مقتل بن لادن.. هدف أمريكي في الوقت الضائع

ملفات متنوعة

من المؤكَّد أن مقتل أسامة بن لادن سوف يثير غضب المتعاطفين معه، ومع
تنظيم القاعدة في العالم الإسلامي، كما أنه - بالتأكيد - سيثير لدى
بعض الأمريكيين مشاعر الفرح للإنتقام لقتلى هجمات 11 سبتمبر...

  • التصنيفات: أحداث عالمية وقضايا سياسية -


من المؤكَّد أن مقتل أسامة بن لادن سوف يثير غضب المتعاطفين معه، ومع تنظيم القاعدة في العالم الإسلامي، كما أنه - بالتأكيد - سيثير لدى بعض الأمريكيين مشاعر الفرح للإنتقام لقتلى هجمات 11 سبتمبر، لكن الحقيقة الأكبر هي أنه لا المسلمون، ولا الأمريكيون يعتبرون "بن لادن والقاعدة" قضيتهم المركزية في الوقت الراهن، وأن باراك أوباما المحبط اقتصاديًّا، والمحاصر سياسيًّا من خصومه الجمهوريين المسيطرين على مجلس النواب أراد أن ينقذ حظوظه المتدنِّية في الفوز بولاية رئاسيَّة ثانية في انتخابات 2012، ولم يكن هناك من بداية أفضل لحملته الانتخابية من "صيد ثمين" بوزن أسامة بن لادن.

وورقة "بن لادن" تحمل دلالاتٍ كثيرةً لأوباما في صراعه مع الجمهوريين، فالرجل وتنظيمه وجَّها الضربة الأعنف للولايات المتحدة على أراضيها منذ الحرب العالميَّة الثانية، وذلك في ظل وجود إدارة جمهورية برئاسة جورج بوش الابن، وقد أنفقت هذه الإدارة مئات المليارات في حروب عبثيَّة في أفغانستان والعراق تحت عنوان "الحرب على الإرهاب"، مما قاد الاقتصاد الأمريكي لأزمته الحالية، وهكذا يمكن لباراك بأن يحاجج بأنه حقَّق الهدف الذي عجز الجمهوريون عند تحقيقه طوال ولايتي بوش، إضافة إلى أنه أوقف نزيف الخسائر المادية والبشريَّة بالانسحاب من العراق، وهو في طريقه لخطوة مماثلة في أفغانستان.


"رسائل انتخابيَّة"

كذلك فإن أوباما بتلك العمليَّة يرد على اتِّهامات الجمهوريين له بإضعاف صورة أمريكا عبر العالم، ويرسل رسالة للمواطنين الأمريكيين بأنه الأقدر على ضمان أمنهم بطريقة فعالة، وسلسة، ودون التضييق على حريتهم، كما كان يحدث في ظل إدارة بوش، وهكذا فإن أوباما انتزع ورقة الأمن، ببعدَيْها الداخلي والخارجي من أيدي الجمهوريين، ليفقدَهم إحدى أقوى أوراقهم التي كانت ستمثل إحراجًا، ونقطة ضعف جوهريَّة لأوباما في حملته الانتخابيَّة المرتقبة.

لكن ذلك كله يتعلَّق بحسابات الانتخابات وكاميرات الإعلام، أما ما يتعلق بحسابات المواطن العادي عبر العالم، فمن المؤكَّد أن بن لادن وتنظيم القاعدة فقد الكثير من بريقه وحضوره في السنوات الأخيرة، ففي أمريكا بات الوضع الاقتصادي المتدهور وملايين الوظائف التي تتبخر كل شهر، هو الشغل الشاغل للأمريكيين، حيث يتسع عجز الميزانيَّة عامًا بعد آخر، بما يجعل أمريكا - بجدارة - أكبر مدين في العالم، بل إن طبع الحكومة الأمريكيَّة لعشرات المليارات من الدولارات لتغطية العجز يعني أن الأمريكيين يعيشون "عالة" على الدول التي تمتلك احتياطات نقديَّة دولاريَّة، مستفيدين في ذلك من كون الدولار العملة المعتمدة في معظم شبكات التجارة العالميَّة.

ولا يختلف الأمر كثيرًا في أوروبا، حيث تراجعت "رفاهية" الحديث عن اعتبارات الأمن، أو حتى اندماج المسلمين في المجتمعات الأوروبيَّة، وبات الجهد الأكبر موجهًا لإنقاذ اقتصادات القارة العجوز من أزمات الديون المتراكمة في اليونان وأسبانيا والبرتغال وإيطاليا، أما الاقتصادات الأكثر عافيةً مثل ألمانيا وفرنسا وبريطانيا فهي تقاتل من أجل الخروج من دائرة الركود، وتجنُّب فقد مزيد من مواطنيها لوظائفهم، عبر وضع خطط تقشفيَّة صارمة، الأمر الذي قلَّص بشدة برامج الرعاية الاجتماعيَّة، والمزايا التي تتمتع بها الفئات الأقلّ ثراءً، وولد حالة من الغضب والاحتقان، لدرجة بات معها الاحتفال بمقتل بن لادن، أو حتى الاهتمام بمصيره، خارج دائرة الأولويات لغالبية الأوروبيين.


"الأولويَّة للثورات"

أما على الصعيد العربي فقد تغيَّر المشهد بصورة كليَّة في الأشهر الأخيرة، وبعدما كان "بن لادن" رمز الكرامة المهدورة لملايين المسلمين حتى ممن لا يتعاطفون مع توجهاته الفكريَّة، بات شهداء الثورات في تونس ومصر واليمن وليبيا وسوريا هم "تاج الرأس" وعنوان الكرامة، بعدما أسقطوا نظامي "بن علي" و"حسني مبارك" العتيدين، وزلزلوا أركان حكم "علي صالح"، و"بشار الأسد"، و"معمر القذافي" في حين فشلت القاعدة في هزّ شعرة واحدة من رأس أحدهم، بل كانت هي الفزَّاعة التي استخدموها لقهر شعوبهم، ونسج تحالفات مع الغرب بدعوى أنهم حائط الصدّ الأخير لمنع الإسلاميين من القفز على الحكم.

وهكذا فإن الآلاف الذين كانوا يقاتلون عبر الإنترنت تعاطفًا مع القاعدة وبن لادن هجروا ذلك الطريق، أصبحوا الآن "ثوريين" يتكلمون عن قوانين الانتخابات، ويخوضون مناظرات مع منافسيهم من الليبراليين واليساريين عبر الفضائيَّات وفي أروقة الندوات، ويستعدون في مصر وتونس لتشكيل الحزب الفلاني، أو التحالف مع التيار العلاني، واتسعت أمامهم آفاق العمل الدعوي والخيري والسياسي، وبات بإمكانهم ممارسة "ثقافة الحياة" الإيجابيَّة بعدما دفعهم القمع والتضييق للجري وراء "ثقافة الموت"، ولذا لم تعد القاعدة، أو بن لادن تحتل أولوية متقدمة، حتى وإن كان البعض ما زال يحمل تعاطفًا ما تجاه التنظيم وقائده، لكن لا يتوقَّع أحد أن يدعو السلفيون في مصر، مثلا، لمظاهرة مليونيَّة في ميدان التحرير لأجل نصرة القاعدة، أو أن يوقف ثوار ليبيا معركتهم مع نظام القذافي ويحوِّلوا بوصلتهم للانتقام لزعيم القاعدة.


"صرخة مضى وقتها"

ربما كان بن لادن والقاعدة في مرحلة ما هم "صرخة الاحتجاج" التي عبَّرت عن الرفض لأنظمة القمع المتحالفة مع الغرب، لكن هذه الصرخة فقدت بوصلتها، وخصمت من رصيد المسلمين، وأضرت بصورة الإسلام أكثر مما أفادت، كما أن بوصلة بندقيتها كانت دائمًا خاطئة، وقتلت من المسلمين أكثر مما قتلت من غيرهم، ولذا كان طبيعيًّا أن يفقد التنظيم مراكز ثقله في العراق، رغم أنه في إحدى المراحل كان المتزعم للمقاومة ضد الأمريكيين، كما لم يعد للتنظيم ذكر في أفغانستان، فيما نجحت معظم الدول العربيَّة في تفكيك خلاياه وقتل أو اعتقال معظم عناصرها، لكن الأهم، والأكثر تأثيرًا هو أن المزاج العربي والإسلامي في السنوات الأخيرة لم يعد متقبلا لأفكار القاعدة، بل إن الكثيرين باتوا ينظرون إليها باعتبارها "ورقة" يلعب بها الأمريكيون والأنظمة القمعيَّة لتحقيق مآربهم الخاصة.

والمتابع للتفاصيل التي أعلنها الأمريكيون عن عملية مقتل بن لادن يلاحظ ذلك جيدًا، فهم يتحدثون عن تحديد مكانه منذ أغسطس الماضي، فلماذا تأخر التنفيذ 8 أشهر كاملة؟ مع أن "هدفًا ثمينًا" بوزن بن لادن كان يتطلب تحركًا عاجلا وفوريًّا، خاصة أن المخابرات الأمريكيَّة تمتلك شبكة جواسيس واسعة على الأرض في باكستان، والهجمات بواسطة "الطائرات بدون طيار" تعد عملا روتينيًّا شبه يومي للأمريكيين هناك، ولذا فإن البعض يجزم بأن "بن لادن" كان بمتناول يد الأمريكيين منذ وقتٍ طويل، وأن إدارة أوباما اختارت سيناريو وتوقيت العمليَّة بما يخدم مصالحها الانتخابيَّة، فالأشهر الخمسة الماضية كانت مزدحمةً بثورات تونس ومصر وليبيا واليمن وأخيرًا سوريا، ولو حدثت العمليَّة بالتزامن معها لفقدت زخمها الإعلامي، ولما وجدت إدارة أوباما من يشاركها نصرها المزعوم.


"توقيت إعلامي"

ولذا عندما هدأت الأجواء عربيًّا، وانحسرت كاميرات الإعلام عنها، وبات أوباما على أبواب حملته الانتخابيَّة، جرى إخراج سيناريو التنفيذ من الأدراج، وكان المطلوب هو "قتل" وليس "اعتقال" المطلوب الأبرز، ولعلَّ ذلك هو السيناريو الأقل كلفةً، فاعتقال بن لادن واقتياده إلى الولايات المتحدة، رغم أنه كان سيمنح أوباما نصرًا كاملا، إلا أنه كان سيكلِّف واشنطن الكثير أمنيًّا وسياسيًّا، فوجوده في الأسر كان سيؤجِّج غضب أتباعه، ويحفِّزهم على تنفيذ هجمات للانتقام، أو اختطاف رهائن للمساومة على إطلاق سراحه، كما أن محاكمته كانت ستصبح مسألة بالغة التعقيد وتجرّ على أمريكا انتقادات عدة من حيث عدالتها ونزاهة إجراءاتها.

ويلاحظ أن تحديد توقيت الإعلان عن العمليَّة، في ساعات الصباح الأولى بمعظم أوروبا والدول العربيَّة ومع بداية المساء في أمريكا، كان إعلاميًّا بامتياز، حيث يمنح ذلك الخبر أكبر قدر من تسليط الأضواء، ويجعله في صدارة المشهد لمدة 24 ساعة على الأقل، لكن ربما تُصدم إدارة أوباما بأن معظم الخبراء الذين تحدثوا للفضائيات مع الدقائق الأولى لإعلان الحدث اتفقوا على أن القاعدة وبن لادن أصبحوا خارج اللعبة منذ فترة، وأن النصر الأمريكي جاء في "الوقت الضائع"، وقد لخَّص روبرت فيسك الصحفي البريطاني الشهير المشهد قائلا: "أعتقد أن بن لادن فقد بالفعل منذ وقت طويل الحضور الذي كان يحظى به في السابق، وحقيقة الأمر أن أهم ما يحدث الآن في العالم هو الثورة الجماهيريَّة، ونهضة ملايين المسلمين للتخلص من حكامهم، وهي أهم بمراحل من مقتل رجل في منتصف العمر في جبال باكستان".


الثلاثاء 29 جمادى الأولى 1432 الموافق 03 مايو 2011 م
 

المصدر: مصطفى عياط - موقع الإسلام اليوم