(30) كرامةُ أبي إسحاق

جمال الباشا

لولا أنه حدَّثني بها بنفسه وهو موضِعُ ثقةٍ عندي، لما كنتُ لأرويَ عنه واقعةً خارقةً للعادة قد يستغربُها السامعون، ولا تحتملها عقولُهم.

  • التصنيفات: أعمال القلوب - قصص مؤثرة -

لولا أنه حدَّثني بها بنفسه وهو موضِعُ ثقةٍ عندي، لما كنتُ لأرويَ عنه واقعةً خارقةً للعادة قد يستغربُها السامعون، ولا تحتملها عقولُهم.

إبانَ الجهاد الأفغاني للروس وفي ليلةٍ غابَ فيها القمرُ بالكلية سمرتُ مع بعض إخواننا المجاهدين وتذاكرنا شيئًا مما ذكره الشيخُ المجاهد عبدُ الله عزام في كتابه (آيات الرحمن في جهاد الأفغان) فهيَّج الحديثُ مكامنَ نفسِ أخي المجاهد أبي إسحاق على أن يقصَّ علينا ما وقع له بالفعل من كرامةٍ هي من أعجب ما سمعتُ في حياتي.

قال: خرجتُ في مهمَّةٍ مع أخوين قبل الغروب سرنا فيها على الأقدام إلى قريةٍ تبعدُ عن قريتنا نحو ساعة، وبعد أن قطعنا ربعَ الطريق تقريبًا أصيبَ أحدُهما بلَغَمٍ أرضي بتَرَ ساقَه، حاولنا أن نحمله لنرجعَ به إلى موضعنا الأول فلم نطق ذلك، فكان الرأيُ أن يرجع أحدنا ليأتي بالمسعفين لإجراء اللازم ويبقى الآخرُ معه يحاول إيقاف النزيف.

كنتُ أنا من وقع عليه الاختيارُ فانطلقتُ مهرولًا في طريق العودة، ولكني لم أكن أحفظُ الطريقَ جيدًا، وكانت حقولُ الألغام تحيطُ بنا من كل جانب، وحلَّ الظلامُ المطبقُ بعد زوال آخر خيطٍ من الشفق، وانعدمت الرؤيةُ بالكلية، حتى أني تذكَّرتُ قوله تعالى: {إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} [النور من الآية:40] ولم يكن يُسمح لنا باستخدام الكشافات لأنها تدلُّ العدوَّ على موضعنا.

أبطأتُ في سيري وأنا اتلمسُ الطريقَ بصعوبةٍ بالغة، إلى أن توقفتُ عند مُفترَق طرُق، لا أدري هل أسيرُ يمينًا أم شمالًا!!

مضَت عدَّةُ دقائقَ وأنا في كربٍ عظيم، أخي ينزف، والوقت يمضي، وقد أسلُكُ الطريقَ الخطأ، ودقاتُ قلبي تتسارع، والعرقُ مني يتصبَّب، وغابَ عني كلُّ دعاءٍ ولم أذكر إلا آيةً واحدةً من كتاب الله لاحَت أمام عيني فصرتُ أردّدها وأبكي {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ۚ وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69]، فعلتُ ذلك نحو عشر مرات، وإذا بي أرى عجبًا!!

لقد لمعَتْ بقعةُ ضوءٍ مستديرةٌ على الأرض أمامي بنحو ثلاث خطوات، وكأنَّ شخصًا ما يُسلطها من كشّافٍ من جهةٍ علويةٍ فوقَ رأسي تماما، سرتُ باتجاهها خطوةً فابتعدَت خطوة، وكلما اقتربتُ منها أكثرَ ابتعدَت بمقدار ما أقتربُ منها، وتبقى المسافةُ بيننا ثابتة، حتى شعرتُ بأنها تقودُني وتوجّهُني فكانت تذهبُ بي مع الطريق يمينًا فأذهبُ يمينًا، وتذهبُ شمالًا فأذهبُ شمالًا، وفي كل هذا لا ينقطع لساني عن تلاوة الآية، ولا دموعي عن الجريان.

وفجأةً اختفت البقعةُ العجيبةُ من الأرض لأرفعَ رأسي وأجدُني أمام بيوت القرية!!

أخبرتُ الأميرَ بخبر صاحبَيّ فأرسلَ معي بعضَ الإخوة، فيهم ممرضٌ عربي ودليلٌ أفغاني، ولم أكن حدَّثتُهم بما وقع لي.

وصلنا إلى مفترق الطرق الذي ضللتُ عنده وتذكرتُ أني كنت أهم بسلوك الطريق الذاهب شمالًا قبل أن تظهر لي هدايةُ ربي وتأخذَني في الطريق الآخر. سألتُ الأخَ الأفغانيَّ عندها: إلى أين يذهب هذا الطريق يا تُرى؟ فقال لي: هذا الموضعُ فيه أخطرُ حقل ألغامٍ في المنطقة كلها، فقد زَرع فيه الروسُ عددًا كبيرًا من الألغام، قتلت عشَراتِ المجاهدين، ونسميه طريق الموت.

واصلنا طريقنا، وأسعفنا جريحنا، وأنجزنا مهمتنا، ومضت الأيام، وها أنا ذا أمامَكم سالمٌ معافى، ولله الحمد والمنة، وأقسِم بالله أني مازدتُ حرفًا على ما وقع، ولكم أن ترووا ذلك عني شريطةَ عدم ذكر اسمي.

 

عُذرًا أخي أبا إسحاق لأني ذكرت اسمك في مقالي هذا وخالفتُ وصيَّتك، لأني إنما فعلتُ ذلك لطول العهد بها وبك، ولا أدري إن كنتَ حيًا معنا اليوم على الأرض أم حيًا عند ربك!

ولعلك تعذرُني فإنَّ مصلحةَ التشخيص عندي هي الراجحة، لأنَّ مثل هذه الكرامة الموثَّقة ترفعُ من همَّةِ المجاهدين، وتزيدُ أهلَ الإيمان رسوخًا في إيمانهم، ويقنًا بمعية ربهم، ونصرته لأهل ولايته.

أخي السالك..
سأَتركُ لذوقك استخلاصَ ما ينقدحُ في خاطرك من الدروس واللطائف، بما يفتحُ العزيز الوهاب، لكني أحبُّ ألا يفوتك منها؛ أنَّ أعظمَ فرَجٍ يأتي مع أعظم ضيق، وأحرَج حال، وأصدق توكل، وأخلص دعاء، وأخبَت قلب.

وسَل الذي أنارَ الطريق لأبي إسحاق في ظلمة الليل البهيم، أن ينير ظلمات نفسك بنور معرفته وهدايته.

المصدر: صفحة الشيخ على الفيس بوك