كلمة حق

زغلول النجار

{وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ
خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ
عَذَاباً عَظِيما}

  • التصنيفات: النهي عن البدع والمنكرات -


إلى رجال الشرطة المصرية الذين أمطروا شباب مصر الحر بوابل من الرصاصات المطاطية والحية وبخراطيم المياه المغرقة ثم اختفوا تماما عن الساحة متترسين في ميدان التحرير وفي قمم وزارة الداخلية وقمم غيرها من المباني العالية بعد أن تركوا عشرات الشهداء ومئات من الجرحى إلى عصابات المجرمين والقتلة الذين حاصروا المعتصمين بالميدان يومي الأربعاء والخميس (30،29 صفر 1432هـ/3،2 فبراير 2011م) وقاموا برجمهم بأطنان الأحجار وآلاف من القنابل الحارقة فأسقطوا عشرات من الشهداء ومئات من الجرحى من أبناء وبنات مصر.

وإلى عصابة الأوغاد السفلة الذين أغاروا علي الشباب المعتصمين بميدان التحرير بالبغال والجمال والأسلحة البيضاء في هجمة همجية حقيرة لا يقوم بها إلا القتلة والسفاحين في عصور الجاهلية.

وإلى المجرمين الأوغاد معدومي الضمير والأخلاق والشرف والذين قادوا السيارات بسرعات جنونية مذهلة وسط حشود المعتصمين بالآلاف في ميدان التحرير فقتلوا وجرحوا تحت عجلات سيارتهم الآثمة عشرات الشهداء من أبناء مصر أهدي لهم حكم الله- تعالي- فيهم وهو أحكم الحاكمين.


من أسرار القرآن:
{وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيما } [النساء:93].
هذه الآية الكريمة جاءت في بدايات النصف الثاني من سورة "النساء"، وهي سورة مدنية، وآياتها مائة وست وسبعون (176) بعد البسملة، وهي رابع أطول سور القرآن الكريم، وقد سميت بهذا الاسم لكثرة ما ورد فيها من الأحكام الشرعية التي تتعلق بالنساء، ولذلك تعرف باسم "سورة النساء الكبرى"، تمييزا لها عن سورة "الطلاق" التي تعرف باسم "سورة النساء الصغرى".

ويدور المحور الرئيسي لسورة "النساء" حول قضايا التشريع لكل من المرأة، والأسرة، والمجتمع، والدولة، وذلك من مثل قضايا الزواج، والطلاق، والمواريث، والعبادات، والجهاد في سبيل الله. كذلك نبهت سورة "النساء" إلى ضرورة حسن تربية الفرد المسلم وذلك من أجل بناء كل من الأسرة المسلمة، والمجتمع المسلم، وتطهيرهما من المخالفات الشرعية، ومن رواسب الجاهلية القديمة والجديدة .

هذا، وقد سبق لنا استعراض سورة "النساء"، وما جاء فيها من التشريعات الإسلامية، وركائز العقيدة، والإشارات الكونية، ونركز هنا على وجه الإعجاز التشريعي في تحريم القتل -بصفة عامة- وتحريم قتل المؤمن لأخيه المؤمن متعمدا- بصفة خاصة-. وقد أدى ذلك التحريم بالمؤمنين الأوائل أن الفرد منهم كان يرى قاتل أبيه أو أخيه أو ولده قبل أن يسلم، كان يراه يمشي على الأرض أمامه وقد دخل في الإسلام فلا يفكر في أي أذى يصيبه، رغم مرارة الفراق، وقسوة قتل الأحباب، وذلك انطلاقا بتحريم الإسلام العظيم قتل المؤمن لأخيه المؤمن.


من أوجه الإعجاز التشريعي في تحريم قتل المؤمن لأخيه المؤمن:
يقول ربنا تبارك وتعالى في محكم كتابه:
{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُوا فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللَّه وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً . وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً } [النساء: 92-93].

ومن معاني هاتين الآيتين الكريمتين أن سفك دم المؤمن عمدا بدون حق هو من الكبائر التي توجب الخلود في النار وعليه فإنه لا ينبغي للمؤمن أن يقتل مؤمنا أبدا بغير حق، إلا إذا وقع ذلك بالخطأ أي عن غير قصد. فإذا حدث ووقع قتل المؤمن لأخيه المؤمن بطريق الخطأ في مجتمع للمسلمين، فإن الشرع يفرض على القاتل عتق رقبة مؤمنة، كفارة عن حق الله، فمن لم يجد فعليه صيام شهرين قمريين متتابعين توبة إلى الله، ودفع دية مسلمة إلى أهل القتيل تدفعها عاقلته (أي عصبة أهله من جهة أبيه) إلا إذا عفا أهل القتيل عنه، وأسقطوا الدية باختيارهم، وحينئذ فإن الدية لا تجب عليه، وتبقى عليه الكفارة. وذلك لقول الله تعالى:
{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُوا} [النساء:92].


وإذا كان القتيل مؤمنا وأهله من أعداء المسلمين فإن الشرع يفرض على القاتل عتق رقبة مؤمنة، فمن لم يجد فصيام شهرين قمرين متتاليين توبة إلى الله، ولا دية عليه لأهل القتيل لأنهم أعداء محاربون للمسلمين، فلا يجوز إعطاؤهم من أموال المسلمين ما يستقوون به عليهم ويستعينون على قتالهم وإيذائهم، ولا مكان هنا لاسترضاء أهل القتيل لأنهم أعداء محاربون للمسلمين. وإذا كان القتيل معاهدا أو ذميا، فإن الشرع يفرض على المؤمن القاتل بالخطأ في هذه الحالة ما يفرضه في قتل المؤمن في المجتمع المسلم:عتق رقبة مؤمنة فإن لم يجد فصيام شهرين قمريين متتاليين، ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يعفوا. ولم تنص الآية الكريمة في هذه الحالة على كون المقتول مؤمنا مما جعل عددا من المفسرين يأخذون النص على إطلاقه، باعتبار أن العهد بين المؤمنين وغير المؤمنين يجعل الدماء بينهم مصونة، ولكن لما كانت الآية من مطلعها تنصب على تحريم قتل المؤمن بغير حق، ثم بينت الحالات التي يكون القتيل فيها مؤمنا، ومن هنا فقد رأى بعض المفسرين أن القتيل المعاهد أو الذمي إذا لم يكن مؤمنا يكتفى في هذه الحالة بدفع الدية إلى أهله كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في دفع الدية لبعض قتلى المعاهدين دون عتق رقاب بعددهم. ثم شرع الله سبحانه وتعالى لمن يقتل مؤمنا متعمدا الخلود في نار جهنم، واستحقاق غضب الله ولعنته، والعذاب الشديد الذي توعده به وأعده له يوم القيامة.

والإسلام العظيم حرم قتل النفس بغير الحق بصفة عامة، وذلك صونا للأنفس عن الإهدار، فإن للدماء حرمتها، فلا يستباح إلا بالحق وبالأمر البين الذي لا إشكال فيه، وذلك لأن الله تعالى هو واهب الحياة، ولا يجوز أن ينهيها غيره إلا بإذنه، فإذا أقدم إنسان على قتل إنسان آخر بغير حق فكأنما قد اعتدى على حق من حقوق الله، ولذلك قال تعالى في ولدي آدم: {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الخَاسِرِينَ } [المائدة:30].


وقال وقوله الحق:
{مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِّنْهُم بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ } [المائدة:32].

وقال عز من قائل: {وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلاَ يُسْرِف فِّي القَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنصُوراً} [الإسراء:33].

وفي ذلك قال رسول الله الله صلى الله عليه وسلم: « لزوال الدنيا أهون على الله من قتل رجل مؤمن » (البيهقي، الترمذي) وقال عليه الصلاة والسلام: «من أعان على قتل مؤمن بشطر كلمة جاء يوم القيامة مكتوب بين عينيه آيس من رحمة الله » وذلك أفتى ابن عباس -عليهما رضوان الله- بعدم قبول توبة قاتل المؤمن عمدا، بينما ذهب جمهور العلماء إلى أن توبة القاتل عمدا يمكن أن تقبل، واستدلوا على ذلك بأن الكفر أعظم من القتل العمد، وتوبة الكافر قد تقبل، والخلود في جهنم لقاتل المؤمن عمدا هو مشروع لمن استحل قتله، وقد يكون المقصود بالخلود هنا طول المكث لقول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً} [النساء:48].


والقتل إما عمدا أو شبه عمد أو خطأ، أما العمد فهو القصد إلى القتل بما يفضي إلى الموت، وهذا ما يوجب القصاص والحرمان من الميراث، وتحمل غضب الله ولعنه والخلود في نار جهنم وما فيها من عذاب عظيم في الآخرة كذلك لقول ربنا تبارك وتعالى:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِصَاصُ فِي القَتْلَى الحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ . وَلَكُمْ فِي القِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [البقرة:178-179].


 

المصدر: موقع الشيخ زغلول النجار