سجية التميز

منذ 2015-02-15

إن أعظم رجال التاريخ لم يكونوا بحاجة إلى جميع الصفات ليصبحوا قادة بارزين، وليس يضرهم أبداً أن يضعفوا في جانب أو تنقصهم صفة أو يعانوا من فقد لبعض أجزاء الشخصية التي كان يتمتع بها الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام -. ومن فضل هؤلاء أن ما يعانونه من صفاتهم الجبلّية لا يجنح بهم إلى السقوط أو تعدي حدود الله، بل إن من عظمتهم أنهم يحاولون جاهدين توظيف هذا النقص لخدمة الدين ونصرة الحق.

لما قام أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - يخطب للخلافة حذّر الناس من صفة كانت فيه يخشى على الناس وعلى نفسه منها فقال لهم: «واعلموا أن لي شيطاناً يعتريني، فإذا رأيتموني غضبت فاجتنبوني لا أؤثر في أشعاركم وأبشاركم» وقال عمر - رضي الله عنه - في خطبة الخلافة: «اللهم إني شديد فليّني، وإني ضعيف فقوّني وإني بخيل فسخّني» فكان صديق هذه الأمة - رضي الله عنه - يعاني من صفة الحدّة وكان الرجل الثاني بعده يعاني من صفة الشدّة، ومن الغريب أنهما يعلنان ويشتكيان أمام الرعية من هاتين الصفتين دون خجل أو وجل من الناس. وكان عمر يسعى في عزل خالد بن الوليد - رضي الله عنه - لأن في سيفه رهقاً وهو في نظره سريع القتل متعجّل في سفك الدماء، ويقول استشيروا البراء ولا تؤمّروه؛ لأنه شديد الاندفاع مغامر لا يهاب، فخشي على الجيش من البراء - رضي الله عنه -.

 

وأمثال هذه الصفات التي لم يخل منها أحد من أئمة الإسلام وعوامه ولو تأملت في حقيقتها لوجدتها صفات جبلّية تدخل في بنية الشخصية والخلقة، وليس انحرافات سلوكية تقدح في القدوة أو الإمامة.

ويقول - عليه الصلاة والسلام - لأبي ذر - رضي الله عنه -: «يا أبا ذر إنك رجل ضعيف» وهو من هو - رضي الله عنه - في مواقفه ودعوته، وقد كان قائد كلمة وأصدق لهجة في هذه الأمة.

 

إن أعظم رجال التاريخ لم يكونوا بحاجة إلى جميع الصفات ليصبحوا قادة بارزين، وليس يضرهم أبداً أن يضعفوا في جانب أو تنقصهم صفة أو يعانوا من فقد لبعض أجزاء الشخصية التي كان يتمتع بها الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام -. ومن فضل هؤلاء أن ما يعانونه من صفاتهم الجبلّية لا يجنح بهم إلى السقوط أو تعدي حدود الله، بل إن من عظمتهم أنهم يحاولون جاهدين توظيف هذا النقص لخدمة الدين ونصرة الحق.

وما هو الكمال الذي نريده؟ هل الرقة الشديدة و سرعة الدمعة وتحكم الرحمة تنافي كمال القدوة والقيادة؟ لا ريب في أن هناك من يعتقد أن القائد أو القدوة مطالب بالقوة والحزم والتحمل وهذه الصفة لا تتفق مع ذلك، وهؤلاء يخبطون في جانب من الوهم، إذ كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم – وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي وأكثر أئمة الأمة وقادتها يتسمون بسرعة الدمعة والشفقة والرحمة، ولم يكن ذلك يتنافى مع القوة والحزم والصمود، بل كانت هذه الرقة مفتاح العدل وإكسير القوة وأساس التمكين، والمعروف أن القسوة والتجهم ضعف وإن كان في ظاهره قوة.

 

وهناك عدد من الأئمة الكبار لا تغيب الطرفة عن أسلوبهم وكلامهم وهم من النوع الذي يقال عنه، إنه صاحب نكتة بالبديهة والفطرة، ومن أبرز هؤلاء الإمام الشعبي الذي يعد من أندر الأئمة علماً وفقهاً وعدالة وديانة حتى كادت صفة الطرفة عنده تغلب على صفة الإمامة، وبحق فلم تكن صفة قادحة فيه بل كانت إضافة جمال إلى شخصيته.

ولا زلنا نسمع من يقول إن القدوة أو القائد يجب ألا يتخلى عن الجد لحظة واحدة؛ لأن ذلك يضع من قدره عند الناس، ويجعل صاحب الطرفة منهم رجلاً منقوصاً ولا نقصد بهذا الإغراق في المزاح لأهل المراتب، ولكن أن تكون سجية مرافقة وأصيلة فيه فذلك جمال على جمال إذا كان هؤلاء يعرفون أين يضعون أقدامهم.

وكثير من عباقرة الإسلام وغيره كانت تعتريهم بعض صفات فيهم كالذهول والغفلة وبعض الأفعال التي تبعث على الاستغراب بدافع العفوية والسجية.

 

جاءت جارية محمد بن سحنون المالكي - رحمه الله - بالطعام مرة فلما رأته مشغولاً أخذت تلقمه وهو يأكل، وفي نفس الوقت يؤلف واستمرت في ذلك حتى أتى على الطعام كله، فلما أذن لصلاة الصبح انتبه، وأمرها أن تأتي بالطعام، فأخبرته أنه أكله كله. ومن أسباب موت الإمام مسلم - رحمه الله - أنه قدمت له سلة تمر، وكان يبحث عن حديث فأخذ يأكل من السلة، ويبحث في كتبه إلى أن أتى على السلة كلها وهو لا يشعر.

وورد أن الجاحظ - رحمه الله - نسي كنيته، وأخذ يسأل عنها حتى جاءه من يخبره بها، وهو إمام العرب في اللسان والأدب.

 

وذكر أستاذ الجيل علي الطنطاوي - رحمه الله - في كتابه صور وخواطر باباً بعنوان (مجانين) أظرف ما قيل في هذا المجال، وذكر عن مجموعة من العباقرة ما يضحك الثكلى من المواقف كالجاحظ ونيوتن وأمبير وهنري بوانكاريه وأمر الله أفندي وعبد المسيح وزير.

 

إن الرفعة والمكانة والقدوة لها ركنان، أولهما توفيق الله - عز وجل - لعبده ووضعه أينما يريد فهي رزق يؤتيه الله من يشاء.

وثانيهما: الصفات الخلقية والجبلّية والموهبة الطبيعية، وليس التصنّع والادّعاء، وغالباً ما تكون هذه المواهب مصاحبة لصفات أخرى لا تنمّ عن عبقرية صاحبها ولا تشي بأي تميز.

 

من الذي يعتقد أن من شروط القدوة والرفعة والكمال والعصمة والنباهة والتميز في كل شيء؟ وهل العاقل يشك في أن الكاملين من الرجال يعتريهم ما يعتري البشر من جنوح إلى صفة دون أخرى والتميز في جوانب وعدم المبالاة بجوانب أخرى، والقوة في جهة والضعف في أخرى؟

 

نحن العرب بالذات دائماً تستهوينا البطولات والمثاليات والنماذج النادرة إلى درجة الكمال الذي لا يقبل النقص، وإلى حد تضعف معه ثقافة التخصص. ومن عادتنا أننا حين نعجب بقائد أو بإمام أو قدوة نهيل عليه هالات من القداسة والعصمة ثم نكوّن له في نفوسنا صورة نورانية ونضع لها حدوداً وإطارات تجعله معشوقاً ووصياً ملهماً ومداداً نفسياً. والقدوة والقيادة والإمامة لها مكانتها وإكبارها وتأثيرها بلا خلاف ولكن هذه الظاهرة في التعامل مع القدوات غير الأنبياء بالطبع تحدث عندنا إشكاليات في صناعة القدوات أو في بروزها في الواقع الإسلامي نذكرها على سبيل الاختصار:

 

1- تجاوز الحد في صياغة الشخصيات وشحنها بما لا يتفق معها من الصفات الأخرى يؤدي ذلك إلى إرباك شديد للشخصية وخروج بها عن نمطها الصحيح لتصبح شخصية متناقضة متضاربة غريبة التصرفات مشرّقة ومغرّبة، تجمع عدة شخصيات في شخصية واحدة، وكأنها جندي يتلقى أوامره من عدة مصادر لا يدري من يتبع ولا خلف من يسير.

 

2- بروز نوعيات لا تقبل النقد ولا تتنازل عن آرائها ورؤاها، وانصباغ هذه النوعيات بالدكتاتورية المبطّنة باسم الإلهام والتجربة والمكانة والفراسة، وطغيان الغرور ورؤية الذات لأنها أعدت إعداداً لا يجوز أن يتقدّم عليها أحد، أو يجاوزها أحد، أو يراجعها أحد.

 

3- سعي كثير ممن يرون عندهم تميّزاً إلى حيازة هذه المكانة والتهافت عليها طلباً لشرف العصمة والقداسة والمكانة لا لنصرة الدين أو حماية الأمة.

 

4- نشوء جيل من الناس يكررون نفسية التبعية والانبهار بالأشخاص لا بالمبادئ لتتكرر ظاهرة الغياب الجماعي في اتخاذ القرار، وكذلك الانهزام عن حفظ سفينة الحق من الغرق، والقناعة التامة بالأسلوب الإلهامي الفردي، وصواب العقل الواحد.

إن التصور الصحيح للقدوة هو الاعتراف بالصفات المميزة لها وأحقيتها بهذه المكانة، ومع ذلك فهي شخصية بشرية غير معصومة ينتابها ما ينتاب البشر من نقاط الضعف والسجايا الطبيعية المخالفة للتميز أحياناً.

 

وأفضل أسلوب في إخراج القدوات هو أن تهذب مما يشينها ثم تترك على سجيتها التي خلقها الله بدون أن يتكلّف أحدٌ لها صفات ليست منها، أو توضع في مواضع لا تليق بها، أو أن تنتقص بسبب نقص بعض الصفات فيها.

 

إننا حين نصوّر القدوات للناس على شكل خيالي؛ فإن الناس لن تقبل إلا قادة وأئمة يمتلكون كل الصفات، ولن يقبلوا منهم إلا العصمة والملائكية، وهذا مما لا يتحقق أبداً، وما من شك أن ذلك حدث كثيراً في تصورات الناس إلى الحد الذي لا يصدقون أن الإمام فلان أو القائد فلان يخطئ أو يزل عن الصواب.

 

كان - عليه الصلاة والسلام - يتعامل مع أصحابه بكل تشكيلاتهم النفسية وعلى قدر مواهبهم فيزيد في رفع مستوى هذه المواهب، ويحذر من النقص الذي يراه في بعض أصحابه،إما عن طريق التصريح أو عن طريق التلميح، فلم يأمر علماء الصحابة أن يكونوا قادة حرب وإن كانوا مجاهدين، ولا أمر قادة الحروب أن يصيروا علماء وحفظة لأن كلاً منهم لا يستطيع أن يتميز في كلا الجانبين، وإن كان في الأمة من يجمع الجانبين إلا أن التميز في أحدهما يطغى على حساب الآخر.

 

ولو نظرنا في جانب العلماء مثل معاذ بن جبل وأبي بن كعب وعبد الله بن مسعود وابن عمر وابن عباس وغيرهم - رضي الله عنهم - وفي جانب القادة الحربيين المتخصصين في الحروب والسياسة كخالد بن الوليد وأبي عبيدة وعمرو بن العاص وسعد بن أبي وقاص والزبير وطلحة والنعمان وغيرهم كثير، لو نظرنا إلى هذا التقسيم لعلمنا كيف كان النظر إلى القادة والقدوات وكيف لم يكن لديهم الصفات كلها ولكنهم بلغوا الإمامة في مواهبهم التي أعطاهم الله وإن كانوا لم يؤتوا المواهب في الجانب الآخر.

 

وفي الصحابة من جمع بين الأمرين كالخلفاء الأربعة - رضي الله عنهم - وكان من الصحابة من تميّز جداً في عالم العبادة والتنسّك كأبي الدرداء وعثمان بن مظعون وغيرهما - رضي الله عنهما -. ولك أن تتحقق في تعامل الرسول - صلى الله عليه وسلم - مع حسّان بن ثابت - عليه رضوان الله - كيف بارك فيه موهبة الشعر وشدّ أزره فيها، ومع خطيب الرسول - صلى الله عليه وسلم - ثابت بن قيس بن شماس وكيف صدّره للخطابة والوقوف أمام الوفود - رضي الله عنه - وهكذا.

 

ونصيحتي لمن أراد حسن الإقتداء بأحد بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الصحابة ومن بعدهم أن يحدّد مواهبه تحديداً دقيقاً واضحاً، ثم بعد ذلك سيعرف طريقه ويتبع فريقه ممن يحمل نفس المواهب من السابقين، وسوف يحس بسرعة في ارتقائه نحو الأفضل؛ لأنه عرف لنفسه مكانها الصحيح، وابتعد عن تعسّفات بعض المغرمين بالشهرة والصيت ممن يريدون الإمامة في كل باب.


طارق الحسين

  • 1
  • 1
  • 3,242

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً