فرعون ..6

محمد علي يوسف

تناسى فجأة طبيعة الأشياء وضعف وسائل خصمه المادية بالمقارنة بآلته الحربية وقدرته الآنية وحضارته القوية؛ فقد تجلت دعاية المؤامرة السوداء لتبرر ما سيحدث بعد قليل للخونة المتآمرين، الذين كانت كل جريمتهم السجود، وغاية خطيئتهم , ترك الاستئذان قبل الإيمان، ونسيانهم الحصول على تصريح بالاعتقاد مختوم بالختم الفرعوني.

  • التصنيفات: دعوة المسلمين -

{قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ } القضية المبدئية هنا كانت تكمن في الإذن

 في التصريح.. 
 في الاختيار بمنأى عن إرادة فرعون والخروج عن طوعه والاستقلال عن مذهبه ومعتقده.. 

 في التحرر من سلطانه وسيطرته حتى على الأفكار والمعتقدات.

إن فرعون كما سبق وأشرت , يرى لنفسه الحق المطلق في تحديد أفكار الناس، وفي تقييمها، في تقسيمها وتصنيفها

في الحكم عليها وعليهم، وفي ثوابهم وعقابهم على أساس أفكارهم ومعتقداتهم

في توزيع صكوك الاستحقاق عليهم، وفي تحديد أدوارهم ومهماتهم.

فرعون يرى لنفسه فقط الحق في أن يحكم ويحاكم، ويعطي ويمنع، وينعم ويحرم، ويحل رضوانه على من يوافقه وينافقه، وينزل سخطه على من يخالفه ويرفض أفكاره ويتحرر من سطوته.

وهو لا يستطيع العيش إلا مع عبيد يهللون له ويباركون كل خطواته، أما من كان له رأي أو فكر أو إرادة خارج إطار إرادته وفكره فهو دوما عدو له، متآمر على دولته لابد أن يزاح عن طريقه .

وهنا يأتي المحور الثاني ويحين دور التشويه والدعاية السوداء: {إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ

أيها الخونة المتآمرون! إنه زعيمكم ومعلمكم إذن.. 
وما موهبتكم وصنعتكم السحرية إلا جزء من تلك المؤامرة الكونية على دولتنا البهية!

تناسى فرعون في لحظات أنه هو من أتى بهم من أنحاء القطر الواسع، وجمعهم بجنده واختارهم على عينه

 تناسى فجأة طبيعة الأشياء وضعف وسائل خصمه المادية بالمقارنة بآلته الحربية وقدرته الآنية وحضارته القوية؛ فقد تجلت دعاية المؤامرة السوداء لتبرر ما سيحدث بعد قليل للخونة المتآمرين، الذين كانت كل جريمتهم السجود، وغاية خطيئتهم , ترك الاستئذان قبل الإيمان، ونسيانهم الحصول على تصريح بالاعتقاد مختوم بالختم الفرعوني.

فكما قلنا ونقول ونكرر فرعون فقط من يحق له أن يرى، وهو فقط من يسمح لأي شخص أن يرى بل أن يرى فقط ما يرى.

فإن لم يفعل فالنتيجة النهائية عنده هي.. 

{فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم في جذوع النخل

إنه القمع إذن
المحور الثالث من محاور الخطاب الفرعوني 
سبيل الضعيف وإن لبس لأمته ووسيلة العاجز وإن ادعى قوته وتمثل قدرته
السيف في مواجهة الفكرة والبطش في مقابلة العقيدة والعذاب لوأد الإيمان الذي لم يستأذن فيه الطاغي
ولكن لماذا؟!
هل هو الانتقام وحسب؟!
أم هو إسكات الصوت وكبح جماح الإرادة وقتل التحرر الإيماني من عبادة الطواغيت الذي مثله السحرة؟!
ربما كل ذلك وغيره
لكن الأهم عند فرعون كان هو المحور الرابع
 صناعة العبرة وترسيخ الخوف

{ولتعلمن أينا أشد عذابا وأقوى}
لا بد أن يعلموا
ولا بد أن يعلم الجميع 
لا بد أن يبقى العبيد عبيدًا 
وليكن هذا العلم عبر جسور الأشلاء الممزقة
وليُسقى لمتعلمي العبيد مع عصير الدماء المسكوبة والأوصال المتطايرة
ثم ليكن الصلب على تلك الجذوع السامقة
فالمسألة ليست فقط في العقوبة 
ولكنه النموذج الذي لا بد أن يظهر للجميع 
وليظل الإيمان المطلوب كما هو 
إيمان رسمي حصري بالإذن 
إيمان بلا إرادة وعقيدة بلا حرية وأناس على دين ملكهم
على دين فرعون

لكن هل كان فرعون يدَّعي؟ 

هل كان يتظاهر ويتقمص أم أنه كان فعلا يصدق ما يقول؟ 
هل كان يعلم حقيقته ويدرك بشريته أم كان حقا يظن نفسه إلها؟ 
هل كان خاطئا في نظره لنفسه أم كان يحسب نفسه مصيبا محقا؟
تلك الأسئلة يمكن تعميمها وإجمالها في سؤال لطالما كنت  أسأله لنفسي: 

 ترى..  هل يعلم المخطئون أنهم مخطئون؟!

 هل يدرك الفاسد أو المفسد أو الضال المُضل أنه كذلك وهل يلاحظ الظالم أنه يبغي ويجور ويتعدى؟!

وإن كانوا يعلمون ذلك ويدركونه فكيف ينظرون لأنفسهم في المرآة دون أن يحتقروا أنفسهم وأفعالهم؟!

وكيف ينام هؤلاء؟ 
كيف كان ينام فرعون وقد ذبَّح أطفالا واستحيا نساء واستذل رجالا؟ 
وكيف يضع هؤلاء جنوبهم مطمئنين وهم يدركون ويعلمون أنهم قد ظلموا أو انتقصوا من حق إنسان؟!

الحقيقة أن الإجابة عن الشق الأول من تلك الاسئلة هي بوضوح , نعم يعلمون! 

هذا هو الأصل.. 

مهما كثرت المعاذير والمبررات التي يبرر كل منهم - بل كل منا - بها خطأه وتعديه فإن الأصل أننا جميعا نعلم حقيقة أفعالنا

أنا وأنت نعرف جيدا وندرك في غالب أمرنا تلك الحقيقة
مهما تجملنا وادعينا وبررنا وزينا أعمالنا فإن الأصل أننا حين نخلو بأنفسنا لن نتمكن طويلا من خداعها. 

{بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَىٰ مَعَاذِيرَهُ}
هكذا واضحة قاطعة بيّنها ربنا في كتابه.. 

مهما ألقى الإنسان معاذيره وساق حججه وأتقن مبرراته , فالأصل أنه يدرك حقيقة ما يفعله ويبصر بوضوح ما عليه نفسه.. 

{فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَٰذَا سِحْرٌ مُبِينٌ

كان ذلك رد فرعون وآله على تلك الآيات المبينات التي أرسل بها موسى إليهم.. 

كالعادة.. لا شيء جديد في ردهم! 

اتهامات وتشكيكات وتسمية للأشياء بغير مسمياتها 
لكن هل كانوا حقا يرون الأمر سحرا أو دجلا
الجواب يأتيك من ربك في الآية التي تليها من سورة النمل

{وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا ۚ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ

إذاً فقد كانوا يعلمون! 
بل ويستيقنون!! 


وتلك شهادة ربهم الذي يعلم ما يعلنون وما في صدورهم يُخفون ويكتمون

لقد كانوا يعلمون
وكان فرعون يعلم

 رغم كل من أحاطوا به من المُزينين، ومن حُشر حوله من الكهنة و السحَّارين والمدلسين، ورغم كل من تكالب عليه من المداهنين والمطبلين، الذين هم لفتات الموائد آكلون، ممن يجعلون رزقهم أنهم يُكَذِّبون ويَكذبون ولظلم فرعون  هم يشرعنون , فقد كان يعلم 
بل ويوقن
لقد ظل في نفسه وميض معرفة يوقن من خلاله أن كل هذا التطبيل والتزيين والنفاق والتأويل، ما هو إلا قشرة زائفة تحيط بحقيقته القبيحة

{وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا}

هذا بالنسبة للشق الأول من الأسئلة
لكن ماذا عن الشق الثاني؟
كيف سينام فرعون والملأ مع جرمهم وكيف مع خطاياهم سيتعايشون؟
كيف لا يحتقرون أنفسهم التي يعلمون حقيقتها الكامنة خلف الأصباغ والزينة؟

هناك عدة وسائل سيواجه بها فرعون  خطأه وسيتعايش مع فساده وسيطبع مع ظلمه  
وليس فرعون وحده من يجيد هذه الوسائل لكن الحقيقة أن كل مخطيء يجيدها بقدر قد لا يوازي براعة فرعون لكنه بلا شك سيطرق أبوابها ليستطيع التعايش مع خطاياه
 
أولى تلك الوسائل أن يتناسى تلك الحقائق التي يعلمها جيدا عن نفسه ويخدر ضميره ويخرسه تماما ويتغافل عن كل تلك النكزات والوخزات التي تؤرقه بها أحيانا بقايا ذلك الضمير

وحينئذ على من اتبع تلك الوسيلة ألا يجلس كثيرا مع نفسه وأن يعيش في صخب شديد وضجة عالية يخبو معها كل صوت ينبعث من أي ناصح أمين 
بل حتى ذلك الصوت الذي ينبعث من روحه معاتبا أو مؤنبا ينبغي أن يخمده ومن ثم يخلد إلى فراشه آخر اليوم وقد خارت قواه وهوى في سبات عميق يشبه الغيبوبة فلا يملك الوقت ولا القدرة أن يراجع نفسه أو يحاسبها

الوسيلة الثانية تتلخص في كلمة واحدة (البجاحة)  .. 
هذا أنا وهكذا حالي وهو يعجبني على وضعه ذاك

هكذا يقطع على نفسه وغيره كل طريق لوم أو عتاب وتأنيب؟
وتلك درجة متقدمة من التفلت والفجور إذ كيف ستلوم من هو مفتخر بباطله متصالح مع فساده، منافح عنه ومدافع عن خلله وانحرافه

ولقد استعمل فرعون هذه الطريقة بوضوح
{قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَٰهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ}
هكذا قالها صريحة وتبجح بها
ستؤمن بالإكراه اقتنعت أم لم تقتنع
إنها شهادة منه على نفسه أن الأمر مجرد إجبار وليس فيه من المنطق شيء
حين يصل المرء لهذه الدرجة من التبجح  فهو لا ينكر أن ما هو عليه قد يكون خطئا أصلا لكي ينفق الوقت والجهد في إقناعه بأن ما يفعله خطئا
ولا هو معترف نادم يتمنى إصلاحا..  بل هو ببساطة صريح متبجح بفساده مباهٍ به مُصرٌّ عليه
 
أما الوسيلة الأخيرة فهي إدمان خداع النفس والركون إلى المهاترات والمعاذير الواهية والمبررات المتكلفة والحجج المتهافتة حتى يحدث المحظور ويصدق المرء خداعه لنفسه ويقع في حبائل أكاذيبه وترهاته فتُطمس فطرته ويغيب تمييزه ويقتنع فعلا أنه على حق ويُزَيَّن له سوء عمله فيراه حسنا

{أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً} [سورة فاطر]

وهذا في رأيي أصعب النماذج وأضل الأنواع ولقد سماهم الله بالأخسرين أعمالا
"قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا  الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا"
(سورة الكهف)  

ولقد حاول فرعون أن يستعمل هذا الأسلوب وأن يخدع الناس بحجج باهتة وأدلة واهية
{وَنَادَىٰ فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَٰذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي ۖ أَفَلَا تُبْصِرُونَ * أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَٰذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ * فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ}
[ الزخرف 51 - 53]

الملك والأنهار التي تجري فيه والقدرة على البيان والذهب والزخرف
هل هذه أدلة ألوهية 
هل هي حجج أن صاحبها على حق
لا يقول ذلك إلا سفيه كفرعون
لكنه لجأ إليها وخدع بها نفسه ومن استخفهم

إن الواحد من هؤلاء في الحقيقة ليخدع نفسه قبل أن يخدع الناس والأدهى أنه يصدق أكاذيبه ويعجب بألاعيبه لدرجة مذهلة تصل به إلى أن يجتريء على ممارسة ذلك الخداع مع خالقه يوم القيامة

{يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ ۖ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَىٰ شَيْءٍ

لكن  مع كل ذلك الحلِف والظن أنهم على شيء فإن وصفهم الذي لا يغادرهم والذي ختم الله به تلك الآية يظل هو الكذب والخداع
{أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ}
وأول من كذبوا عليه وخدعوه , تلك الأنفس التي بين جنوبهم !
فيالحماقتهم!