فرعون ..2

محمد علي يوسف

إن قصة قارون في القرآن ودوره في حكاية بني إسرائيل يمثِّل بوضوح ما يمكن أن يفعله المال والزخرف والزينة في نفوس القوم

  • التصنيفات: دعوة المسلمين -

ربما تبدأ النهاية بمشهد رضيع لا حول له ولا قوة

مشهد تلخصه الآية التي تلي ذلك الذي ذكرناه

{وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ

وفي هذا المشهد كانت البداية

بداية المن

والفتح 

{ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ }  

أن يصل الجبروت والطغيان لدرجة تجعل والدة تقدم على إلقاء رضيعها في اليم

أن تصير الأمواج والتماسيح أرحم من بطش فرعون وجنوده

أن يصبح الملجأ والملاذ الوحيد هو المغرق العميق ويصير الإبقاء على الرضيع في حضن أمه حلما بعيد المنال

كل ذلك يلخص لك المدى الذي بلغه فرعون

لا توجد خطوط حمراء أو ممنوعات

هاهو يثبت من جديد أنه وجنوده الغلاظ لا يتورعون عن شيء مهما فحشت قسوته

حتى هذا المشهد الذي يستجلب الرحمة إلى أغلظ الأفئدة - مشهد الأم تضم وليدها - لن يحرك في قلوب الفراعين شيئا ولن يمنعهم من انتزاع الغلام وإثكال أمه بأبشع وسيلة

الذبح

رضيع يذبح!!

وما الجديد؟

قد فعلوها مع غيره وكادوا يفعلونها معه وسيفعلونها مع من بعده دون أن يطرف لهم جفن

لا شك إذا أن الأمواج العاتية والتماسيح الضارية سترجح كفتها إذا قورنت بهؤلاء

ستكون أرحم بالرضيع منهم خصوصا إذا حفها الوعد والتطمين الرباني

 { وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي ۖ إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ }  

ولقد فعلت

وألقته في اليم

ونجا من فرعون

بل جعل الله ذلك الأخير وآله سبب نجاته 

{فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا }  

وألقيت عليه المحبة الربانية وتمكنت تلك المحبة من قلب الصالحة آسية امرأة فرعون

{ وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ ۖ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَىٰ أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ }  

وبذلك نجا الرضيع ولم يضره اليم ولا أمواجه ومخلوقاته

لكن يظل الموقف شاهدا على تلك القسوة والغلظة التي يندر أن تجدها إلا لدى فرعون وهامان ومن سار على نهجهما

{إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ

ورغم أن فرعون كان قد قبل مطلب زوجه وأبقى على موسى في بيته إلا أن ذلك على ما يبدو لم ينسه ولا الملأ من حوله حقيقة موسى أو يجعلهم يتقبلونه كواحد منهم أو ابن لهم كما يزعم بعض المؤرخين

 بل لقد ظلت نظرتهم العنصرية له موجودة تنتظر اللحظة المناسبة لتظهر على السطح وتتم الإطاحة به عند أول فرصة

لعل الدليل الواضح على ذلك هو تآمرهم السريع وقرارهم الحاسم بقتله بعد مقتل المصري بوكزته

{ وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَىٰ قَالَ يَا مُوسَىٰ إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ }  

لو كان موسى فعلا يعامل معاملة الأمراء أو كان فرعون يعتبره بمثابة ولد له ولو بالتبني فإن رد الفعل المتوقع تجاه الأمير إذا أخطأ لم يكن أبدا ليصل إلى درجة المسارعة بالقتل

قتل دون محاكمة أو بحث أو سؤال عن ملابسات الحادثة

فقط القتل هو ما يعرفونه تجاه من يستضعفونهم

 وحتى لو أن المؤامرة كانت من طرف الملأ وحدهم دون إذن فرعون فإن غضبة هذا الأخير المتوقعة لو كان يأبه بموسى أو يهتم بأمره  كانت لتمنعهم عن الإقدام على قتل الأمير المتبنى

لكن الظاهر أنهم قد أمنوا العقوبة وعرفوا حقيقة مشاعر فرعون تجاه موسى

إنه لم ينس أبدا أنه غلام من بني إسرائيل

غلام نجا من الذبح بسبب المرأة التي رقت له لكن يظل في نظر فرعون من طائفة أخرى وطينة مختلفة

لذلك لن يرق له حتى لو قبل على مضض أن يربى في قصره

وسيعلم الجميع هذه الحقيقة التي جرأتهم على التخطيط لقتله مباشرة دون تحقيق أو مساءلة

وكذلك يفكر ملأ الطواغيت دوما تجاه من يرونهم أدنى منهم أو يختلفون عنهم

إنها النظرة العنصرية المعهودة التي رسخها فرعون بتقسيمه القوم لشيع وفرق بعضها له قيمة وثمن ودِيَّة

وبعضها لا شيء له على الإطلاق

لا شيء إلا الاستضعاف

{ اذْهَبْ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ }

كان هذا الأمر الرباني هو ما تلى الأمر بإقامة الصلاة والعبودية والتقديس لله رب العالمين

وجه الأمر لموسى عليه السلام مقترنا بعلته ومُزَيَّلا بفتنته

الطغيان

مجاوزة الحد

كل حد

الطاغوت هو من تخطى وتجاوز حاجز العبودية أولا ثم باقي الحواجز من إنسانية ورحمة وشفقة وعدل إلى آخر القائمة المعروفة

وهذا هو أهم ما ميز شخصية فرعون وترسخ في ذهن كل من عرفه وتعامل معه أو سمع به

فرعون طاغية لا توجد حدود أو حرمات يتورع عن تجاوزها دون أن تهتز في جسده شعرة

ولقد ترسخت تلك المعلومة  للدرجة التي جعلت موسى يصرح بخوفه وأخوه من ذلك الطغيان المعلوم

  {قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى

من القائلان؟!

من المتحدثان عن الخوف؟!

إنهما نبيان مكلمان أحدهما رسول من أولي العزم ومن أقوى الخلق في الحق

نعم ...

فالخوف شعور معتبر خصوصًا ماكان منه جبليًّا وهذا ما حرص فرعون على تعظيمه وإذكائه ومده بمزيد من وقود الطغيان والبطش الرهيب ليحاول -بغرس وترسيخ الخوف- كسر همة كل من يعترض على هذا الطغيان

 لذا فقد كان هذا الخوف السريع المتبادر لصدر موسى وهارون  مسببا منطقيا

 إنهما يعرفانه كما يعرفه كل من عاصره وتأثر بترسيخه لهذا المبدأ

الخوف

الخوف من أن يفرط عليهما أو أن يطغى

تلك هي عادته وهذه هي سجيته

وكل من كان مثله وعلى نهجه

لذا خاف هارون

 وخاف أخوه الكليم نفسه في هذا الموقف وخاف من قبل هذا الموقف بسنوات حين خرج منها " {خائفا يترقب} "

وبعدها سيتوجس موسى في نفسه خيفة حين يجمع فرعون كيده وسحرته

كل هذا شعور إنساني طبيعي وفطري أدرك موسى وهارون كما أدرك غيرهما من الصالحين في مواجهة فرعون وأشباهه فليس كل خوف  جبنا وليس كل خائف  خوارا

 المهم هو كيف تعاملوا مع خوفهم وروضوه وأحسنوا توجيهه ولم يرضخوا لرغبة فرعون في إذكائه وترسيخه وتعميقه حتى يسيطر على كل فعل ورد فعل فيصير خوفا متجذرا في أعماق النفس ومتغلغلا في ثنايا الروح وما أشبهه حينئذ بالنوع الأخطر من الخوف

 الخوف الذي ينبغي ألا يوجه إلا للقوي سبحانه وحده ليطرد كل خوف من مخلوق مهما بلغ طغيانه وجبروته

الخوف التعبدي

{"إِنَّمَا ذَٰلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ" } [ آل عمران 175]

ولقد ذهب موسى كما أمره الله..

 لكن ذهاب موسى لم يكن لفرعون وحسب كما قد يُظَن

 إن فرعون كان الرمز الأوضح والعنوان الأجمع لتلك المنظومة

لكن الحق أن فرعون لم يكن وحده

دائما لم يكن فرعون وحيدا

دوما كانت حوله أذرع سلطانه وفروع جبروته

 دائما كان هناك الملأ.. الآل.. الجند..السحرة

 وكان هناك ذراعي القوة والمال

{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ.. إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ  }

من الذين قالوا؟!

إنهم من مثلوا ذلك المثلث الرهيب ذي الأذرع الثلاثة الباغية

ذراع السلطة متمثلا في فرعون

وذراع المال الذي استحوذ عليه قارون بجدارة

ثم ذراع النفوذ والتخطيط والتنفيذ وهو ذراع هامان

 واهم من يظن أن الخلل كان قاصرا على فرعون أو أن الصراع كان معه وحده أو أنه فقط من مثل الطغيان دون شريك

إن الآية في غاية الوضوح

لقد أرسل موسى عليه السلام إلى الثلاثة معا

{إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ }

وإن أحد هؤلاء الثلاثة قريب لموسى نفسه

{إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَىٰ

 لكنه رغم قرابته وانتسابه لبني إسرائيل لم يتورع عن المشاركة في البغي عليهم

لعل غناه والثراء الفاحش الذي كان يرفل فيه هو ما حجبه عما تعرض له قومه من الذلة والاستضعاف

لكن العجيب حقا أن هذه القرابة لبني إسرائيل وموسى لم تمنع فرعون من خوض هذا التحالف رغم عنصريته التي سبق أن أشرنا إليها وسيأتي ذكرها مرارا عند الحديث عن باقي جوانب شخصيته

 لعل  ثراءه هو الذي دفع فرعون للتحالف معه ليقدما سويا صورة نمطية من صور التحالف العتيق الذي عرفته البشرية دوما

التحالف بين السلطة والمال

 ولقد أجاد فرعون استغلال هذا التحالف والانتفاع بشريكي البغي تمام الانتفاع

تخطيط هامان ونفوذه

ومال قارون

 تكررت في القرآن أوامر فرعون لهامان بتشييد الصروح

{وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَٰهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَىٰ إِلَٰهِ مُوسَىٰ وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [ القصص 38]

{وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَىٰ إِلَٰهِ مُوسَىٰ وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا} [ غافر 36 - 37]

وحين ورد ذكر جنود فرعون لم ينسبوا إلى هذا الأخير وحده

بل نُسبوا إلى هامان معه

{إن فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين

تأمل.. جنودهما

 يدل ذلك كله على أن هامان كان المكلف دوما بالتنفيذ والتشييد وكان هو المسؤول عن مواطن القوة والبأس في المنظومة الفرعونية

بينما كان قارون ممثلا للمال والثروة والزينة والموجه لهم

والمفسد بهم

ولقد صنع مال قارون في بني إسرائيل ما لم يفعله سيف فرعون وسوطه!

 هذه هي الحقيقة التي يخلص إليها من يتأمل قصة ذلك الثري المتكبر الذي استطاع بزينته أن يفتن قومه أو كثيرا منهم

كذلك فعل قارون

وكذا يفعل كل قارون

كل من بغى على قومه ليمتص من خلال بغيه  كنوزا يستعملها بعد ذلك في مزيد من استعبادهم وتركيعهم ثم لا يكتفي بعد ذلك بالاستعباد والإذلال والظلم بل يتطور الأمر لأن يستعمل الأموال والكنوز في فتنة الخلق وإضلالهم

وما أكثر من ينجحون في ذلك

إن قصة قارون في القرآن ودوره في حكاية بني إسرائيل يمثِّل بوضوح ما يمكن أن يفعله المال والزخرف والزينة في نفوس القوم

وليس أي قوم

إنهم أناس يحيا بين ظهرانيهم نبيان منهم رسول من أولي العزم ولطالما رأوا بين يديه الآيات والمعجزات وأبصروا كيف أحرج الطاغية فرعون وكيف أظهره الله عليه في كل مشهد

 لكنهم رغم كل ذلك فتنوا بقارون وقالوا عنه ما لم يقولوه عن نبيهم المكلم

 لذا تجد اقتران اسم فرعون المتكرر في القرآن بضلعي البغي الآخرين قارون وهامان بل وتقديم اسم قارون على فرعون أحيانا كما في سورة العنكبوت

  {وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ ۖ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَىٰ بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ * فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ ۖ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا ۚ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَٰكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ

 كذلك ما نزل في سورة غافر من إجابة مشتركة أجابها الثلاثة على دعوة موسى واشتركوا من خلالها في تهديد من آمن معه بالقتل

{فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ ۚ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَال }  العلاقة إذا كانت وطيدة للدرجة التي امتزجت فيها أقوالهم وصارت كأنها أقوال شخص واحد أو منظومة واحدة

منظومة البغي المتكاملة

وإلى هذه المنظومة الكلية ذهب موسى وليس فقط إليه

إلى فرعون