[04] يوسف في بيت العزيز - الجزء الثاني

أعوذ بالله وأعتصم به مما تحاولين، وكما كانت التذكرة بتقوى الله ملاذًا ووقاية، كان يعوذ بالله نجاة وعصمة، ولعله كان سببًا في رؤيته برهان ربه، وسببًا في حركته وسبقه إلى الباب، وسببًا في حضور العزيز في اللحظة ذاتها.

  • التصنيفات: قصص الأنبياء -

اللجوء إلى الله نجاة

{مَعَاذَ اللَّهِ} [يوسف:23]

أي: أعوذ بالله وأعتصم به مما تحاولين، وكما كانت التذكرة بتقوى الله ملاذًا ووقاية، كان يعوذ بالله نجاة وعصمة، ولعله كان سببًا في رؤيته برهان ربه، وسببًا في حركته وسبقه إلى الباب، وسببًا في حضور العزيز في اللحظة ذاتها.

{وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ} [يوسف:25]

وهكذا فقد تحصن بالحصن الحصين، الذي يتحصن به الذاكرون الله كثيرًا، كما روى الحارث الأشعري أن رسول الله صلى الله عليه السلام قال: «إنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ أمر يحيى بنَ زكريا عليه السلامُ بخمسِ كلماتٍ أن يعملَ بهنَّ وأن يأمرَ بني إسرائيلَ أن يعملوا بهنَّ وكان يبطئُ بها فقال له عيسى عليه السلامُ: إنك قد أُمِرتَ بخمسِ كلماتٍ أن تعملَ بهنَّ وتأمرَ بني إسرائيلَ أن يعمَلوا بهنَّ فإمَّا أن تُبَلِّغَهنَّ وإمَّا أنْ أُبَلِّغَهنَّ، فقال: يا أخي إني أخشى إن سبقْتَني أن أُعذَّبَ أو يُخْسَفَ بي، قال فجمع يحيى بنُ زكريا بني إسرائيلَ في بيتِ المقدسِ حتى امتلأ المسجدُ فقعد على الشُّرُفِ فحمد اللهَ وأثنى عليه ثم قال: إنَّ اللهَ أمرني بخمسِ كلماتٍ أن أعملَ بهنَّ وآمُرَكم أن تعملوا بهنَّ وأولُهنَّ أن تعبدوا اللهَ لا تشركوا به شيئًا فإنَّ مَثلَ ذلك مَثلُ رجلٍ اشترى عبدًا من خالصِ مالِه بوَرِقٍ أو ذهبٍ فجعل يعملُ ويؤدِّي غَلَّتَه إلى غيرِ سيِّدِه فأيُّكم يسُرُّه أن يكون عبدُه كذلك وإن اللهَ خلقكم ورزقَكم فاعبدوه ولا تشركوا به شيئًا وأمركم بالصلاةِ فإنَّ اللهَ ينصِبُ وجهَه لوجْه عبدِه ما لم يلتفِتْ فإذا صليتُم فلا تلتفِتُوا وأمركم بالصيامِ فإنَّ مثلَ ذلك كمثلِ رجلٍ معه صُرَّةٌ من مسكٍ في عصابةٍ كلُّهم يجد ريحَ المسكِ وإنَّ خُلوفَ فمِ الصائمِ عند اللهِ أطيبُ من ريحِ المسكِ وأمركم بالصدقةِ فإنَّ مَثَل ذلك كمَثَلِ رجلٍ أسَرَه العدوُّ فشدُّوا يدَيه إلى عُنُقِه وقدَّموه لِيضربوا عُنُقَه فقال لهم هل لكم أن أَفتَدِيَ نفسي فجعل يفتدِي نفسَه منهم بالقليلِ والكثيرِ حتى فَكَّ نفسَه وأمركم بذكر اللهِ كثيرًا وإنَّ مثَلَ ذلك كمثلِ رجلٍ طلبه العدوُّ سراعًا في أثَرِه فأتى حِصنًا حصينًا فتحصَّنَ فيه وإنَّ العبدَ أحصنُ ما يكون من الشيطانِ إذا كان في ذكرِ اللهِ» (تفسير القرآن[1/87]).

{إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ} [يوسف:23]

إنه من آل إبراهيم الوفى: {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّىٰ} [النجم:37] إنه من أل إبراهيم الذي أمرنا بالصلاة والسلام عليهم، كلما جلسنا في صلواتنا للتشهد الأخير وفاء لهم كما وفينا لربنا: (التحيات لله والصلوات والطيبات)، ولرسولنا (السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته)، وأنفسنا وعباد الله الصالحين (السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين)

إنه لم يمتنع عن الفعل وفقط، ولكنه ذكر ووعظ: {إِنَّهُ رَبِّي} [يوسف:23]، أي: إنه سيدي وسيدك، فلتُحفظ حقوق سيدنا في حضرته وغيبته، ولانخونه فيما ائتمننا عليه، وهو قد أحسن مثواي وأحسن مثواك، فهل جزاء الإحسان إلا الإحسان، وإلا فهو الظلم وعاقبة الظلم الخسران: {إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [يوسف:23] إنه لم ينس وصية سيده:{أَكْرِمِي مَثْوَاهُ} [يوسف:23].

إن هذه الكلمات الغالية لو قبلت عند أول محاولة، لما كان ذلك غريبًا، أما أن تقال بعد المراودة وتغليق الأبواب والنداء وبعد الهم بالفعل؛ فهذا من الحكمة التى لا ينطق بها ولا توهب إلا لمن جاهد نفسه وهواه ونازع الشهوات:{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69].

إن الحق والخير والعفاف والأمانة والوفاء قيم سامية وقد يتعرض صاحبها -ولابد من سبيل التمسك بها والإصرار عليها والدعوة إليها- لضغوط وفتن ومغريات تزين لها الباطل والشر والرذيلة والخيانة والتلون والعذر، بل وتدفعه إليها: {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا} [مريم:83]، {وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَٰنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} [الزخرف:36]، {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا ۚ إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر:6]، وهي معركة قائمة منصوبة منذ الخلق الأول، والقائم فيها على حدود الله يصارع الواقع فيها مصارعة عنيدة قوية، لا تلين له عزيمة ولا تضعف له إرادة ولا ينفد له صبر ومصابرة حتى يصرع عدوه وينتصر لمبادئه وقيمه، فلا تنكس راية يحملها وهو حي، وهو على ذلك حتى آخر نفس في حياته، وله في الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم مثل وقدوة، أيما مثل وقدوة.

{كَذَٰلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف:24]

وهكذا يجازي العدل الرحيم سبحانه عباده من جنس عملهم، فلأنه من المخلصين صرف عنه السوء والفحشاء: {فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ} [الفتح:18]، {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَىٰ وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا} [الفتح:26]، {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} [محمد:17]، وصدق عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: "فإنما العلم بالتعلم".

{وَاسْتَبَقَا الْبَابَ} [يوسف:25]

يريد كل واحد منهما أن يسبق الآخر: هي تسبق لتمنعه من الخروج، إصرارًا منها على أن يأتي ما تراوده عنه، وهو يسبق ليهرب مما أحاط به من كيد وإصرار على الإغواء والمطاردة.

{وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ} [يوسف:25]

من شدة ماتعاني من غلبة ما استولى عليها، من رغبة جامحة وشهوة غالبة، وهكذا الباطل يريد أن يغالب الحق الهارب بحقه من فتنته: {وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَن تَرْجُمُونِ} [الدخان:20]، ويهاجر المؤمنون المستضعفون من مكة إلى الحبشة رغبة في النجاة من أذى المشركين فيبعثون إليها من يسعى لاسترجاعهم، ويغالبها يوسف حتى ينقد القميص من شدة تعلقها به وجذبتها له، وكان يكفيها وييئسها مما تحاول معه، إصراره وشدته وقوته في مدافعتها، وليذهب حيث شاء بقميصه المقدود، وإصراره الممدود ولكنها تطارده حتى الباب، ومادَرَت هي مادَرَى يوسف ماذا سيكون من وراء ماهم فيه من مغالبة، لكن الله سبحانه الذي يدبر ويكيد للصالحين والمخلصين من عباده ويضل الظالمين ويفعل الله مايشاء: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:1]

{وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ} [يوسف:25]

وماذا يمكن أن يكون لو أن المدافعة بينهما دامت قليلًا أو أن السيد ومن معه من أهلها تأخر قليلًا، أو أنها يئست من المحاولة، وتركته يذهب حيث شاء؟ لم يكن ممكنًا إلا ماقد كان، وجاء الكل وتجمعوا عند الباب في لحظة لم يقدرها أحد منهم: {ثُمَّ جِئْتَ عَلَىٰ قَدَرٍ يَا مُوسَىٰ} [ طه:40]، {وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ ۙ وَلَٰكِن لِّيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَىٰ مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ ۗ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ} [ الأنفال:42]، "كل الناس يغدو، فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها".

إنه لو دق السيد الباب لاستطاعت المرأة أن تتصرف، لأن الباب غُلق من الداخل، فلتعلل بأي علة للتأخير في فتح الباب؛ لتسوي أمورها ولينتظر السيد حتى يفتح له، ويُستقبل كما يستقبل كلما دخل، ولكن يبدو أن يوسف عليه السلام فتح الباب، وفي اللحظة ذاتها وصل السيد ومن معه.

 

د. محمد عبدالمعطي الجزار.