فوائد من بدائع الفوائد لابن القيم (2-4)

فهد بن عبد العزيز الشويرخ

السبب العاشر:تجريد التوحيد والتَّرحُّل بالفكر في الأسباب إلى المسببُ العزيز الحكيم والعلم بأن هذه آلات بمنزلة حركات الرياح, وهي بيد محركها وفاطرها وبارئها لا تضرُّ ولا تنفعُ إلا بإذنه

  • التصنيفات: طلب العلم -

أنواع الشرور المستعاذ منها في سورتي الفلق والناس:

الشرُّ الذي يصيبُ العبدَ, لا يخلو من قسمين:

إما ذنوب منه يعاقب عليها, فيكون وقوع ذلك بفعله وقصده وسعيه, ويكون هذا الشرُّ هو الذنوب وموجباتها وهو أعظم الشرَّين وأدومهما وأشدُّهما اتصالاً بصاحبه

وإما شر واقع به من غيره وذلك الغير إما مكلف أو غير مكلف والمكلف إما نظيره وهو الإنسان, أو ليس نظيره وهو الجنِّيُّ, وغير المكلف مثل الهوامِّ وذوات الحمى

فتضمنت هاتان السورتان الاستعاذة من هذه الشرور كلها, بأوجز لفظ وأجمعه وأعمِّه استعاذة, بحيث لم يبق شر من الشرور إلا دخل تحت الشر المستعاذ منه فيهما

زوال النعم بالمعاصي:

هل زالت عن أحدِ قطُّ نعمة إلا بشؤم معصيته, فإن الله إذا أنعم على عبد بنعمة حفظها عليه, ولا يغيرها عنه حتى يكون هو الساعي في تغيرها عن نفسه:  إِ {نَّ اللَّـهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَومٍ حَتّى يُغَيِّروا ما بِأَنفُسِهِم وَإِذا أَرادَ اللَّـهُ بِقَومٍ سوءًا فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُم مِن دونِهِ مِن والٍ}  [الرعد:11]

ومن تأمل ما قصَّ الله تعالى في كتابه من أحوال الأمم الذين أزال نعمه عنهم, وجد سبب ذلك جميعه إنما هو مخالفة أمره وعصيانُ رسله, وكذلك من نظر في أحوال أهل عصره, وما أزال الله عنهم من نعمه, وجد ذلك كلَّه من سوء عواقب الذنوب, كما قيل:   إذا كنتَ في نعمةٍ فارعها ...... فإن المعاصي تُزيلُ النعم

فما حفظت نعمة الله بشيء قط مثل طاعته, ولا حصلت الزيادة بمثل شكره, ولا زالت عن العبد بمثل معصيته لربه, فإنها نارُ النعم التي تعملُ فيها كما تعمل النار في الحطبِ اليابس....ومن سافر بفكره في أحوال العالم استغنى عن تعريف غيره له.

 

أسباب يندفعُ بها شر الحاسد عن المحسود:

أحدها: التعوذ بالله تعالى من شره, والتحصن به, واللجأ إليه.

السبب الثاني: تقوى الله وحفظه عند أمره ونهيه, فمن اتقى الله تولى الله حفظه.

السبب الثالث: الصبر على عدوه, وأن لا يقابله ولا يشكوه, ولا يحدث نفسه بأذاه أصلاً, فما نُصِرَ على حاسده وعدوه بمثل الصبر عليه.

السبب الرابع: التوكل على الله, فـ   {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّـهِ فَهُوَ حَسْبُهُ}  والتوكل من أقوى الأسباب التي يدفعُ بها العبد ما لا يُطيقُ من أذى الخلق وظلمهم وعدوانهم...فإن الله..كافيه, ومن كان الله كافيه وواقيه, فلا مطمع فيه لعدو.

السبب الخامس: فراغ القلب من الاشتغال به, والفكر فيه....فإذا خطر بباله بادر إلى محو ذلك الخاطر, والاشتغال بما هو أنفع له وأولى به....وهذا باب عظيم النفع, لا يلقاه إلا أصحاب النفوس الشريفة والهمم العلية.

السبب السادس:الإقبال على الله والإخلاص له.فما سعادة من دخل في هذا الحصن

السبب السابع: تجريد التوبة إلى الله من الذنوب التي سلطن عليه أعداءه,...فما سُلَّط على العبد من يؤذيه إلا بذنب يعلمه أو لا يعلمه, وما لا يعلمه العبدُ من ذنوبه أضعاف ما يعلمه منها, وما ينساه مما عمله وعلمه أضعاف ما يذكره...فليس للعبد إذا بُغي عليه وأُوذي, وتسلَّط عيه خصومه شيء أنفعُ له من التوبة النصوح, وعلامة سعادته أن يعكس فِكره ونظره على نفسه وذنوبه وعيوبه, فيشتغل بها وبإصلاحها وبالتوبة منها...والله يتولى نُصرتهُ وحفظه والدفع عنه ولا بُدّ, فما أسعده من عبدٍ, وما أبركها من نازلة نزلت به, وما أحسن أثرها عليه, ولكن التوفيق والرشد بيد الله لا مانع لما أعطى ولا مُعطي لما منع, فما كلُّ أحد يُوفقُ لهذا.

السبب الثامن : وهو من أصعب الأشياء على النفس وأشقهِّا عليها ولا يوفَّق له إلا من عظُم حظُّه من الله وهو إطفاء نار الحاسد والباغي والمؤذي بالإحسان إليه فكلما ازداد أذىً وشراً وبغياً وحسداً ازدادت إليه إحساناً وله نصيحة وعليه شفقه وما أظنُّك تصدّق بأن هذا يكون فضلاً عن أن تتعاطاه, فاسمع الآن قول الله عز وجل:   {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ *وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّـهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [فصلت/34-36] وقال : } { أُولَـئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ}   { [القصص/54]

وتأمل حال النبي صلى الله عليه وسلم الذي.ضربه قومه حتى أدموه فجعل يسلُتُ الدم عنه ويقول: «اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون»كيف جمع في هذه الكلمات أربع مقامات من الإحسان قابل بها إساءتهم العظيمة إليه:

أحدها: عفوه عنهم, الثاني: استغفاره لهم, الثالث: اعتذاره عنهم بأهم لا يعلمون, الرابع: استعاطفه لهم بإضافتهم إليه, فقال : «اغفر لقومي»

واسمع الآن ما الذي يُسهِّل هذا على النفس, ويُطييبهُ لها وينعمها به : اعلم أن لك ذنوباً بينك وبين الله تخافُ عواقبها وترجوه أن يعفو عنها ويغفرها لك ويهبها لك, ومع هذا لا يقتصر على مجرد العفو والمسامحة حتى ينعم عليك ويكرمك ويجلب إليك من المنافع والإحسان فوق ما تُؤمله, فإذا كنت ترجو هذا من ربك أن يقابلك به إساءتك, فما أولاك وأجدرك أن تعامل به خلقهُ وتقابل به إساءتهم, ليعاملك الله هذه المعاملة, فإن الجزاء من جنس العمل.

 

السبب التاسع : الصدقة والإحسان ما أمكنه, فإن لذلك تأثيراً عجيباً في دفع البلاء, ودفع العين, وشرِّ الحاسد, ولو لم يكن في هذا إلا تجارب الأُمم قديماً وحديثاً لكفي به, فما يكادُ العينُ والحسد والأذى يتسلَّط على محسن متصدقٍ, وإن أصابه شيء من ذلك كان معاملاً فيه باللُّطف والمعونة والتأييد, وكانت له فيه العاقبة الحميدة, فالمحسنُ المُتصدِّقُ في خفارة إحسانه وصدقته, عليه من الله جُنَّة واقية وحصن حصين, وبالجملة فالشكرُ حارس النعمة من كل ما يكون سبباً لزوالها....فالمحسن المُتصدِّق يستخدمُ جنداً وعسكراً يقاتلون عنه وهو نائم على فراشه, فمن لم يكن له جند ولا عسكر وله عدو فإنه يوشكُ أن يظفر به عدُوُّهُ, وإن تأخرت مُدَّة الظَّفر, والله المُستعان.

السبب العاشر:تجريد التوحيد والتَّرحُّل بالفكر في الأسباب إلى المسببُ العزيز الحكيم والعلم بأن هذه آلات بمنزلة حركات الرياح, وهي بيد محركها وفاطرها وبارئها لا تضرُّ ولا تنفعُ إلا بإذنه فهو الذي يمسُّ عبده بها قال تعالى {وَإِن يَمسَسكَ اللَّـهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلّا هُوَ وَإِن يُرِدكَ بِخَيرٍ فَلا رادَّ لِفَضلِهِ }[يونس/107] وقال النبي علية الصلاة والسلام لابن عباس رضي الله عنهما( «واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك لم ينفعوك إلا بشيءٍ كتبه الله لك, ولو اجتمعوا على أن يضروك لم يضروك إلا بشيءٍ كتبه الله عليك» ) فإذا جرد العبدُ التوحيد فقد خرج من قلبه خوف ما سواه, وكان عدوه أهون عليه من أن يخافه مع الله تعالى..والله يتولى حفظه والدفع عنه, فإن الله يدفع عن الذين آمنوا...وبحسب إيمانه يكون دفاع الله عنه فإن كمل إيمانه كان دفع الله عنه أتم دفع وإن مزج مُزج له