أيام في منى وعرفات ( 3/4)

محمد بن موسى الشريف

لا أجد مشهداً مؤثراً في نفسي، ولا مستخرجاً للدمع من عيني، ولا هازاً
لي من أعماقي أعظم من مشهد الحجاج الهنود والباكستانيين وهم يبكون في
عرصات عرفات وحول الكعبة، فهؤلاء الهنود والباكستانيون وهبهم الله
تعالى عواطف جامحة، وأعيناً دامعة، ورقة ظاهرة، ومشاعر

  • التصنيفات: فقه الحج والعمرة -

لا أجد مشهداً مؤثراً في نفسي، ولا مستخرجاً للدمع من عيني، ولا هازاً لي من أعماقي أعظم من مشهد الحجاج الهنود والباكستانيين وهم يبكون في عرصات عرفات وحول الكعبة، فهؤلاء الهنود والباكستانيون وهبهم الله تعالى عواطف جامحة، وأعيناً دامعة، ورقة ظاهرة، ومشاعر دافقة، فإذا دعوا الله تعالى دعوه بخشوع وخضوع، ورقة ودموع، وبكاء ونحيب، وتحرق ولهيب، بحيث لا أملك نفسي عند رؤيتهم، ولا ينفعني تماسكي عند مشاهدتهم، هذا على أني أشكو من قلبي قسوة، ومن روحي جفافاً، لكني والله إن رأيتهم يدعون يتغير ما بي من شدة، ويعود إلى قلبي لين بعد قسوة، وأجدهم في عرصات عرفات وهم مجتمعون، يدعو أحدهم وسائرهم يؤمنون، فلا إله إلا الله كم في دعائهم من انكسار وخضوع، ورقة وخشوع، وهم ملتزمون بآداب الدعاء من رفع للأيدي، وخفض للأبصار، وجلوس على الركب، وتكرار وإلحاح، وآهات ونواح، أما المشهد الجليل الأعظم، والمنظر العظيم الأفخم فهو مشاهدة ما يصنعه هؤلاء حول الكعبة من تعلق بالملتزم، والتزام لأستار الكعبة على وجه من الانكسار والخشوع والخضوع لم أره لأحد غيرهم، ولا أظنه يكون، فما ظنكم بالاستجابة آنذاك وهل يشك فيها أحد ؟



وهؤلاء هم من جملة محببات الحج إلى نفسي، وأرجو أن أتعلم طريقة دعائهم لأنجو في رَمْسي ويوم وقوفي بين يدي ربي جل جلاله، فلا جرم فالله تعالى يحب عبده الخاضع المنكسر، وقد قال جل من قائل: "ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون" وقال تعالى مادحاً خليله إبراهيم عليه وعلى نبينا أفضل الصلوات وأتم التسليم: "إن إبراهيم لحليم أواه منيب"، ودعاء الخاشعين المنكسرين المذنبين، وتأوههم وخضوعهم هو أحسن عند الله تعالى من تعبد الشامخين المتكبرين، والله أعلم.



وممن رأيتهم في الحج وتأثرت بخلقهم وحسن عملهم فضيلة الأستاذ الدكتور عبد الستار فتح الله سعيد، وقد من الله علي بصحبته في إحدى الحجات، وهو ممن أعده من عظماء أهل زماننا، وقد تحدثت عنه في مكان غير هذا، وقد تعلمت منه ـ حفظه الله تعالى ـ الدأب في إرشاد الحجاج والإجابة على أسئلتهم من غير كلل ولا ملل، وهو من أهل إطالة الصلاة والخشوع الظاهر فيها.



وممن سعدت بصحبتهم فضيلة الأستاذ الدكتور ناجي عجم رحمه الله تعالى ونور قبره، وهو فقيه حنفي معروف درست على يديه الفرائض، وشيئاً من الفقه، وأفادني كثيراً، وهو عضو المجمع الفقهي التابع لرابطة العالم الإسلامي، وهو من الأفاضل المشهورين بدماثة الخلق وحسن التعامل، وقد صحبته في إحدى الحجات رحمه الله.



وممن رأيتهم في الحج سعادة الدكتور عبد الرحمن السميط، المشهور المعروف بجهوده في إفريقيا السوداء، ولا أنسى يوم شرفنا في مخيمنا عقب الجفاف العظيم الذي أصاب الصومال فصار يحكي لنا ما جرى بأسلوب مؤثر، ومما قصه علينا أنه قال إنه قد شاهد صبياناً يجرون وراء أسراب النمل فعجب لهذا فسأل فقيل له: إن هؤلاء يريدون معرفة مخابئ النمل حتى يحفروها ويستخرجوا ما بها من بقايا الحبوب ليأكلوها !! فعجبنا والله لأنه ليس لنا عهد بمثل هذا الخبر من قبل.



وأخبرنا ـ حفظه الله تعالى ـ أنه حمل طفلاً فقال له: يا بني: ما هي أمنيتك إذا كبرت ؟ فقال: أمنيتي أن آكل هذا الذي يسمونه "البسكوت" !! وهكذا ظل يقص علينا من هذه الأخبار المؤلمة حتى فاضت أعين أكثر من بالمخيم من الحجاج، وكانت النسوة يسمعنه من مخيمهن، فبعثن له بصندوق زجاجي حجمه فيما أذكر 30×20×40 سم تقريباً، ممتلئاً بالمال والذهب من شدة تأثرهن بكلامه ولحسن استجابتهن جزاهن الله تعالى خيراً.



وفي حجة أخرى جاءنا ومعه ـ فيما أذكر ـ ثلاثة من سلاطين قبائل إفريقيا أسلموا فأسلم بإسلامهم بشر كثير، وهو ـ حفظه الله ـ بارع في التأثير على الوثنيين، وله في ذلك قصص كثيرة جليلة، وارجعوا إن شئتم لمجلته "الكوثر" ففيها جملة وافرة من الأحداث المشوقة، والقصص النافعة المؤثرة.



ولا شك أن الحج موسم إيماني جليل تلين فيه القلوب القاسية، وتفيض الأعين الجافة، وربما تاب كثير من الحجاج في أثناء الموسم، ولقد عرفت أناساً تابوا في الحج وحسنت توبتهم، واستقاموا، والفضل لله تعالى ثم للدعاة والمشايخ الذين ينتقلون من مخيم لآخر، يعظون ويرشدون ويوجهون، والحجاج أكثرهم راغب في الخير، مقبل على الاستماع، ناوٍ الاستفادة فتنشرح الصدور، وتقبل القلوب.

وممن صحبته في إحدى الحجات وأثر في نفسي وعقلي فضيلة الأستاذ الدكتور سليمان الصادق البيرة، وهو من ليبيا، وقد شرفت بالدراسة عليه في مرحلة الدراسات العليا في جامعة أم القرى، وهو ممن برع في تدريس عبادات القلوب كالتوبة والاستغفار والدعاء والذكر، وهو ممن يحسن الحديث عن الصلاة والخشوع فيها، ولا أنسى أن بعض الطلاب في مقاعد الدرس كانوا يذرفون الدموع تأثراً مما يقول حفظه الله ونفع به.



وقد رأيت وسمعت كثيراً من المشايخ ، لكن فيمن ذكرتهم الغنية والكفاية، والله الموفق.

المصدر: موقع التاريخ