آراؤنا

محمد علي يوسف

لا شك أن من أدرك طبيعة الأشياء منذ البداية ولم ينخدع بها أو يستخف بزيفها هو الأعمق رؤية والأصوب فهمًا ودراية والأجدر على التصدر، لكن هذا لا ينفي حق الآخرين في التصويب والتصحيح.

  • التصنيفات: الآداب والأخلاق -

ما هذه السذاجة التي تنضح من بين سطور هذا المقال؟
يا لها من كلمات ركيكة ويا له من أسلوب ضعيف في الكتابة!
تبًا لها من آراء سطحية وأفكار سقيمة!
ماذا؟
كيف ذلك؟!
أهذا مقالي؟
أهذه كلماتي؟

هكذا فوجئ الكاتب المشهور بعد أن أبدى سخطه على المقال وأظهر استهجانه لأسلوب كاتبه!
المقال مقاله والأسلوب أسلوبه..
هو فقط.. نسي!

لقد كتب هذه الكلمات وصاغ تلك الآراء منذ زمن بعيد ثم تكاثرت الأحداث وتنوعت الآراء و.. نسي!
هكذا ببساطة وجلَّ من لا يسهو!

رد فعله كان طبيعيًا جدًا إلا لدى من يعشقون أنفسهم ويقدسون ذواتهم ومواهبهم، وما أكثرهم!

ربما لو تذكر أن المقال مقاله والكلام كلامه لتغير رأيه، ولعله لاحظ حينئذ مدى الحكمة والبلاغة التي تقطر من حروفه لكنه عندها لن يكون طبيعيًا أبدًا.

ليس طبيعيًا أن يتحجر المرء!
ليس عاديًا أن نظل مبهورين بكل ما صدر منَّا.. فقط لأنه صدر منَّا..
الطبيعي أن يراجع الإنسان نفسه.

عادي جدًا أن ترى اليوم شيئًا قلته أو كتبته منذ سنوات فتشعر بمدى سذاجته أو بأنك لست قائله!
وأن تندم..
من الطبيعي تمامًا أن تندم أحيانًا وأن تتمنى أنك لم تتخذ ذلك الموقف، أو لم تتعصب لتلك الفكرة وذاك الرأي.

وليس هذا تقلبًا كما قد يظن البعض فثمة فارق كبير بين التقلب والتطور، لكن للأسف البعض لا يدرك هذا الفارق ويخلط بين التطور الطبيعي للنظر والرؤية الذي ينشأ عن الخبرة والممارسة، والاحتكاك المستمر بمصادر التلقي وبموارد المعرفة وبين التقلب الحاد في الأحكام والآراء.

ورغم أن الفارق واضح فإن هناك من يصر إصرارًا عجيبًا على عدم التمييز بين الأمرين، فيحاكم الخلق باستمرار إلى سابق فهمهم أو سالف آرائهم، خصوصًا تلك القابلة للصقل والتجويد المستمر بخلاف المبادئ والأخلاق والثوابت الواضحة المتفق عليها

ولتستطيع التمييز بين المتقلب الهوائي وبين المتطور الساعي للفهم والتعلم المستمر والتغير للأفضل عليك ملاحظة عدة أمور:

الأمر الأول: السرعة التي انتقل بها وهل يتدرج في الفهم والنظر أم هو كل يوم في حال، كريشة تتطاير في يوم عاصف.

الأمر الثاني: هو الحدة وهل كان تقلبه بين الآراء والمواقف عنيفًا قاسيًا أم هادئًا حكيمًا؟!

الأمر الثالث: الآليات والمعايير التي اتخذها ليغير رأيه أو فهمه.

تلك الأمور بملاحظتها يتبين لك هل يتعلم المرء ويفهم ويطور فكره ووجهة نظره، أم أنه يتقافز ويتقلب بين الأهواء والعواطف وتلعب به وبثوابته الظروف والمتغيرات.

من دون تلك الأمور والنظر فيها فمن السهل أن تبرز التناقض بين المواقف والتصريحات لأي شخص في مرحلتين مختلفتين، وذلك بسبب تغير الرؤية الناتج عن مزيد من المعطيات أو ظهور ما خفي عليه ابتداء أو حتى معرفة الخطأ والتوبة عنه.

حينئذ لا يسمى هذا تناقضًا بل يسمى عودة إلى الحق الذي ربما خفي عليه أولًا ثم عرفه آخرًا، ولا يعد ذلك مذمومًا إلا عند ضعاف العقول أو المتربصين.

بل الحقيقة هو شيء طيب، وضده هو التصلب والحماقة والكبر الذي يجعل المرء يصر على قوله وموقفه حتى لو تبين له خطأه.

ويظل الثبات على المبادئ التي دفعت المرء لاتخاذ مواقفه هو الأصل الذي يقيم به الشخص، ويُعلَم حقيقة كونه قد غيَّر تلك المواقف لهوىً في نفسه أم أنه غيَّرها تبعًا لهذه المبادئ الأصلية التي يعتنقها ولأنه يبحث عن الحقيقة والحكمة حيث كانت فإن وجدها فإنه لا يتكبر عليها بل يقبلها ويرضى بها فإن الكبر بطر الحق كما ثبت عن رسولنا صلى الله عليه وسلم.

لا شك أن من أدرك طبيعة الأشياء منذ البداية ولم ينخدع بها أو يستخف بزيفها هو الأعمق رؤية والأصوب فهمًا ودراية والأجدر على التصدر، لكن هذا لا ينفي حق الآخرين في التصويب والتصحيح.

المهم أن نعترف بالأخطاء ونتعلم منها، بدلًا من تزيينها والإصرار على تعظيمها وتقديسها لا لشيء إلا لأنها فقط.. آراؤنا.

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام