وقفات مع زلزال اليابان

ملفات متنوعة

إن ما نراه اليوم من الفتن والمصائب والمحن والزلازل المدمرة
والأعاصير المهلكة والفيضانات القاتلة ما هي إلا رسائل من الله تعالى
إلى الناس لعلهم يرجعون..

  • التصنيفات: أحداث عالمية وقضايا سياسية -



بسم الله الرحمن الرحيم


أما بعد:
إن ما نراه اليوم من الفتن والمصائب والمحن والزلازل المدمرة والأعاصير المهلكة والفيضانات القاتلة ما هي إلا رسائل من الله تعالى إلى الناس لعلهم يرجعون، قال تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم :41] وقال أيضا: {وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا} [الإسراء:59].
 
فالله سبحانه يُري عباده من آياته ليعتبروا ويتوبوا، فالسعيد كل السعادة من تنبه وتاب إلى الله، والشقي كل الشقاوة من غفل واستمر على المعاصي ولم ينتفع بآيات ربه، وما جرى في اليابان من الزلازل المدمرة قبل أيام ما هي إلا آية من آيات الله تعالى، وما هي إلا عقوبة إلهية تستهدف تأديب العصاة والمفسدين، وهي تنبيه للغافلين، وابتلاء المؤمنين.
 
 
ففي يوم الجمعة 11 /3/ 2011 ضرب زلزال شديد شرق اليابان، ويعتبر هذا الزلزال من الزلازل المدمرة جداً، وكانت مدته دقيقتين ونصف تقريباً، واليابان تعتبر من أكثر دول العالم استعدادًا للزلازل حيث تعتمد على آلية دقيقة في البناء تخفف من تأثير الزلازل، ولكن ومع كل تلك التقنيات والتجهيزات إلا أنها لم تغن عنها شيئاً لما جاء قدر الله، حتى صرح رئيس الوزراء الياباني بأن بلاده تواجه بسبب هذا الزلزال أفدح كارثة منذ الحرب العالمية الثانية، وعندما نتأمل الخسائر التي ظهرت بعد هذا الزلزال يتبين لنا حجم القوة الهائلة التي أحدثها الزلزال في مدن اليابان، فقد وصلت خسائر اليابان إلى: أكثر من 34 مليار دولار، وإلى أكثر من10 آلاف قتيل ومفقود، وأكثر من 500 ألف مشرد بلا مأوى، وأكثر من 4 ملايين منزل فقد الكهرباء.

 
ولكم أن تتأملوا في مدة الزلزال (دقيقتان ونصف) والخسائر كما ذكرنا، فما ظنكم لو كان الزلزال نصف ساعة؟ ماذا ستكون الخسائر؟ والله ينبغي على كل مسلم أن يقف أمام هذا الزلزال المدمر الذي ضرب اليابان وقفة تأمل وتدبر وعظة واعتبار، فالمؤمن يعتبر بكل شئ، ويتعظ من كل حدث، ويأخذ منه درسه، المسلم لمثل هذه الأحداث ينبغي أن يفتح أذنه وعينه وقلبه ليعتبر ويتعظ، ويأخذ منها الدروس والعبر، وأنا أحببت أن أقف مع هذا الحدث وقفات مهمة ينبغي على كل واحد منا أن يجعلها نصب عينه:
 
الوقفة الأولى: الزلزال جندي من جنود الله.
على المسلِمَ أن يقِف أمامَ هذه الزلزال موقفَ التفكُّر والاعتبار، يتذكُّر قوّةِ ربِّه الأعلى وقدرتِه سبحانه، تلك القوة والقدرة التي لا تماثِلُها أيُّ قوّةٍ قال تعالى: {مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج :74]، وقال جلّ وعلا: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِين} [الذاريات:58].


إن هذا الزلزال ما هو إلا جندي من جنود الله قال تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر:31]، هذا الزلزال عذاب من عذاب الله، يسلّطه على من يشاء، لا يستطيع المخلوق الضعيف أن يقف أمامه مهما بلغت قوته، الإنسان الذي استطاع أن يفعل ما يفعل، الإنسان في الغرب صنع الكمبيوتر وغزا الفضاء ووصل إلى القمر ووقف على سطحه، ولكنه أمام جنود الله تعالى لا يستطيع أن يفعل شيئا، ربما يكتشف أن هناك احتمال لزلزال سيقع ولكن متى يحدث وفي أي وقت وما مقدار قوته فإنه لا يستطيع قال تعالى: {وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ العلم إِلاَّ قَلِيلاً} [الإسراء:85].

 
وإن ما يدعو إلى العجب أن أكثر وسائل الإعلام صرحت بأن مثل هذه الكوارث ما هي إلا ظواهر طبيعية، وأنّ سببها مجرد تصدّع في باطن الأرض ضعُفت القشرة عن تحمّله، ولكن شريعتنا الغراء تقول لهم: هذا الكلام صحيح، لكن قولوا لنا مَن الذي قدّر لهذا الصدع أن يحدث؟ ومن الذي أضعف قشرة الأرض أن تتحمّله؟ أليس هو الله القادر؟! أليس هو الله القائل: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82]؟! أليس الله سبحانه أخبر عن نفسه أنه يفعل ذلك بسبب ذنوب ومعاصي بني آدم، قال تعالى: {فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّن أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَّنْ أَخَذَتْهُ الصيحة وَمِنْهُمْ مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الأرض وَمِنْهُمْ مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ الله لِيَظْلِمَهُمْ ولكن كانوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [العنكبوت:40].

 
أين خالق الطبيعة سبحانه وتعالى؟ لماذا لا يعترفون بأنه غضب من الله تعالى؟ إن الطبيعة مخلوق من مخلوقات الله، وإن الله تعالى هو الفاعل الوحيد والمطلق في الكون كله، قال تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام: 59].

 
لقد قصّ الله علينا في القرآن الكريم خبر كثير من الأمم التي أهلكها بسبب المعاصي الجماعية وذكر لنا جريمتهم التي استحقوا بها ذلك العقاب، فقال تعالى وهو يتحدث عن قوم عاد: {وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْاْ رُسُلَهُ واتبعوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ . وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ} [هود:59-60]، وقال الله تعالى عن قوم لوط: {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ . مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} [هود:82-83]، وقال عن قوم شعيب: {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ . كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ} [هود:94-95].

 
إن لله تعالى سنن في عقوبة المجتمعات التي تفشو فيها المعاصي التي يتواطأ عليها المجتمع ويقرها أهله فيقول عز من قائل: {وكذلك أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ القرى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود:102].
 
والعذاب قد يكون من الكوارث والزلازل والأعاصير، وقد يكون غير ذلك من البلاء والفتن التي تسلبهم نعمة الأمن والاستقرار وتضر بهم بالخوف والجوع والذلة والمسكنة كما قال تعالى: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ} [الأنعام:65].
 
فأين من يتعظ؟ وأين من يأخذ الدرس والعبرة من هذه الأحداث؟ وأين من يعتقد الاعتقاد الجازم بأن الله قادر على كل شئ ولكنه يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته.

 
الوقفة الثانية: رسالة إلى أهل الدنيا.
إن ما يجري في هذا الكون من الزلازل والفيضانات ما هي إلا رسالة من الله تعالى إلى كل من يتشبث بالدنيا الفانية، ويلهث وراءها ويحرص عليها ويتهافت عليها تهافت الذباب على الشراب أو تقاتل الكلاب على الجيف، هذه الدنيا لا تساوي شيئا، الإنسان يكون في بيته ولا يدري أنه بعد قليل سينهدم به بيته وتتزلزل الأرض من حوله، فإذا بالبنيان الشاهق ينهار، وترى الناس بعد لحظات قد ماتوا والعمر الآن قد خرب، والمال قد ضاع هذه هي الدنيا التي نتقاتل عليها، هذه هي الدنيا التي من أجلها تقاطع الأخ مع أخيه، وظلم الأخ أخاه، وسفك الأخ دم أخيه.
 
جُبِلَتْ على كَدَرٍ وأنت تُريدُها *** صَفْواً مِنَ الأقذارِ والأكْدارِ
ومَكـَلِّفُ الأيامِ ضِـدَّ طِباعِهـا *** مُتَطَلِّبٌ في الماءِ جَذْوَةَ نارِ

فأين من يتعظ؟ أين من يأخذ الدرس والعبرة من هذا الحدث؟ ويعلم أن الدّنيا دَار مَن لا دارَ له، ومالُ مَن لا مال له، ولها يجمَع مَن لا عقلَ له.
 
هي الدنيا تقولُ بملءِ فيها *** حذارِي حذاري من بَطَشِي وفَتْكِي


الوقفة الثالثة: تذكر يوم القيامة.
أراد الله تعالى من خلال هذه الزلازل أن ينبه الناس إلى شئ عظيم، وأن يذكرهم بأمر عظيم، ألا وهو زلزال القيامة قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ . يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:1-2]، زلزال اليابان كان مدته دقيقتين وفعل ما فعل فكيف لو كان نصف ساعة أو ساعة ماذا سيكون؟ فكيف بزلزال يوم القيامة {وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ . لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ . خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ . إِذَا رُجَّتِ الأرْضُ رَجًّا . وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا . فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا} [الواقعة: ا:6].


إِذَا رُجَّتِ الأرْضُ رَجًّا أي زلزلت زلزالا عنيفا، واضطربت اضطرابا شديدا، بحيث ينهدم كل ما حولها، وما فوقها من بناء شامخ، وطود راسخ، قال المفسرون: ترج كما يرج الصبي في المهد، حتى ينهدم كل ما عليها من بناء، وينكسر كل ما فيها من جبال وحصون.

فالله تعالى أراد أن يذكرنا من خلال هذه الأحداث بيوم الطآمة الكبرى بيوم الصآخة، بيوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه، مشكلتنا أن القيامة بمعزل عن عقولنا، كأننا مخلدون في هذه الدنيا، وكأن الموت على غيرنا كُتب، ولا نفكر بالآخرة لولا نفكر بلقاء الله، والله لو حملنا فكرة القيامة في عقولنا لاعتبرنا وغيرنا من أحوالنا؟ ولتاب المتكاسل عن الصلاة فحافظ على الجمع والجماعات، ولتاب المرابي والمرتشي والذي يغش في المعاملات، لأصلحنا أنفسنا وطهرنا بيوتنا من المفاسد التي أفسدت الأخلاق، وربينا أولادنا على طاعة الله.. هذا لقمان الحكيم يوصي ولده فيقول له: (يا بني: اثنتان لا تذكرهما أبدا إحسانك إلى الناس وإساءة الناس إليك، واثنتان لا تنساهما أبدا الموت والدار الآخرة).
 
فما أحوج الأمة أن تتذكر الآخرة، أن يتذكروا أن هناك يوما بانتظارهم يوم لا تخفى فيه خافية، يوم سيقف فيه المظلوم والظالم وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.

 
فعلى المسلم أن يعلم أن هذه المصائب من العواصف والأعاصير والزلازل التي يجريها علينا رب العزة والكمال ما هي إلا تنبيه إلى الناس ليستيقظوا من سباتهم ويفيقوا من غفلتهم، فالدرس المهم الذي لا بد للأمة أن تتعلمه من هذه الأحداث هو التوبة: من العصيان، من ذنوبهم، من أطماعهم، من شهواتهم، من ظلمهم، وأن يولدوا من جديد فكل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابين.
 
نسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يلطف بنا في قضائه وقدره، وأن يذهب عنا شر الزلازل وأن يقينا ما ظهر منا وما بطن وألا يهلكنا بما فعل السفهاء منا.
 
المصدر: الشيخ محمد جمعة الحلبوسي - موقع الألوكة