التعرض إلى رحمات الله ونفحاته حتى الدخول إلى الجنان (2)

عبد الفتاح آدم المقدشي

ينبغي على المرءأن يحاسب نفسه في نهاية كل شهر ماذا استفاد من العلم مثلاً؟ وماذا استفاد من العبادة مثلاً؟ وماذا استفاد من الكف عن المعاصي مثلاً؟ وماذا استفاد من تربية نفسه ولغيره بالدين الحق وبالأخلاق الجميلة؟

  • التصنيفات: التصنيف العام - الحث على الطاعات -
التعرض إلى رحمات الله ونفحاته حتى الدخول إلى الجنان (2)

كيف يُنال الإيمان بالله والاعتصام به فقد بيَّن الله في سورة آل عمران فقال سبحانه: {وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} الآيات.

إذ التقوى حق التقوى وعدم الموت إلا بالإسلام معناه التعرض إلى رحمات الله حتى الممات والدخول إلى الجنان.

وهذا إنما يتحقق إذا حقق المرء ما جاء في قوله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} وهذا معناه الالتزام بالخوف من مقام الله ونهي النفس عن الهوى لتدخل جنة المأوى.

والخوف من مقام الله ونهي النفس عن الهوى إنما معناه كما جاء في سورة ق أن يكون المرء أواب حفيظ والتي معناها كما جاء تفسيرها في الآية التي بعدها خشية الرحمان بالغيب وأن يأتي المرء بقلبٍ منيبٍ فعند ذلك سوف يدخل العبد المؤمن جنة الخلد بسلام جعلنا الله من أهلها كما قال سبحانه {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ * لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} [ق 32- 35].

ثم إذا تدبَّرت في كتاب الله تجد أنك إذا جعلت حياتك كلها في سبيل الله فإنك غداً إذا مِتَّ أو قُتلت فسوف تكون فائزاً بمغفرةٍ من الله ورحمة اللتان هما خير مما يجمعه الناس.

أما إذا جعلت حياتك كلها غير سبيل الله فاعلم أنك ليس عندك وعد من الله للمغفرة والرحمة أي أنت على خطر فاحذر وانتبه!!

وهذا الكلام دليله واضح في قوله تعالى: {وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ * وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ} [آل عمران: 157-158 ].

بل حتى رحمتك للمؤمنين بل وللبشر كله وللحيوانات إنما تأتي بعد أن يرزقك الله إياها لتتحسن أخلاقك بها كما قال تعالى {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران: 159 ].

فعن أبي هريرة رضي الله عنه: قيل: يا رسول الله ادْعُ على المشركين، قال صلى الله عليه وسلم: «إني لم أُبعَثْ لعَّاناً، وإنما بُعِثتُ رحمة» (رواه مسلم رحمه الله).

وقال أبو هريرة رضي الله عنه: " تأتونهم تقادونهم بالسلاسل ثم تدخلوهم الجنة ".

وكان يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو فعلوا به ما يفعلون: «اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون».

بل حتى الجهاد ضد الكفار إنما هو رحمة لهم لانقاذهم من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة كما قاله ربعي لرستم قائد قوات الفرس وقد قال تعالى {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107 ].

وطبعاً، هذا القتال المسمَّى الجهاد في سبيل الله إنما هو حروب نزيهةونظيفةومقدَّسة من قبل الله منزَّهة من تطهير العرق وظلم الناس ونهب ثروات الناس وانتقامهم لأجل التزمت لكونهم يخالفون دينهم له وإنما قامتبأهدافٍ سامية وبأخلاقٍ رفيعة بل هي في منتهى الأخلاق كإكرام الأسارى واطعامهم كما قال تعالى {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} [الإنسان: 8] مع صيانة الضعفاء من النساء والأطفال والشيوخ الركع والأطفال الرضع والأحبار والرهبان في صوامعهم كما هومبثوث ذكر ذلك في السنة المطهَّرة.

ثم اعلم أن الله سبحانه امتنَّ علينا محطات لنتزوَّد منها إيماناً وتقوى ورحمات فعلى سبيل المثال منها محطَّات يوميَّة كالصلوات الخمس في اليوم والليلة ومنها محطَّات أسبوعية كيوم الجمعة ومنها محطًّات شهرية كأن يستفيد المرء في ختم القرآن لمن اقصتر جزءا واحدا مثلا - على أقل التقدير - في قراءته أو اقتصر كذلك - على أقل التقدير – في صوم ثلاثة أيام من أيام البيض مثلا لمن كان اقتصر في فعل التطوع في الصيام.

وهكذا ينبغي على المرءأن يحاسب نفسه في نهاية كل شهر ماذا استفاد من العلم مثلاً؟ وماذا استفاد من العبادة مثلاً؟ وماذا استفاد من الكف عن المعاصي مثلاً؟ وماذا استفاد من تربية نفسه ولغيره بالدين الحق وبالأخلاق الجميلة؟ 

ومنها أيضا محطات موسمية في كل سنة كالاستفادة من النفحات والرحمات العظيمة التي تتنزل في شهر رمضان المبارك والتي أعظمها ليلة القدر وهكذا العمرة في رمضان التي تعدل حجة مع النبي صلى الله عليه وسلم.

وهكذا من المحطَّات محطَّات موسمية التي تتنزل فيها الرحمات والبركات كمحطة موسم الحج الذي من أهم أيَّامه الأيام العشر والتي قسم الله بها في أول سورة الفجر،وهكذا صوم يوم عرفة الذي يكفِّر الله بها الذنوب السنة الماضية والمستقبلة ثم صيام يوم عاشوراء الذي يكفِّر الله به السنة الماضية.

وهكذا اعلم أن الفرص كثيرة لتكفير الذنوب وللاستزادة من الأجور والبركات كذلك كثيرة جداإذاً فلابد أن نتعرض لهذه الرحمات والنفحات ونعبِّيها أنفسنا لنمتلأ إيماناً وتقوى وخشوعاً.

فمن لم يستفد من كل هذه الفرص وبقي قاسي القلب محروماً من الأجور والرحمات والبركات ومن تكفير الذنوب فما أشقاه.

لقد لقيت ذات مرة في التاكسي رجلا شاباً أظنه أنه من احدى الكوريتين أو من الفلبين– والله أعلم - وقد قدَّر الله أن نجلس معاً في المقعد الخلفي من التاكسي فتجاذبنا أطراف الحديث باللغة الإنجليزية التي كان يجيدها فسألت عن دينه فأخبرني أنه نصراني فعرضت عليه الإسلام فمدح الإسلام قائلا إنكم تقابلون ربكم خمس مرات أما نحن فلا نقابله إلا مرة واحدة في الأسبوع لذلك أنا أحب الإسلام!

سبحان الله شاب صغير كافر فطِنَ الفرص الغالية التي امتن الله على الإسلام.

ثم إن الغريب في الأمر أن كثيراً من أبناء الإسلام لا يفهمون قيمة هذه الفرص الغالية والتي فهما هذا النصراني الشاب الصغير ومع ذلك فقد امتن الله عليهم هذه النعم العظيمة فلا يتعرضون لرحمات اللهوبركاته وخيراته ونفحاته.

فوالله الذي لا إله إلا هو لو قيل لأحدهم أن رئيس بلاده أعطاه فرصة ليقابله أو ليتَّصل به في الشهر مرَّة واحده أو في الأسبوعين مرة واحده بله عن كل يومٍ خمس مرات لكان على أتمِّ السعادة والسرور والاطمئنان وهو مع ذلك إنما هو عبد مربوب ضعيف مخلوق مثله يأكل كما يأكل ويشرب كما يشرب ويمرض كما يمرض ويموت كما يموت وما يدري متى يموت هو ولا غيره بالطبع لكون الإنسان مبتلى في هذه الدار الدنيوية.وأيضا ليس بيده ضر ولا نفع إلا ما كتب الله عليه سبحانه، بل كل شيء بيد الله سبحانه سواء كان ذلك نعمة وإيمان وهداية أو فتنة وضلالة وفساد فنسأل الله سبحانه أن يكتب لنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة كذلك حسنة، وأيضا لابد من التوبة ومراجعة المرء نفسه وحسابه قبل أن يحاسب كما قال تعالى {إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ * وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ}.

كما نسأله سبحانه أن يتغمدنا برحمته وفضله في الدنيا والآخرة ويقينا من مضلات الفتن كلها ما ظهر منها وما بطن إنه هو المولى والقادر على ذلك.


والله ولي التوفيق