الطريق إلى حسن الخلق

ممَّا نُحْسَد عليه - نحن المسلمين - أنَّ لنا أصلاً نعود إليه متَّصلاً سندُه إلى السَّماء؛ لنهتدي به إلى طريقِنا، فتجِد دائمًا أنَّ المنهج الأخلاقي أو التَّربوي الَّذي قاده خيرُ مَن خطَّت قدماه على الأرض - هو المنهج الوحيد الَّذي يَقود البشريَّة إلى الفضائِل الحسَنة والمنهج القويم، بل والفوْز بجنَّة الرحمن.

  • التصنيفات: تزكية النفس - أخلاق إسلامية -

ممَّا نُحْسَد عليه - نحن المسلمين - أنَّ لنا أصلاً نعود إليه متَّصلاً سندُه إلى السَّماء؛ لنهتدي به إلى طريقِنا، فتجِد دائمًا أنَّ المنهج الأخلاقي أو التَّربوي الَّذي قاده خيرُ مَن خطَّت قدماه على الأرض - هو المنهج الوحيد الَّذي يَقود البشريَّة إلى الفضائِل الحسَنة والمنهج القويم، بل والفوْز بجنَّة الرحمن.

 

فأنت - أيّها المسلم - المتَّبع لسنَّة نبيِّك - صلَّى الله عليْه وسلَّم - ما من لحظةٍ تَمرُّ بك أو موقف أو مناسبة، أو تصرُّف أو سلوك، إلاَّ ولك فيه سنَد ممتدٌّ إلى رِسالة السَّماء إلى أهْل الأرْض، الَّذي قد منَّ الله بهِ عليْنا، وهُو النَّبي محمَّد - صلَّى الله عليْه وسلَّم.

 

بهذه المُتابعة السَّماويَّة والمنهج الرَّبَّاني استطاع النَّبيُّ - صلَّى الله عليْه وسلَّم - أن يُحوِّل مَن حوْلَه إلى قادة عُظماء، ونجوم وكواكب نيِّرة، يهتدي بها الضَّالّ، ويستزيدُ منها المستنير؛ وذلك لأنَّهم تربَّوا على مائدة مَن قال: «أدَّبني ربي فأحسن تأديبي»، أدَّبه ربُّه فأحسن تأديبَه، فكان القدْوةَ والمنهج والمبلِّغ لرسالة السَّماء.

 

ولأنَّ دينَنا العظيم ما أنزل من السَّماء عن طريق أفضل الملائِكة إلى سيِّد البشَر إلاَّ ليُنشئ خير أمَّة.

 

ولأنَّه - صلَّى الله عليه وسلَّم - قائد البشريَّة إلى كلّ خيرٍ في الدُّنيا والآخرة، وهو رسول المنهج السَّماوي الإلهي بعد أن بين أصْل رسالته بقوله: «إنما بُعِثْتُ لأُتمِّمَ صالحَ الأخلاق»، فما كان ليقول ولا يفعل، حاشاه، ولا لِيقول ولا يبين، حاشاه، ولا ليقول ولا يشرح ويُتابع، حاشاه!

 

فكان من متابعته وتربيته لِمَن تربَّوا على مائدته - وهو صانع النجوم والأبطال - بعد أن بيَّن لهم الغاية من الرِّسالة، والهدف منها بالأسلوب القولي والعملي، حمل على عاتقه أيضًا - صلَّى الله عليْه وسلَّم - أن يبيِّن لهم الطُّرُق المؤدِّية إلى هذه الغاية.

 

فها هو - صلَّى الله عليْه وسلَّم - يدْعوهم إلى تلبية نِداء السَّماء لقوله تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 133، 134]، ولم يأتِ نِداء بالمسارعة في كِتاب الله إلاَّ في هذه الآية الكريمة، فهي تقود النَّفس إلى الاختِبار الحقيقي، وهو أن يخرج عن المألوف في طباع النَّفس في أشدِّ أمرين: المال والنفس، ولها استِتْباعات لكلِّ الأحوال في السرَّاء أو الضَّرَّاء، وما أعلى النَّفقة في الضرَّاء! واسمع إلى حديث النَّبيّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - وهو يقول: «سبقَ درْهم مائةَ ألف درهم»، فقال رجُل: وكيف ذاك يا رسولَ الله؟ قال: «رجُل له مالٌ كثير أخذ من عرْضه مائةَ ألف درهم فتصدَّق بها، ورجُل ليس له إلاَّ درْهمان فأخذ أحدَهما فتصدَّق به، فهذا تصدَّق بنصف ماله»، فهذا مثال لنفقة الضَّرَّاء، وكظم الغيظ وأن يستتبعه بالعفْو، فكان جزاء هذا النَّجاح الإحسان وكأنَّك ترى الله وتعفو من أجل رِضاه - سبحانه وتعالى.

 

ولعلَّ ما نرمي إليْه من هذا الوحي الرَّبَّاني هو أعلى هذه الأطراف، وهو كظم الغيظ؛ لأنَّه هو السَّبيل والمدخل والطَّريق والمنهاج إلى كلّ الخير، فإنَّ اختِبارات النَّبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - دائمًا تضَعُ الَّذين تربَّوا على مائدته في استِكْشاف لأنفُسهم واختبار لها؛ لأنَّه يبيِّن لهم أنَّ صفات المتَّقين عكس ما تهوى النَّفس ويرى الهوى، وكذلك القوَّة والشدَّة والفتوَّة عكس ما يرى البشَر، واسمع إلى التَّأكيد على أنَّ رؤية السَّماء غير رؤية البشَر لمصلحتِهم بكل المقايِيس.

 

في "صحيح مسلم" عن ابن مسعودٍ - رضي اللَّه عنْه - قال: قال رسولُ اللَّه - صلَّى اللَّه عليه وسلَّم -: «ما تعدُّون الرَّقوب فيكم» ؟ قال: قُلنا: الَّذي لا يولد له، قال: «ليس ذاك بالرَّقوب، ولكنَّه الرَّجل الَّذي لم يقدِّم من ولدِه شيئًا»، قال: «فما تعدُّون الصُّرعة فيكم» ؟ قالوا: الَّذي لا يصرعه الرِّجال، قال: «ليس بذلِك ولكنَّه الَّذي يَملك نفسَه عند الغضَب».

 

الرقوب:

أصل الرقوب في كلام العرَب: الَّذي لا يعيشُ له ولد، ومعْنى الحديث: إنَّكم تعتقِدون أنَّ الرَّقوب المحزون هو المُصاب بموْت أولاده، وليس هو كذلك شرعًا، بل هو مَن لم يَمُت أحد من أولادِه في حياته فيحتسِبه، ويكتب له ثوابُ مصيبتِه به وثواب صبره عليه.

 

فكانت هذه الوقفة النبويَّة الربَّانية مع هذه الآية وهذا الحديث أكبر وأقْوى دليلٍ على أنَّ رِسالة السَّماء تَهدف إلى خيْر البشريَّة وحمايتها أكثر ممَّا ترى البشريَّة لنفسها؛ فالبشر قاصر عن أن يرى حقيقة الخيْر لنفسه.

 

ولأنَّ الغضب هو جماع الشَّرّ كلِّه، وكظْم الغيظ هو جماع الخير كله؛ كان هذا التَّأديب النبوي الَّذي يرقى إلى صفات المتَّقين.

 

فها هي الأساليب التَّربويَّة تتنوَّع مع من يتربَّون على مائِدة مَن قال: «أدَّبني ربي فأحسن تأديبي».

 

الأدب النَّبوي الكريم:

1- فإلى مَن جاءه يطلُب الخصوصية في الوصيَّة: عنْ أبي هُرَيرة - رضِي الله عنْه - أنَّ رَجُلاً قالَ للنَّبيِّ - صلَّى الله عليْه وسلَّم -: أوْصِني، قال: «لا تَغْضَبْ»، فردَّد مِرارًا قال: ( «(لا تَغْضَبْ»، ومعلوم أنَّ الوصيَّة تكون بما قلَّ ودلَّ، وهذا من جوامع الكلِم.

2- وإلى مَن جاء يطلب أن يتعلَّم ما يفيده: جاء رجلٌ إلى النَّبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقال: يا رسول الله، علِّمني شيئًا ولا تُكثر عليَّ لَعَلِّي أعيه، قال: «لا تَغْضَب»، فردَّد ذلك مرارًا كلّ ذلك يقول: «لا تغضب».

3- وإلى مَن يُريد البعد عن غضب الله: عن عبداللهِ بن عمرو أنَّه سأل النَّبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ماذا يُبَاعِدُني مِنْ غَضَبِ اللهِ - عزَّ وجلَّ؟ قال: «لا تَغْضَب»، وقول الصَّحابي: "ففكَّرتُ فيما قال النَّبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - «فإذا الغضبُ يَجمع الشرَّ كلَّه» " يشهد لما ذكرْناه أنَّ الغضبَ جماعُ الشرِّ.

4- وإلى مَن جاء يطلب الجنَّة: عن أبي الدَّرداء قلتُ: يا رسولَ الله، دلَّني على عمل يدخِلُني الجنَّة، قال: «لا تَغْضَبْ ولكَ الجَنَّةُ».

5- وإلى مَن يريد الحور العين: «مَن كظم غيظًا وهو قادر على أن ينفذه، دعاه الله - عزَّ وجلَّ - على رؤوس الخلائِق يوم القيامة حتَّى يُخيِّره من الحور العين ما شاء».

 

أليس بهذا يتَّضح أن كظْم الغيظ هو جماع كلِّ خير يوصِّل إلى رضا الله والجنَّة؟! إنَّها دليل حسن خلق؛ لذلك لمَّا قيل لعبدالله بن المبارك: اجْمَعْ لنا حسنَ الخلق في كلمة، قال: "تركُ الغضبِ".

 

وكذا فسَّر الإمام أحمد وإسحاقُ بنُ راهويه حسنَ الخلق بتركِ الغضب.

 

الغضب هو كما في حديث في سنده مقال: «ألا وإنَّ الغضب جمرةٌ في قلْب ابن آدم، أما رأيتُم إلى حمرة عينيْه وانتِفاخ أوْداجه».

 

وهذا من أحد العلاجات لمقاومة الغضَب، «إذا غضب أحدُكم وهو قائم فليجلس، فإن ذهب عنْه الغضب وإلاَّ فليضطجع».

 

قال العلاَّمة الخطَّابي - رحِمه الله - في شرْحه على أبي داود: "القائم متهيئ للحركة والبطش، والقاعد دونه في هذا المعنى، والمضطجع ممنوعٌ منهما، فيشبه أن يكون النَّبيّ - صلَّى الله عليْه وسلَّم - إنَّما أمره بالقعود والاضطِجاع لئلاَّ يبدر منه في حال قيامِه وقعوده بادرة يندم عليها فيما بعد، والله أعلم" سنن أبي داود ومعه معالم السنن (5 /141).

 

وعلاج آخر: قال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: «إذا غضب أحدُكم فليسكت».

 

وعلاج آخر من وحي النبوَّة: في البخاري: استبَّ رجُلان عند النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - ونحن عنده جلوس وأحدُهُما يسبُّ صاحبَه مغضبًا قد احمرَّ وجهه، فقال النَّبي - صلَّى الله عليْه وسلَّم -: «إنِّي لأعلم كلمةً لو قالها لذهب عنْه ما يجد، لو قال: أعوذ بالله من الشَّيطان الرَّجيم»، فقالوا للرَّجُل: ألا تسمع ما يقولُ النَّبيُّ - صلَّى الله عليْه وسلَّم؟ قال: إني لست بمجنون.

 

وقال النَّووي: قول هذا الرَّجُل كلامُ مَن لم يفقهْ في دين الله تعالى، ولَم يتهذَّب بأنوار الشَّريعة، وتوهَّم أنَّ الاستعاذة مختصَّة بالجنون، ولم يعلم أنَّ الغضب من نزغات الشَّيطان؛ ولهذا يخرج الإنسان عن اعتدال حالِه، وإنَّ هذا القائل كان من المنافقين، أو من جُفاة الأعراب، ولأن كظم الغيظ له مرارة وحرارة كان جزاؤه الجنَّة، أكَّد هذا النَّبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - بقوله: «ما من جرعةٍ أعظم أجرًا عند اللَّه من جرعة غيظ كظمَها عبدٌ ابتِغاء وجه اللَّه»، سماها جُرعَة، نعم تجرَّع كما يتجرع البعير، فأنتُم ترون البعير يتجرَّعها أوَّلاً ثمَّ يعيدُها مرَّة أخرى؛ وذلك لمرارتها وصعوبتها على النفس.

 

ولكن هل معنى هذا أنَّ النَّبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - كان لا يغضب؟ مع أنَّه - صلَّى الله عليْه وسلَّم - كان أشدَّ حياءً من العذراءِ في خِدْرها، فإذا رأى شيئًا يكرهه، عرفْناه في وجهه، فإنَّه كان لا ينتقِمُ لنفسه، ولكن إذا انتهكت حرماتُ الله لم يَقُمْ لِغضبِه شيء إذا رأى أو سَمِعَ ما يكرهه الله، غَضِبَ لذلك وقال فيه ولم يَسْكُتْ، وقد دخل بيتَ عائشةَ فرأى سترًا فيه تصاويرُ، فتَلَوَّنَ وجهُهُ وهتكَه، وقال: «إنَّ مِنْ أَشدِّ النَّاسِ عذابًا يومَ القيامةِ الَّذينَ يُصوِّرُونَ هذه الصُّورَ».

 

ولما شُكِيَ إليه الإمامُ الَّذي يُطيل بالنَّاس صلاته حتَّى يتأخرَ بعضُهم عن الصَّلاة معه، غَضِبَ واشتدَّ غضبُه وأمر بالتَّخفيف.

 

ولمَّا رأى النُّخامَةَ في قبلة المسجد، تَغَيَّظ وحكَّها، وقال: «إنَّ أحدَكُمْ إذا كان في الصَّلاةِ، فإنَّ الله حِيالَ وَجْهِه، فلا يَتَنخَّمَنَّ حِيال وجهه في الصَّلاةِ».

 

هذه بعض مواقف مِن غضبه - صلَّى الله عليه وسلَّم - ليتَّضح منها أنَّها ما كانت إلاَّ لله، أمَّا ما كانت لنفسه فقد بيَّنَّا منها الكثير، وكانتْ ممَّا لا يتخيَّل أحد أن يتحمَّلها بشر، وانظُر إلى هذا الموقف الذي حدثَ للنَّبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - زوجًا غير كلِّ الأزْواج الَّذين هو قدْوتهم، وما أعظمَه من قدوة!

 

عن أنس بن مالك - رضِي الله عنْه - قال: كان رسولُ الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم - عند بعض نسائه، فأرسلَتْ إليه إحدى أُمَّهات المؤمنين بِصَحْفَة فيها طعام، فضَرَبتِ الَّتي هو في بيتها يَدَ الخادِمِ، فسَقَطَتِ الصَّحفَةُ، فانْفَلَقَتْ، فجَمَعَ رسولُ الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم - فِلَق الصَّحفَةِ، ثمَّ جعل يجمع فيها الطَّعام الَّذي كان في الصحفة ويقول: «غَارتْ أُمُّكم، غارتْ أُمُّكم»، ثمَّ حبس الخادم، حتى أُتيَ بِصَحفَة من عند الَّتي هو في بيتِها، فدفعها إلى التي كُسِرَتْ صَحْفَتُها، وأمسك المكسورة في بَيْتِ الَّتي كَسَرَتْها؛ أخرجه البخاري.

_________________________________________________

الكاتب: ماجد شاهين