علم المناسبات

عبد الرحمن بن معاضة الشهري

علم المناسبات علم جليل القدر، وقد نبّه إلى أهميته عدد من العلماء من أبرزهم الفخر الرازي حيث قال: «أكثر لطائف القرآن مودعة في الترتيبات والروابط»، وقال السيوطي: «علم المناسبة علم شريف قلّ اعتناء المفسرين به لدقته»

  • التصنيفات: القرآن وعلومه -

أولًا: المقصود بالمناسبات:

المناسبة: هي في اللغة: المقاربة والمشاكلة، يقال: فلان يناسب فلانًا، أي يقاربه ويشاكله. ومنه النسيب الذي هو القريب المتصل بغيره، كالأخ وابن العم.

- واصطلاحًا: هي علم تعرف منه علل ترتيب أجزاء القرآن (1).

وقد عبر عنه الإمام عبد الحميد الفراهي -رحمه الله- بـ«نظام القرآن»، وبعضهم يبحثه تحت ما يسمى بـ«الوحدة الموضوعية».

ثانيًا: أهمية هذا العلم:

علم المناسبات علم جليل القدر، وقد نبّه إلى أهميته عدد من العلماء من أبرزهم الفخر الرازي حيث قال: «أكثر لطائف القرآن مودعة في الترتيبات والروابط»، وقال السيوطي: «علم المناسبة علم شريف قلّ اعتناء المفسرين به لدقته» (2).

وقال البقاعي في نظم الدرر: «وهو سر البلاغة؛ لأدائه إلى تحقيق مطابقة المعاني لما اقتضاه من الحال، وتتوقف الإجازة فيه على معرفة مقصود السورة المطلوب ذلك فيها، ويفيد ذلك في معرفة المقصود من جميع جملها؛ فلذلك كان هذا العلم في غاية النفاسة، وكانت نسبته من علم التفسير كنسبة علم البيان من النحو». وقال العز بن عبد السلام فيه: «المناسبة علم حسن، لكن يشترط في حسن ارتباط الكلام أن يقع في أمر متحدٍ مرتبط أوله بآخره».

ثالثًا: أبرز من اعتنى بعلم المناسبة:

1- أبو بكر النيسابوري -رحمه الله-، حيث كان كثير العلم في الشريعة والأدب، وكان يقول على الكرسي في بغداد إذا قرئت عليه الآية: لمَ جُعِلَت الآية جنب هذه؟ وما الحكمة في جعل هذه السورة في جنب هذه السورة؟ وكان يزري على علماء بغداد لعدم علمهم بالمناسبة.

وقد نسب السيوطي -رحمه الله- إليه أنه أول من سبق إلى هذا العلم. والصحيح أن أولية علم المناسبة القرآنية غير واضحة تمام الوضوح إلى الآن، ولا سيما مع بقاء كثير من مصادر التفسير وعلوم القرآن مخطوطة بعيدة عن أيدي الباحثين.

وقد كتب الدكتور الفاضل عبد الحكيم الأنيس في مسألة نشأة علم المناسبات بحثًا ضافيًا في مجلة (الأحمدية) (3) بعنوان: «أضواء على ظهور علم المناسبة القرآنية»، بيّن فيه أقول العلماء في نشأة هذا العلم، وخلص إلى عدم وضوح الرؤية في هذه المسألة، وبيّن صواب ما ذكره السيوطي وأكثر الباحثين من بعده.

2- فخر الدين الرازي -رحمه الله-، حيث تميّز بالإكثار من التماس المناسبات في تفسيره، وقال: إني رأيتُ جمهور المفسرين معرضين عن هذه اللطائف غير منبهين لهذه الأسرار وليس الأمر في هذا الباب إلا كما قيل:

والنجم تستصغر الأبصار رؤيته          والذنب للطرف لا للنجم في الصغر

3- أبو الحسن الحرالي المغربي (637هـ)، ويتهم البقاعي بأنه قد أخذ كلّ ما في كتابه (نظم الدرر) من كتابه. يقول المناوي في ترجمة الحرالي: «وصنف تفسيرًا ملأه بحقائقه، ودقائق فكره، ونتائج قريحته، وأبدى فيه من مناسبات الآيات والسور ما يبهر العقول، وتحار فيه الفحول، وهو رأس مال البقاعي، ولولاه ما راح ولا جاء، ولكنه لم يتم، ومن حيث وقف وقف حال البقاعي في مناسباته» (4).

4- أبو جعفر أحمد بن إبراهيم بن الزبير الغرناطي -رحمه الله-، وله في ذلك كتاب «البرهان في ترتيب سور القرآن»، وهو كتاب ثمين.

5- البقاعي -رحمه الله- في كتابه «نظم الدرر في تناسب الآيات والسور»، وكتابه مؤلف مستقل لتلمس المناسبات بين الآيات والسور، وهو كتاب نفيس في بابه.

6- ابن النقيب الحنفي، حيث تصدى في تفسيره لذكر المناسبات.

7- السيوطي -رحمه الله-؛ فقد ألف كتابه «تناسق الدرر في تناسب السور»، وكتاب «أسرار التنزيل».

8- الشيخ محمد عبده -رحمه الله- في تفسير «المنار» الذي جمعه وأتمه رشيد رضا، حيث كان له عناية بعلم المناسبة.

9 - الأستاذ سيد قطب -رحمه الله- في كتابه «في ظلال القرآن»، وفي كتابه الآخر «التصوير الفني في القرآن»، وقد أبدع في إبراز ألوان من التناسق الفني في التصوير القرآني.

10- الشيخ مصطفى المراغي -رحمه الله- في تفسيره.

11- الشيخ عبد الله بن الصديق الغماري في كتابه «جواهر البيان في تناسب سور القرآن».

12- الشيخ طاهر الجزائري -رحمه الله- حيث تكلم عنه وعن أهميته وفوائده في كتابه «التبيان لبعض المباحث المتعلقة بالقرآن».

13- الفراهي في تفسيره «نظام القرآن وتأويل الفرقان بالفرقان».

وقد نبه كثير من العلماء على ذمَّ التكلف والتعسف في تطلب المناسبات بين السور والآيات (5).

طريقة معرفة المناسبة:

الأمر الكلي المفيد لمعرفة مناسبات الآيات في جميع القرآن، هو النظر في الغرض الذي سيقت له السورة، والنظر فيما يحتاج إليه ذلك الغرض من المقدمات، ومراتب تلك المقدمات في القرب والبعد من المطلوب، والنظر عند انجرار الكلام في المقدمات إلى ما تستتبعه من استشراف نفس السامع إلى الأحكام واللوازم التابعة له، التي تقتضي البلاغةُ شفاءَ الغليل بدفع عناء الاستشراف إلى الوقوف عليها.

فهذا هو الأمر الكلي المهيمن على حكم الربط بين جميع أجزاء القرآن، فإذا فعله القارئ تبين له -إن شاء الله تعالى- وجه النظم مفصلًا بين كلّ آية وآية، وبين كلّ سورة وسورة. والله الهادي.


(1) نظم الدرر للبقاعي (1/ 6).

(2) معترك الأقران في إعجاز القرآن (1/ 43).

(3) العدد الحادي عشر - جمادى الأولى 1423هـ، وهي مجلة تصدر عن دار البحوث للدراسات الإسلامية وإحياء التراث في دبي بالإمارات العربية المتحدة.

(4) الكواكب الدرية (2/465).

(5)ممن نبّه على ذلك: العز بن عبد السلام والشوكاني -رحمهما الله-.