخلاق والسير لابن حزم ص32.
[3]- رسائل الإصلاح 1/78.
[4]- انظر شعر عمرو بن معدي كرب الزبيدي لمطاع الطرابيشي.
[5]- الشعر والشعراء لابن قتيبة ص82.
[6]- عيون الأخبار 1/163.
[7]- انظر: الأخلاق ص205-206.
[8]- الرأي الفطير: هو الذي لم ينضج ، والكلام القضيب: هو المرتجل. انظر زهر الآداب للحصري القيرواني 1/154.

[9]- مجمع الأمثال للميداني 1/432.
[10]- الأمثال لأبي عبيد ص100.
[11]- ديوان المتنبي 4/174.
[12]- ديوان المتنبي 4/120.
[13]- صيد الخاطر 2/339.
[14]- انظر: الأخالق ص205-206 ، وفيض الخطر 2/205 ، والمسؤولية ص31-32.
[15]- انظر: الاستقامة لابن تيمية 2/271.
[16]- انظر: الأخلاق ص210.
[17]- ديوان البارودي ص79.
[18]- انظر: الاخلاق ص211.
[19]- الأخلاق والسير ص26 ، وانظر صيد الخاطر 1/110-111 ، ودع القلق ص35-44.

[20]- عيون الأخبار: 1/239.
[21]- انظر: الهداية الإسلامية ص39.
[22]- ديوان المتنبي 4/241.
[23]- انظر: الأخلاق والسير ص17.
[24]- انظر: رسائل الإصلاح 1/95.
[25]- الأخلاق والسير ص17.
[26]- ديوان بشار بن برد ص60.
[27]- بهجة المجالس 1/122.
[28]- انظر دع القلق ص224-230.
[29]- أنت وقدراتك تأليف فرجينيا بيلارد ، ترجمة د. عطية محمود هنا ، إشراف ومراجعة وتقديم د. عبدالعزيز القوصي ص7.

[30]- صيد الخاطر 2/243.
[31]- انظر طاقاتك الكامنة ، سمير شيخاني ص271.
[32]- وحي القلم 1/232 ، وانظر قوة الإرادة وطرق تنميتها ص23.
[33]- انظر فيض الخاطر 10/223.
[34]- ديوان الإمام علي ص79-80.
[35]- بهجة المجالس 2/480.
[36]- مدارج السالكين 2/32.
[37]- عيون الأخبار 1/231.
[38]- عيون الأخبار 1/231.
[39]- ديوان كعب بن زهير ص134.

[40]- عيون الأخبار 1/232.
[41]- أدب الطلب للشوكاني ص129.
[42]- أحَّ: سعل، والصدى: العطش.
[43]- علي بن المقرب العيوني حياته ، شعره ص322.
[44]- انظر: عيون البصائر ص291.
[45]- العظمة ص15-16.
[46]- الوابل الصيب لابن القيم ص106.
[47]- الوابل الصيب لابن القيم ص107. 

المصدر: كتاب: الهمة العالية