ثقافة الاعتراف بالذنب بين الصواب والخطأ

الاعتراف بالخطأ أول خطوات النجاح والإصلاح، وأول منازل التواضع وتأديب النفس وتهذيبها، وهو كذلك بداية الشعور بالألم على الخطأ، وأول دافع لتركه وعدم تكراره، وثقافة الاعتراف بالذنب في الإسلام لها معناها المتميز المتفرد.

  • التصنيفات: التوبة - تزكية النفس -

الاعتراف بالخطأ أول خطوات النجاح والإصلاح، وأول منازل التواضع وتأديب النفس وتهذيبها، وهو كذلك بداية الشعور بالألم على الخطأ، وأول دافع لتركه وعدم تكراره، وثقافة الاعتراف بالذنب في الإسلام لها معناها المتميز المتفرد، الذي يورث في النفس صفاءً ونقاءً وطهارةً مستمرة، كلما دنسها الذنب والمعصية، كما أنها تعود الشخصية المؤمنة التواضع لخالقها فتكسر الكبر في قلبه، وتعرفه من نفسه الضعف والخلل والخطأ، وأنه بحاجة دومًا لله سبحانه الحي القيوم.

والاعتراف بالذنب مطلوب في التوبة، بل هو مقدمة الندم الذي هو لُب التوبة وأساسها، كما قال تعالى {وَٱلَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا۟ فَـٰحِشَةً أَوْ ظَلَمُوٓا۟ أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا۟ ٱللَّهَ فَٱسْتَغْفَرُوا۟ لِذُنُوبِهِمْ} [آل عمران:135]، وقال سبحانه: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [التوبة:102]، وفي قوله صلى الله عليه وسلم لعائشة: «فإن العبد إذا اعترف بذنب ثم تاب، تاب الله عليه» (صحيح مسلم: [2770]).

يقول ابن القيم: "إن الهداية التامة إلى الصراط المستقيم لا تكون مع الجهل بالذنوب، ولا مع الإصرار عليها، فإن الأول جهل ينافي معرفة الهدى، والثاني: غي ينافي قصده وإرادته، فلذلك لا تصح التوبة إلا من بعد معرفة الذنب والاعتراف به وطلب التخلص من سوء عاقبته أولًا وآخرًا" (مدارج السالكين).

وكلما قويت قوة الندم وقوي الاعتراف بالذنب كلما أحرقت آثار ذلك الذنب في قلب المرء، ومن ثم صار تذكر الذنب يصحبه الندم، وصعب عند ذلك تكرار الذنب، إذ الندم والاعتراف يمنعان معاودته، وكثير من الناس يقدمون على التوبة بشكل عام هامشي غير معترف ولا متحرٍ ولا نادم ، ومن ثم فهم يعاودون الذنب مرات ومرات ويعاودون التوبة التي تعودوا عليها مرات ومرات.

والاعتراف بالذنب هو اعتراف بين يدي الله سبحانه وحده، فهو سبحانه غفار الذنوب، وهو سبحانه قابل التوب، كما أنه سبحانه الستير الذي يستر العبد المؤمن، فيتوب عليه بغير أن يفضحه، إنه اعتراف بين يدي الملك القدوس سبحانه وتعالى وحده، لا بين يدي خلق من خلق الله، يخطئون ويقعون في نفس الذنب أو غيره، بل هو ندم بين يدي العظيم الجبار.

يقول الله تعالى: {قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ[الأعراف:23]، وفي الحديث: «اللهم إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا ولا يغفر الذنوب إلا أنت» (صحيح البخاري [7387]). وفي الحديث الآخر أن سيد الاستغفار أن يقول العبد: «اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، وأبوء لك بنعمتك علي، وأبوء لك بذنبي -أي أعترف- فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت» (صحيح البخاري [6306]).

والأصل أن على المسلم إذا ارتكب شيئًا مما حرم الله أن يستر على نفسه ولا يفضحها ويسعى للتكفير عن ذنبه والتوبة منه، وفي الحديث: «لو سترت على نفسك» (صحيح الترمذي [3112])، كما أن الإسلام حرم المجاهرة بالذنب، والإعلان به، فعن سالم بن عبد الله قال: سمعت أبا هريرة رضي الله عنه يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «كل أمتي معافى إلا المجاهرين"، ثم بيَّن صورة من صور المجاهرة فقال: "وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملًا، ثم يصبح وقد ستره الله فيقول: يا فلان عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربه، وأصبح يكشف ستر الله عنه» (صحيح البخاري [6069]).

قال ابن بطال رحمه الله: "في الجهر بالمعصية استخفاف بحق الله، ورسوله، وبصالحي المؤمنين، وفيه ضرب من العناد لهم، وفي الستر بها السلامة من الاستخفاف؛ لأن المعاصي تُذِل أهلها" ثم قال: "وإذا تمحَّض حق الله فهو أكرم الأكرمين، رحمته سبقت غضبه؛ فلذلك إذا ستره في الدنيا لم يفضحه في الآخرة، والذي يُجاهر يفوته جميع ذلك".

لكن إن كان في الاعتراف لشخص آخر مصلحة شرعية أو إعانة له على التوبة، كأن يكون عالمًا فيستفتيه، أو ذا قدرة فيعينه، أو مثاله فيمكن أن يحدثه ويخبره، وفي حديث الرجل الذي قتل تسعة وتسعين نفسًا وغيره بيان لذلك، والرجل الذي واقع أهله في نهار رمضان وغيره، قال النووي رحمه الله: " يكره لمن ابتلي بمعصية أن يخبر غيره بها. يعني ولو شخصًا واحدًا، بل يقلع عنها، ويندم، ويعزم أن لا يعود، فإن أخبر بها شيخه الذي يعلمه أو الذي يفتيه أو نحوه من صديق عاقل صاحب دين مثلًا، يرجو بإخباره أن يعلمه مخرجًا منها".

لكن في هذه الحالة ينبغي أن يتخير الإنسان من يعترف معه بذنبه ليقدر قيمة الموقف بحق، ويحفظ السر، ويعين على التوبة بالنصيحة الخالصة، ولا يستغل ما علم استغلالًا سلبيًا، ويتصرف معه تصرف الحكيم التقي النابه، وبالعموم  فليس من النافع تربويًا ولا قلبيًا دعم مفهوم أو ثقافة الاعتراف للناس لتطبق على نطاق متسع، لما فيها من آثار سلبية على صاحب الذنب وعلى الطرف الآخر، إلا في أحوال ضيقة متعلقة بالمصلحة الشرعية، لكن ينبغي أن نعلم الناس ونربيهم على تقوية علاقتهم بربهم سبحانه مباشرة، فهو قريب من عباده سميع لهم بصير بأحوالهم غفور لذنوبهم، لطيف بأحوالهم، يقبل توبة التائب، ويزيل عثرة الآيب.

وقد يتحول الاعتراف بالتقصير أمام الناس إلى زينة تجميلية يتزين بها البعض لإظهار الزهد والتدين، وقد كره العلماء ذم النفس في العلن، وقد قيل "من ذم نفسه في العلن فقد مدحها"، إلا من رأى في ذلك مصلحة ظاهرة كافتتان الناس به أو وضعه في موضع يكرهه، أو مثاله.

روى البخاري ومسلم قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يقولن أحدكم خبثت نفسي ولكن ليقل لقست نفسي» (صحيح البخاري [6179])، يقول الإمام ابن حجر في شرحه للحديث: "إن المراد طلب الخير حتى بالفأل الحق ويضيف الخير إلى نفسه ولو بنسبة ما، ويدفع الشر عن نفسه ما أمكن، ويقطع الوصلة بينه وبين أهل الشر حتى في الألفاظ المشتركة، ويلحق بهذا أن الضعيف إذا سئل عن حاله لا يقول: لست بطيب، بل يقول: ضعيف".

مما يدل علي كراهية مثل تلك الأقوال أمام الناس وأنها ليست من التواضع وإن كان صاحبها صادقًا لما في ذلك من أثر تربوي سيئ على النفس القائلة والنفس السامعة، كمحاولة إظهار فضل النفس وتواضعها فالأمر أقبح وأسوأ وقد يصير من الرياء المبطن والتكلف المذموم، يقول الحسن: "ذم الرجل نفسه في العلانية، مدح لها في السر" ويقول: "من أظهر عيب نفسه فقد زكاها".

وهناك مرض تربوي آخر يظهر في المجموعات وفي المحاضن التربوية يختص برغبة الشخص في إظهار نفسه بلا خطأ، حتى لو قال عن نفسه أنه مقصر في حق الله بلسانه، لكنه يتعمد أن يبدو أمام أقرانه ومربيه مستقيمًا تمام الاستقامة، فقد يكون ملتبسًا بأخطاء كثيرة في بيته ومدرسته وجامعته، لكنه يجتهد ويحافظ على شكله المستقيم المبرأ في مجموعته، وهذا السلوك من الرغبة في إظهار غير الحقيقة، سلوك سلبي قد يتسبب في خلل شخصي عند المتربي، فيصيبه بما يشابه الفصام الشخصي فيما بعد، وتعويده الاعتراف بالأخطاء هو نوع من أنواع العلاج.

لكن هناك ضوابط لهذا الاعتراف الذي يكون بين يدي الناس، فليس في الإسلام شىء يسمى الاعتراف للناس بغرض التطهر، وليس المعترف يرتجي شيئًا ممن يعترف له، وليس بيد البشر شيئ مهما كان، ولسنا كالنصارى ندعي صكوك غفران، بل كلنا ذوو ذنب وخطأ، واعترافك بالذنب لشيخ أو عالم إنما رجاؤه هو المساعدة على التوبة لاغير.

ومن هنا فلا حاجة لحكاية تفاصيل الذنب، ولا الحديث عن الناس المرتبطين بالخطأ بحجة الاعتراف بالخطأ، فقد يكون الناس قد سترهم الله، وقد يكونون قد أخطؤوا بغير قصد وسارعوا إلى التوبة والإصلاح، وقد تكون هناك أمور قد تخفى، وليس الشيخ أو العالم قاضٍ فيقضي في واقعة، فليقص القاص شأنه وحده الذي جاء سعيًا وراء التوبة منه، كذلك فينبغي أن يقتصر الاعتراف بالذنوب على معرفة الأحكام والفتاوى، إلا عند المصلحة الشرعية الظاهرة، وأن يكون في حدود قليلة للغاية، بل على الداعية أن يدفع العاصي إلى التوبة بينه وبين ربه، والاعتراف لله سبحانه بذنبه، ولا يسعى وراء معرفة ما خفي.

كما أن الاعتراف وحده في الإسلام ليس بتوبة كاملة، وإنما ينقصه الندم على الذنب والعزم على عدم العودة إليه مع الإقلاع عنه وتأدية الحقوق ورد المظالم مع الإخلاص الكامل والنية الصالحة، قال شيخ الإسلام :"وأما الاعتراف بالذنب على وجه الخضوع لله من غير إقلاع عنه فهذا فى نفس الاستغفار المجرد الذي لا توبة معه".

كذلك فلسنا كالنصاري نعتبر مجرد الاعتراف تكفيرًا للذنب فنستهين في ارتكاب الذنوب، لكننا نعترف بالذنب تائبين لله سبحانه ونرجو الغفران منه سبحانه ونظل على وجل من عدم تقبل التوبة، بل ونظل نصحح في توبتنا وندعو الله أن يقبلها، آملين في رحمته سبحانه الواسعة أن تشملنا وعفوه عز وجل أن يعمنا. 

 

د. خالد رُوشه.