خريطة الأفكار

الحركة الدؤوبة المستمرة والتغيُّر الدائم هو سمة التاريخ والفكر والسياسة.

  • التصنيفات: الإسلام والعلم -

في البدء نتساءل: هل حدود البلدان ثابتةٌ لا تتغير؟ بالطبع لا، فهي في الغالب متغيرة وغير ثابتة؛ فهناك دولٌ تولد، ودولٌ تتفكَّك... إمبراطورياتُ تنشأ، وأخرى تغرب شمسها.

ارجع إلى خريطةٍ قبل مائة عام - مثلاً - فستجد الحدود ليست كما هي عليه الآن.

فمثلاً: حدود مصر قد بلغت أقصى اتساع لها جنوباً بأن كانت أوغندا تابعة لها، وغرباً أو في الجنوب الغربي حيث كانت أجزاءٌ من تشاد تابعة لها.

وأيضاً الإمبراطورية النمساوية كانت تضم ثلاثَ عشرة دولة أوروبية.

وفي المستقبل لن يبقى الحال كما هو عليه الآن؛ فستتغير الحدود لبعض البلدان، وستظهر أسماء جديدة، وستختفي أسماء حالية.

وهذا التغير ناتجٌ عن سُنة التدافع بين البشر، يقول تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة: ١٥٢]، ويقول: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْـحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} [الأنبياء: 18].

وقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ حَقّاً عَلَى اللَّهِ أَنْ لاَ يَرْفَعَ شَيْئاً مِنَ الدُّنْيَا إِلاَّ وَضَعَهُ» [1].

والتدافع يعني: الحركة والفاعلية؛ فهناك قوي وضعيف، وغالب ومغلوب، والقوي ليس قويّاً دائماً، والضعيف ليس ضعيفاً دائماً.

يقول تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ} [الروم: 54].

فالحركة الدائبة هي سمة الكون بجماده ونباته وحيوانه وبشره وجِنِّه وملائكته: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [الأنبياء: 33]، {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} [النمل: 88]، {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْـمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَـمُحْيِي الْـمَوتَى إنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [فصلت: 39].

والسكون يعني الموت والتهدُّم والانحدار والزوال.

الأمر نفسه ينطبق تماماً على الأفكار؛ فحدودها متغيرة، وما تراه أو تظنه مستقرّاً هو استقرار نسبي وقتي، ولا يلبث أن يتغير.

فمثلاً أول فِرَق الإسلام ظهوراً هم الخوارج إثر قضية التحكيم.

وكان للشيعة الدولة العبيدية (المسماة الفاطمية) في مصر، والتي استمرت أكثر من قرنين ونصف من الزمان.

والأندلس كانت على مذهب الأوزاعي قبل تحولها إلى مذهب الإمام مالك حتى سقوطها في نهاية القرن التاسع الهجري.

وإيران كانت دولة سنية على المذهب الشافعي مئات السنين، ثم تحولت إلى التشيع على يد الصفويين في نهاية القرن العاشر الهجري، وبقيت على ذلك حتى الآن.

وبريطانيا كانت دولة كاثوليكية حتى منتصف القرن السادس عشر الميلادي، ومنذ ذلك الوقت وحتى الآن أصبحت بروتستانتية.

وكانت هناك دولٌ اعتنقت الفكر الاشتراكي كما كان موجوداً في مصر إبَّان حكم جمال عبد الناصر المتوفى سنة 1970م.

وازدهر الفكر القومي العربي فترة من الزمن.

وكما أن خريطة الدول تتغير بالقوة فكذلك خريطة الأفكار؛ فانتشار مذهبٍ مَّا أو دينٍ أو فكرةٍ إنما يكون بفرض النظام لها وكذلك إزالتها.

والقوة لا تعني السلاح فقط؛ فالإسلام لم ينتشر في جنوب شرق آسيا إلا بدخول ملوك تلك البلدان في الإسلام، وعندها آمنت الشعوب تبعاً لملوكهم، والمُلك والحكم قوة.

فالمقصود مطلق القوة، وليس فقط قوة السلاح، القوة بإطلاقاتها (قوة المُلك والحكم، القوة الناعمة، قوة الاقتصاد، قوة التغلُّب... إلخ).

فالإسلام عاش في الأندلس ثمانية قرونٍ ثم زال عنها بما سُمي حروب الاسترداد أو الاستعادة.

وأمريكا الهنود الحمر كانت وثنية، ثم أصبحت الآن نصرانيةً بالقوة وبالمذابح والإبادة للهنود الحمر.

ومصر كانت فرعونيـة ثم يونانية ثم رومانية ثم عربية سُنية، ثم حكمها الشيعة حوالي مئتي عام حتى جاء صلاح الدين الأيوبي فأعادها لمذهب أهل السُّنة والجماعة ثانية في النصف الثاني من القرن السادس الهجري، وبقيت كذلك حتى الآن.

وآسيا الصغرى (الأناضول) كانت نصرانية، ثم أصبحت مسلمة في النصف الثاني من القرن الخامس الهجري، وصارت عاصمةَ الخلافة الإسلامية العثمانية، ثم أصبحت علمانية على يد الذئب الأغبر أتاتورك.

وهذا يعني كذلك أن المؤثر على المساحة الجغرافية للأفكار هو الصراع؛ فالقوي يفرض فكرته على حساب الضعيف، والمنتصر على المهزوم، إلا في حالات تاريخية نادرة كما حدث مع المغول المنتصرين الذين دخلوا في دين المسلمين... إذن الحركة الدؤوبة المستمرة والتغيُّر الدائم هو سمة التاريخ والفكر والسياسة.

وفهم هذا الأمر يُخرج الإنسان من اليأس، والاستغراق في اللحظة الراهنة التي قد تكون لحظة قاسية تفرض على الإنسان ما لا يريد، وتسلب منه أثمن وأغلى ما يملك.

فالأيام دول في الـمُلك والفكر؛ فقد تظهر الدولة قوية من الخارج وقد نخرها السوس من الداخل، ويتأخر سقوطها لعدم وجود المعول الذي بضربة منه تنهار وتزول.

وكذلك الفكرة قد تشيخ لجمود أصحابها، وتهتم بالرسوم والأشكال أكثر من اهتمامها بالجوهر والإبداع والابتكار، فيظل سلطانها قائماً في قلوب أتباعها طوعاً أو كرهاً حتى تأتي فكرة أخرى تزيحها عن الصدارة، وتأخذ مكانها في القلوب والعقول.

وقد تتحد الفكرة مع الدولة فتقوى بقوَّتها، وتضعف بضعفها، وتزول بزوالها.

وقد تتقاسم الدولة أكثر من فكرة فتنشأ الصراعات بين الأفكار.

وقد يكون هذا الصراع صفريّاً، أو صراع حياة أو موت؛ إذ لا يقبل أحدهما بوجود الآخر، ويرى أن بقاء الآخر معناه الفناء المحتم له. وهذا النوع من الصراع عنيف دموي.

وقد يكون الصراع تنافسيّاً تسعى الفكرة لتثبيت موقعها، أو كسب أرض وقلوب وعقول جديدة. وهذا الصراع يقبل بوجود الآخر، قد يسعى للحد منه لكنه أبداً لا يريد تحطيمه.

وما تزال الدولة والفكرة في عافية وقوة طالما أعلت الحرية المنضبطة، والحوار المثمر، ونبذت التعصب.

وحدود الفكرة لا تنطبق تمام الانطباق مع حدود الدولة؛ فقد تنتشر الفكرة في عدة دول، فتكون خريطتها أكبر من خريطة الدولة التي صنعتها، أو آمنت بها، أو عملت على نشرها.

والفكرة قد تكون عاملاً حاسماً في تغيير خريطة بعض الدول بالاتساع أو الانحسار.


[1] أخرجه البخاري في (الرقاق)، باب: (التَّوَاضُعِ)، ح (6501) من حديث أنس رضي الله عنه.

____________________________________________

 

الكاتب:  محمد فتحي النادي