أفئدتهم مثل أفئدة الطير

خالد سعد النجار

لِين من غير ضَعف، وقوة من غير عنف؛ أي: هيبة أو حزم من غير شدة، ثقة بالنفس من غير غرور أو تكبُّر.

  • التصنيفات: شرح الأحاديث وبيان فقهها - الزهد والرقائق -


 

روى الإمام مسلم عن أبي هُرَيرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «يدخل الجنة أقوام، أفئدتهم مثل أفئدة الطير»

 

** دخولهم الجنة يُشعر أن هؤلاء إنما دخلوها بسبب ما تميزوا به من هذه الصفة، وهي أن أفئدتهم مثل أفئدة الطير.

** الفؤاد هو القلب على الأشهر من كلام أهل العلم، وإنما قيل له الفؤاد لكثرة تفؤُّده، أي: توقده بالمعاني والخواطر والأفكار، فهو لا يتوقف، ويقال له القلب قيل: لأنه كثير التقلب، فهو أشد تقلباً من القِدر إذا استجمعت غلياناً

** قوله (أَفْئِدَتُهُمْ مِثْلُ أَفْئِدَةِ الطَّيْر) فيها ثلاثة وجوه:

1/ الوجه الأول:

قلوبهم مثل أفئدة الطير في «التَّوكُّل»؛ فهم في توكُّلهم على الله مثل الطير التي هي أعظم المخلوقات توكلاً على الله، تجده يخرج في الصحراء لا يدري هل يَلقى حَبًّا أو لا، فيلقى حبًّا، ويملأ الله بطنه طعامًا بدون حيلة، كما جاء في الحديث: ( «لَوْ أَنَّكُمْ تَتَوَكَّلُونَ عَلَى اللهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ تَغْدُو خِمَاصًا وَتَرُوحُ بِطَانًا» )، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: ﴿ {وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} ﴾ [العنكبوت: 60].

2/ الوجه الثاني:

قلوبهم مثل أفئدة الطير في «رِقتها وضَعفها»، كما في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (أتاكم أهل اليمن، أضعف قلوبًا وأرقُّ أفئدة، الفقه يمانٍ والحكمة يمانية) [صحيح البخاري].

وأيضا قلوبهم مثل أفئدة الطير في «الخوف والهيبة»، والطير أكثر الحيوانات خوفًا وحذرًا، فهم قوم رقَّت قُلُوبهم فَاشْتَدَّ خوفهم من الْآخِرَة وَزَاد على الْمِقْدَار، فشبههم بالطير الَّتِي تفزع من كلِّ شَيْءٍ وتخافه، ويؤيد هذا عموم قوله تَعَالَى: ﴿ {إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} ﴾ [فاطر: 28]

وقد جَاءَ عَن جماعاتٍ من السّلفِ هذا الوصف من غلبة الخوف عليهم، فأفئدة هؤلاء مما حلَّ بها من هيبة الحقِّ وخوفِ جلال الله وسلطانه لا تطيق حبس شيءٍ يبدو من آثار القدرة؛ ألا ترى أن المصطفى -صلى الله عليه وآله وسلم- كان إذا رأى شيئًا من آثارها؛ كغمامٍ فزع، فإذا أمطرت سُرِّيَ عنه.

وسمع إبراهيم بن أدهم قائلًا يقول: "كل ذنب مغفور سوى الإعراض عنَّا"؛ فسقط مُغمًى عليه.

وسُمي عليُّ بن الفضيل قتيلَ القرآن.

فعن مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ الْمَكِّيُّ قَالَ: كُنَّا يَوْمًا مَاضِينَ مَعَ عَلِيِّ بْنِ الْفُضَيْلِ فَمَرَرْنَا بِمَجْلِسِ بَنِي الْحَارِثِ الْمَخْزُومِيِّ وَمُعَلِّمٍ يُعَلِّمُ الصِّبْيَانَ قَالَ: "وَيَقْرَأُ { {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} } فَشَهِقَ ابْنُ فُضَيْلٍ شَهْقَةً خَرَّ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ فَجَاءَ الْفُضَيْلُ فَقَالَ: بِأَبِي قَتِيلَ الْقُرْآنِ ثُمَّ حُمِلَ فَحَدَّثَنِي بَعْضُ مَنْ حَمَلَهُ أَنَّ الْفُضَيْلَ أَخْبَرَهُ أَنَّ عَلِيًّا ابْنَهُ لَمْ يُصَلِّ ذَلِكَ الْيَوْمَ الظُّهْرَ وَلَا الْعَصْرَ، وَلَا الْمَغْرِبَ وَلَا الْعِشَاءَ فَلَمَّا كَانَ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ أَفَاقَ "

3/ الوجه الثالث:

قلوبهم مثل أفئدة الطير فِي «الرِّقَّةِ وَاللِّينِ وَالرَّحْمَةِ وَالصَّفَاءِ، وَالْخُلُوِّ منِ الْحَسَدِ وَالْحِقْدِ وَالْغِلِّ وَالْبَغْضَاءِ». لِكَوْنِهَا خَالِيَةً مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ، سَلِيمَةً مِنْ كُلِّ عَيْبٍ.

// قال ابن هُبَيرة: "هؤلاء القوم كانت قلوبهم على مثل قلوب الطير؛ رِقَّةً لخَلق الله، ورحمةً لعباده، وشفقة على المسلمين".

// وعن أسامة بن زيد -رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: (إنما يَرحم اللهُ مِن عِباده الرُّحماءَ) [البخاري ومسلم]

// وعن عِياض بن حمار المُجاشِعِي -رضي الله عنه- أن رسول الله-صلى الله عليه وسلم-، قال: (وأهل الجنة ثلاثة:

- ذو سلطان مُقْسِط، متصدق، مُوَفّق.

- ورجل رحيم، رقيق القلب، لكل ذي قُربى ومسلم.

- وعفيف، مُتَعفِّف، ذو عيال) [مسلم]

// وعن قُرة بن إياس المُزَنِيّ -رضي الله عنه- أن رجلاً قال: يا رسول الله، إني لأذبح الشاةَ، وأنا أرحمها أو قال: إني لأرحم الشاة أنْ أذبحها؟

فقال: (والشاة إنْ رَحِمْتَها رَحِمَك الله. والشاة إن رحمتها رحمك الله) [رواه أحمد في "مسنده"، وإسناده صحيح]

 

** والمعنى: أنها قلوب ذات خشية واستكانة، سريعة الاستجابة والتأثر بقوارع التذكير، سالمة من الشدة والقسوة والغلظة.

 

** والشاهد من ذلك بيان أن هناك علاقة بين الرقة والإيمان والحكمة والفقه، ولهذه الرقة النابعة من الإيمان سمات كثيرة، وهي تشمل كل المؤمنين -رجالاً ونساءً، وشبابًا وأطفالاً- وهي:

// سرعة التأثر وسَرعان ما تذرف العين.

// سرعة الاستجابة للحق.

// سرعة الاتعاظ والتذكير، وكُره الظلم بشدة.

// التفاعل مع مَن حوله، والاهتمام بمشاعرهم فرحًا وحزنًا.

// التفكير في الآخرين، فإذا عجز عن مدِّ يد العون، فلا أقل من أن يحمل همَّهم في قلبه وعقله.

 

** وهذه الصفات العامة التي يتَّسم بها أصحاب القلوب الرقيقة - والتي هي كأفئدة الطير - لها ضوابط، ومن أبرزها:

// لِين من غير ضَعف، وقوة من غير عنف؛ أي: هيبة أو حزم من غير شدة، ثقة بالنفس من غير غرور أو تكبُّر.

// أن يحب ويبغض ويعطي ويمنع لله.

// ردود أفعاله ينبغي أن تكون متزنة دون إفراط أو تفريطٍ، وَفقًا للضوابط الشرعية، كذلك من أعظم المعاني في هذا الحديث أن صفة التوكل من أعظم ما نتعلَّمه من الطير؛ فالطير تحقق التوكل الكامل والصادق، فلا أسباب لها تعتمد عليها إلا السعي، والله أعلم.

 

جمع وترتيب

د/ خالد سعد النجار

[email protected]