الاستبدال الذي مفاده إسلام الفضلاء وإلحاد السفهاء

محمد بوقنطار

  • التصنيفات: قضايا إسلامية معاصرة -

 

يسعى الكثير من الصغراء جاهدين إلى إصباغ مروق الإلحاد بصبغة الفكر والفلسفة، وطبعه بطابع الشكوكية العلمية، واتهام الوحي في مقام الإقناع بنقص الأدلة المادية والتجريبية خصوصا فيما له متعلق بالجانب الغيبي، ولعل المتتبع لمسار الملاحدة يقف على حقيقة أن سوء البدايات كانت قواعد الانطلاق منها تدور، أو تحوم حول حمى تربيب العقل والتأصيل لغالبيته وتفوقه في دائرة الحرية الفردية، وما تعج به هذه الدائرة من صراع مفتعل بين العقل والنقل، وما ترتب ويترتب على ذلك من معارضة فجة ولازم هدر نصوص لا يملك معها الموحد إن رام السلامة في غير لوم ولا ندامة إلا أن  يحقق ويتحلى بالتسليم المطلق الذي لا خيرة معه  مصداقا لقوله تعالى : {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَة إِذَا قَضَى اللَّه وَرَسُوله أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَة مِنْ أَمْرهمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا }  .
ولا شك أنه سعي استغل مناخ الفتنة وغياب استراتجية المواجهة الفكرية، وسياسة التحصين المجتمعي من وافدات الغرب وفكره الصقيعي، كما استغل سياسة المحاصرة والتضييق المضروبة على طول خط التدافع على أفمام العلماء وبطش بنان المصلحين من الدعاة والمفكرين، وكذا الانفتاح على ثقافة الغالب دون التحلي والتسلح بالخلفية الشرعية والمناعة العقدية، إضافة إلى خراب الأسرة وفقدانها لعنصر القدوة في صف الأصول، وخواء البيت من منارات الآداب الإسلامية، وكل ما من شأنه أن يدل الناشئ من بيت أبيه وحضن أمه عن تفاصيل دينه وإجمالات عقيدته الصحيحة السليمة.
ولا أدل على استغلال هذا السعي الحائف لمناخ الفتنة، إحاطتنا علما بحقيقة بل مصيبة وصول هذا الفكر العفن وانتشاره في غير صمت ولا تقية في بلاد الحرمين مهبط الوحي وحصن التوحيد ودائرة ضوئه ومصدر إشراقاته الأولى، وربما اقتصرنا في هذا الخصوص على ما كتبه الكاتب السعودي الليبرالي منصور النقيدان، في موقعه على شبكة الإنترنيت من كلام سيء  حول تعليم أمور الدين في بلاد  الحرمين إذا قال متخرصا : "الجنون الذي نراه اليوم عرض من أعراض المرض، والعلة التي استشرت في جسد هذه الأمة وثقافتها، وهذه راجعة أساسا إلى تراث متعفن، وثقافة الصديد، والضحالة التي يتربى عليها صباحا ومساء، في المساجد وعبر خطب الجمعة، وفي دروس الدين ومن إذاعة القرآن الكريم".
ولعل هذا فيض من غيض لا نعرف أسباب غض الطرف عن ركزه والضرب صفحا في غير تأديب ولا تعزير على مروقه واعتسافه، سيما وأن رصد ظاهرة الإلحاد من جهة استثمار المعطيات على الأرض وما ارتبط به في غير انفكاك من استشراف مبكر لما وقع أو كان سيقع ثم وقع، هو بصيغة منطقية يعد نتيجة ولازمة طبيعية لما كان يسود في البدايات من تطاول فج على نصوص الشرع وإنكار وتحريف لمعانيها، ورميها بالتحجير على الفكر الحر، واتهامها بالظلامية التي ما فتئت تهاجم فضاءات التنوير والعقلانية والمادية العلمية كما هو الزعم الدائم، ونربأ بأنفسنا من اقتحام أتون تفاصيل هذا الكف والإمساك و التغاضي المدخول الذي نحسبه في غير رمي ولا مغالاة من أهم الأسباب المؤشرة لعملية عبور الإلحاد، والسماح لمترفيه بتمرير رسائله في سلاسة وهدوء عاصفة بين شباب الأمة، إذ الواجب من جهة الأولى في هذا المقام النص على أن ظاهرة الإلحاد في مجتمعاتنا الإسلامية تبقى وستبقى متدثرة بحداد الإغراب والاستهجان الممجوج من كل فئات المجتمع الإسلامي على اختلاف مشاربه ومعارفه داخل منظومة الدين الواحد والملة الوحيدة، وهو الأمر الذي يبقيها وسيبقيها محصورة العدد محدودة التأثير، رغم ما يعمل على إشاعته إعلامنا البئيس من تضخيم وتغويل وتهويل وعملقة لحجم هذه الظاهرة وطيف مريديها.
ولنأخد كمثال للتقرير ما ذهبنا إليه :الاستشهاد بقضية المطالبة بالمجاهرة بإفطار رمضان، وتبنيها من ثلة قليلة من أبناء المجتمع المغربي نجزم في غير مبالغة أنهم لن يكملوا صفا من صفوف أصغر جامع أو مسجد في المملكة، ومع ذلك نجد أن من حجّ إلى المغرب من ممثلي الصحافة الأجنبية إلى مدينة المحمدية لمناصرة هؤلاء الحدثاء الأسنان السفهاء الأحلام كان أضعاف أضعاف عددهم ومددهم، لتأخد بعد ذلك القضية منحاها الحقوقي ولتترادف الضغوط ويتوالى الأز الغربي لأجنحته المبثوثة بيننا والتي تولت كبر رفع شارة مناهضة القانون المجرّم للظاهرة، ولن يفوت من باب الإنصاف الاستدراك على موقف بعض الفضلاء من الذين تماهوا ـ في غير سوء طوية ولا مدخول نية ـ مع هذا الطرح، متناسيا وهو عالم المقاصد العمل بمقصد حفظ الدين، وواجب تبني منهج الردع والتعزير من جهة إنكار المنكر باليد لمن يعود له الاختصاص بدفع المنكر فوق درجة إنكاره باللسان أو الاسترجاع لوقوعه بالجنان.
ويبقى واجب التنبيه بغية الميل عن التطفيف على حقيقة أن الدولة التي ترفع في وجه هؤلاء فصلها القانوني ذا الطابع الردعي، هي التي نجدها من جهة أخرى تحجر على واسع جهد العلماء والدعاة والمصلحين، وتحُول تحت وطأة أسباب لا ترقى إلى سقف الإقناع دون تقوية الجانب الإيماني والعقدي في وجدان رعاياها، وهو أمر يجعلنا أو يدفعنا إلى تسجيل الوقوف طويلا ليس للتأمل فليس هذا مقامه، ولكن لإعادة ترتيب المعطيات من أجل إخراجها أو فهم طبيعة ما يشوبها من فصام وتضاد، علمنا بالمحسوس استحالة اجتماع أطرافه إلا في فضاء المطلق المشروط بقيد الإطلاق والمنقدح في الأذهان دون عوالم الأعيان.
هذا ويبقى الإلحاد كظاهرة، أو كفكرة تقوم على أساس إنكار وجود الرب الخالق المالك المدبر، هي فكرة لم تبلغ من النضج والاختمار، ولم يصل صراخ استهلالها الأول إلى المستوى الذي يبسط لها القبول والامتداد في نفس الإنسان ووجدانه وعقله وفؤاده، ولذلك عندما تناول القرآن الكريم قضية الدهريين رماهم بعدم العلم والتزام الظن المرجوح الآثم المغبون، وعرج على ذكرهم بما هم أهل له من الترك والإجمال إذ قال جل جلاله مخبرا عن صنيعهم:"وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر وما لهم من علم إن هم إلا يظنون".
ولا شك أن وجودهم كان أمرا مطبوع الركز باطراد قلة وإغراب على مر التاريخ واختلاف أزمنته وعصوره، فها هو المؤرخ الإغريقي "بلوتارك" يلمح لهذه الحقيقة قائلا :"لقد وجدت في التاريخ مدن بلا حصون، ومدن بلا قصور، ومدن بلا مدارس، ولكن لم توجد أبدا مدن بلا معابد".
وليس يدري المرء أي منطق هذا الذي يمارس إقناعه، فيغري هذه السخائم لتعلن ردتها في صفاقة وصلادة وجه، وهي التي تربت يقرع آذانها منذ نعومة الظفر صوت "الله أكبر" المنبعث كل وقت وحين من مآذن أوطاننا الإسلامية، وهي التي تشربت أفئدتها وفطرها بكل عفوية وتلقائية أسس العقيدة الصحيحة التي تربط المخلوق بخالقه والصنعة بصانعها والسماء برافعها والروح بنافخها والأرض بطاحيها جل جلاله، كما تربط السبب بمسببه، والحداد بكيره والمسك بحاذيه، والرضيع بأمه، والاستهلال الأول بوضع رحمه، والثر بحافره، وهكذا كما هي السنن الكونية في تناسقها وتناغمها في ظل براعة بارئها ومسدي نعمها وواهب أنفاسها سبحانه وتعالى.
ويبقى أن نقول أن إسلامنا العظيم في ظل سمو عقيدة التوحيد لا يزال يسجل انتصاراته ويدك قلاع الشرك والإلحاد والوثنية العائدة في تجدد مارق، كما لا يزال وعد الله، وعد الاستبدال العادل الحكيم مستحكما في الرقاب والأفئدة والألباب، ذلك الوعد المتوعد في صدق أمام ومقابل أي تول أو انتكاس يصيب الفطرة والصبغة في مقتل ، ذلك الوعد الذي مفاده قول الله جل في علاه :"وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم".
وهذه طلائع العائدين والداخلين في دين الله أفواجا من رجال الديانات والملل الأخرى، ومن العلماء والمفكرين والرياضيين والفنانين وآخرين من النسيج الاجتماعي الغربي بكل مستوياته، شاهدة بالصوت والصورة والأثر الطيب على وقوع هذا الاستبدال العادل المبارك، في مقابل هذا الزيغ والضلال والردة والإلحاد والمروق المحلي الذي نسمع له في إعلامنا البئيس فرقعة  مكاء وقعقعة تصدية نسأل الله الثبات.