العبث الخلقي

نَمط من أنماط التعبير التي سادت مجتمعات، تعاني فراغًا روحيًّا، كما كانت عليه الحال في الثمانينيات الهجرية، الستينيات الميلادية، عندما ظهرَت مجموعات من الشباب أطالت شعورها،

  • التصنيفات: قضايا الشباب -

يستمرُّ مسلسل العبَث في حياة الإنسان - اليوم - ليصِل إلى المساس بالمظهر الخِلْقي، وقد تعارفَت الحضارات على أنَّ الزينة بالجواهر والحُلي هي ألصَق بالنساء منها بالرجال، وجاءت الأديان السماوية تحرِّم على الرجال صنوفًا من الزينة، هي للنساء حلال؛ ومن ذلك الأقراط والخروص والخماخم والمجاول والأزمَّة (ما يعلَّق في طرف الأنف)، وغيرها ممَّا قد يكون له مصطلح محلِّي غير قابل للتعميم، من حيث اللفظُ، لا من حيث المفهومُ، ورأينا في بعض الحضارات مبالغات لدى النساء في لبس الحُلي تصل إلى الإنكار الذوقي، لا سميَّا ما يُعلَّق في الآذان أو الأنوف أو العضود أو السيقان.

 

يتسلَّل العبث إلى هذا المفهوم لنجد شبابًا قد تمثَّلوا أمورًا كانت - ولا تزال - من خصوصيَّات النساء، فهل هذا يعني احتجاجًا من هؤلاء الرجال على دخول بعض النساء في خصوصيات الرجال؟ مما يُعَدُّ - بحدِّ ذاته - نوعًا من العبث؟ بل إنَّ العبث في هذا المجال كاد أنْ يشمل الجسمَ كله، ولم تَسلم منه الحواجب والشِّفاه، مما يدخل في مفهوم تَشويه خلق الله تعالى.

 

رُبَّما قيل: إنَّه نَمط من أنماط التعبير التي سادت مجتمعات، تعاني فراغًا روحيًّا، كما كانت عليه الحال في الثمانينيات الهجرية، الستينيات الميلادية، عندما ظهرَت مجموعات من الشباب أطالت شعورها، ولبسَت الضيِّق، وسلكَت سلوكيات هي في ذاتها خارجة عن النَّمط الاجتماعي السائد.

 

يتحدَّث الأستاذ عبدالله الناصر، الملحق الثقافي السعودي في لندن، في زاويته الأسبوعية بالفصيح في صحيفة الرياض عن فِئة من الشباب اليوم: "أولئك الشبَّان الذين لا عملَ لهم، ولا همَّ، ولا جدوى منهم، ولا فائدةَ فيهم إلَّا أنْ يؤذوا خلقَ الله دون حياء، أو أدب أو سلوك، تراهم في الشوارع لا همَّ لهم إلَّا إيذاء الخلق والاستعراض بمظاهر الأبَّهة والصلف واحتقار الآخرين.. وترى البعضَ منهم هائمين على الأرصفة، قد أسدلوا شعورهم، وفتحوا صدورهم وارتدوا ألبسةً هي أبعد ما تكون عن التناسُب أو الذَّوق السليم، لهم لغة ذات مصطلحات خاصَّة، وثقافة هابطة خاصَّة، وسلوك أبعد ما يكون عن الإحساس بالمسؤولية وفهم رسالة الحياة، والتعامُل مع الآخر بإنسانيَّة راقية، يسيرون في الأرض مرحًا، وينظرون إلى غيرهم بازدراء واحتقار، وكأنَّ الآخرين ناقصو البشريَّة والإنسانية"[1].

 

قد يُقال: إنَّ هذه التصرُّفات أمورٌ شكلية، ولكنها مع شكليَّتها إلا أنَّها تعبِّر - أولًا - عن مكنون في النفس، قد ننظر إليه نحن على أنَّه مؤشِّر من مؤشِّرات الفراغ الروحي وضعف الاستقرار النفسي والاجتماعي، ثم إنَّه - ثانيًا - مدعاة للتقليد في مجتمعات لا تعاني من الفراغ الروحي، ولديها استقرار نفسي واجتماعي ظاهر، لكن يخرج منها فئة من المقلِّدين والمقلِّدات الذين يرغبون في الخروج عن المألوف، حتى لو ترتَّب على ذلك محظور شرعي؛ وذلك بفعل ضعف التنبيه على ذلك، وأنَّه ليس ظاهرة، وأنَّه غير مقبول، وهو منكر لا بُدَّ من النهي عنه.

 

مع هذا كله يكون هناك نوع من التغافُل عنه وعن إنكاره من الجهات المناط بها الإنكار، مما قد يتطوَّر لدى بعض أبناء المجتمع ليروه داخلًا في الحرَّية الشخصيَّة، التي لا ينبغي أنْ تُمسَّ، وما إلى ذلك من النظرات المثالية، التي تعطي الفرد قدرًا من الوعي والشعور بالمسؤولية، وكأنَّه ليس هناك أناس يُسحبون إلى الجنَّة بالسلاسل، ولنتصوَّر هذا المشهد في أذهاننا، حينما نرى أشخاصًا مسلسلين، وهناك من يسحبونهم، ليُدخلوهم إلى الجنَّة، وكأنَّهم غير مدركين نتيجة هذا الإجراء.

 

إنَّ هناك حالاتٍ من العَبث في خلق الله، تأخذ أشكالًا متعدِّدة، ولكنها تخرج عن المفهوم الشرعي للمظهر المطلوب في الرجال والنساء، وليس في فئة دون أخرى، والمطلوب وقفة توعوية ووعظية وإعلامية وفكريَّة لبيان هذا النوع من العبث في خلق الله تعالى.

 

إنَّ العبث بخلق الله لم يقتصِر على هذه الأمور الشكلية القابلة للزوال بفعل الزمن، كما زالت تقليعات الثمانينيات الهجرية، الستينيات الميلادية، بل إنِّنا نرى ذلك متبنًى من بعض (النجوم) الذين لهم تأثير على الناشئة الذين يتأثَّرون اليوم - في غالبهم - بالرياضيين والفنَّانين؛ من مطربين وممثِّلين، ومطربات وممثِّلات، الذين ملأوا الجوَّ العام، على حساب من ينبغي التأثُّر بهم من الجادِّين في بناء ذواتهم وأوطانهم؛ وأتحدَّث هنا ليس على المستوى المحلي، حتى لا يَغضب علينا بعض إخواننا الذين قد يتوهَّمون أنَّهم معنيُّون بهذا الطَّرح، وفيهم مَن هو بخير وعلى خير، بل إنِّي أتحدَّث على المستوى العالمي، الذي وصَل فيه بعضُ النُّجوم إلى هَجرهم أديانهم، إلى مِلَل ونِحل تَعبد الأوثانَ، بل ربَّما تحوَّلوا إلى عبادة الشيطان.

 


[1] انظر: عبدالله الناصر: بالفصيح: جنَّة الحمير - الرياض - ع 14067 (9 /12 /1427هـ - 29 /12 /2006) - ص الأخيرة.

________________________

أ. د. علي بن إبراهيم النملة