مقت النفس

لقد كرَّم الله الإنسان، فالنفس البشرية مكرَّمة بنص الكتاب، ونهى الله عن ظلم النفس، ولقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يذلَّ الإنسان نفسه..

  • التصنيفات: تزكية النفس -

لقد كرَّم الله الإنسان، فقال: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} [الإسراء: 70]، وعلى هذا فالنفس البشرية مكرَّمة بنص الكتاب، ونهى الله عن ظلم النفس، فقال: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 110]، ولقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يذلَّ الإنسان نفسه، فقال: «لا ينبغي للمؤمنِ أن يُذِلَّ نفسَه»، قالوا: وكيف يُذِلُّ نفسَه؟ قال: «يتعرضُ من البلاءِ لما لا يُطِيقُ»، فاستغرب الصحابة إذلال المسلم لنفسه؛ لأن سوء ذلك معلوم بالفطرة، وتعجبوا من النهي عنه لمعلومية فساده.

 

ولقد نهى الله عن لمز النفس، فقال: {وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ} [الحجرات: 11]، وإن كان ذلك في المسلمين، فدلالته على النهي عن لمز النفس أولى؛ لأن التشبيه وقع بها؛ لأنها معلومة الفساد، ولقد أقسم الله بالنفس البشرية في كتابه الكريم، فقال: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس: 7، 8]، ولا يقسم الله إلا بعظيم كما أقسم بذاته عز وجل، ثم كتابه ثم رسوله المكرم صلى الله عليه وسلم، وما عظم من خلقه.

 

ويقول الله عز وجل في كتابه: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [الأحزاب: 6]، فإن كانت مقيتة مهانة، فكيف يكون أولى بها منهم، وأي رفعة في هذا الوصف.

 

وروى النسَائِي فِي "الْيَوْمِ وَالليْلَةِ" وَابْنُ مَاجَهْ وَالْحَاكِمُ فِي "الْمُسْتَدْرَكِ" عَنْ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلمَ -: «إذَا رَأَى أَحَدُكُمْ مِنْ نَفْسِهِ أَوْ مَالِهِ أَوْ مِنْ أَخِيهِ شَيْئًا يُعْجِبُهُ، فَلْيَدْعُ بِالْبَرَكَةِ، فَإِن الْعَيْنَ حَق»، ولم يقل: فليحقر نفسه ويمقتها، ولكن قال: ليدع بالبركة عليها، وقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أرأيت الرجل يعمل العمل من الخير ويحمده الناس عليه؟ قال: «تلك عاجل بشرى المؤمن»؛ (رواه مسلم)، ولم يقل: فليحزن؛ لأن الناس يحمدون نفسه وهو يمقتها أشدَّ المقت، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «إذَا قَالَ الرجُلُ: هَلَكَ الناسُ، فَهُوَ أَهْلَكُهُمْ».

 

ولقد حثت أقوال السلف والفقهاء والأدباء على شرف النفس وفضلها، ورَوَوْا عن السلف قولهم: تكون المروءةُ على قدر شرف النفس.

 

وفي "الآداب الشرعية" لابن مفلح - وهو تلميذ ابن تيمية رحمهم الله تعالى - قَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى - رَحِمَهُ اللهُ - فِي قِصةِ يُوسُفَ - عَلَيْهِ السلَامُ - يَعْنِي قَوْلَهُ: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف: 55]، فِيهَا دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَصِفَ نَفْسَهُ بِالْفَضْلِ عِنْدَ مَنْ لَا يَعْرِفُهُ، وَأَنهُ لَيْسَ مِنْ الْمَحْظُورِ؛ انتهى، لم يمقت يوسف عليه السلام نفسه حين وصفها أنها حفيظة عليمة.

 

وقال ابن أبي الدنيا في كتابه "أدب الدنيا والدين": قَالَ النبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ مَعَالِيَ الْأُمُورِ وَأَشْرَافَهَا، وَيَكْرَهُ دَنِيَّهَا وَسَفْسَافَهَا»، وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: لَا تُصَغِّرَنَّ هِمَّتَكُمْ فَإِنِّي لَمْ أَرَ أَقْعَدَ عَنْ الْمَكْرُمَاتِ مِنْ صِغَرِ الْهِمَمِ.... أَمَّا شَرَفُ النَّفْسِ، فَإِنَّ بِهِ يَكُونُ قَبُولُ التَّأْدِيبِ، وَاسْتِقْرَارُ التَّقْوِيمِ وَالتَّهْذِيبِ... وَإِذَا شَرُفَت النَّفْسُ كَانَتْ لِلْآدَابِ طَالِبَةً، وَفِي الْفَضَائِل رَاغِبَةً... فَأَمَّا مَنْ مُنِيَ بِعُلُوِّ الْهِمَّةِ وَسُلِبَ شَرَفُ النَّفْسِ، فَقَدْ صَارَ عُرْضَةً لِأَمْرٍ أَعْوَزَتْهُ آلَتُهُ، وَأَفْسَدَتْهُ جَهَالَتُهُ، فَصَارَ كَضَرِيرٍ يَرُومُ تَعَلُّمَ الْكِتَابَةِ، وَأَخْرَسَ يُرِيدُ الْخُطْبَةَ، فَلَا يَزِيدُهُ الِاجْتِهَادُ إلَّا عَجْزًا وَالطَّلَبُ إلَّا عَوَزًا.

 

ونقل ابن مفلح عن ابن عقيل شيخ حنابلة بغداد: قَالَ فِي الْفُنُونِ (كتابه): جَرَى فِي مَجْلِسٍ مُذَاكَرَةٌ، فَقَالَ قَائِلٌ: إنِّي لَا أَجِدُ فِي نَفْسِي ضِيقًا، وَإِنْ قَصُرَتْ يَدَيَّ، بَلْ طِيب النَّفْسِ كَأَنِّي صَاحِبُ ذَخِيرَةٍ، فَقَالَ: رَئِيسٌ فَاضِلٌ قَدْ جَرَّبَ الدَّهْرَ وَحَنَّكَتْهُ التَّجَارِبُ: هَذِهِ صِفَةٌ إمَّا رَجُلٌ قَدْ أَعَدَّتْ لَهُ الْأَيَّامُ سَعَادَةً شَعَرَتْ نَفْسُهُ بِهَا؛ لِأَنَّ فِي النُّفُوسِ الشَّرِيفَةِ مَا يُشْعِرُ بِالْأَمْرِ قَبْلَ كَوْنِهِ، أَوْ يَكُونُ ذَلِكَ ثِقَةً بِاَللَّهِ لِكُلِّ حَادِثٍ، لِعِلْمِهِ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ حَكِيمٍ لَا يَضَعُ الشَّيْءَ إلَّا فِي مَوْضِعِهِ، فَيَسْتَرِيحُ مِنْ تَعَبِ الِاعْتِرَاضِ وَعَذَابِ التَّمَنِّي قَالَ وَبِالضِّدِّ مِنْ هَذَا إذَا كَانَ بَاكِيًا شَاكِيًا حَزِينًا لَا لِسَبَبٍ، بَلْ نِعَمُ اللَّهِ عَلَيْهِ جَمَّةٌ، وفيه عن إبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ: لَا يَنْبَغِي لِرَجُلٍ أَنْ يَضَعَ نَفْسَهُ دُونَ قَدْرِهِ، وَلَا يَرْفَعَ نَفْسَهُ فَوْقَ قَدْرِه، وهذا غيض من فيض.

 

فهذا بعض ما ورد في الآثار من تشريف النفس وتكريمها، وإنما يكون ذلك بالطاعات والتواضع وخفض الجناب ولين الطبع، وهذا أصل من أصول الدين لا يردُّه شيء.

 

بقي أنه وردت نصوص عن السلف وعن بعض العلماء في إهانة النفس ومقتها، فهذا من باب المحاسبة والتواضع، أو عند الذنوب واقترافها، أو الكلام عن النفس الأمارة بالسوء لا النفس المطمئنة الطيبة، ومن ذلك:

ما جاء في "محاسبة النفس" لابن أبي الدنيا عَنْ مَوْلًى لِأَبِي بَكْرٍ، قَالَ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مَنْ مَقَتَ نَفْسَهُ فِي ذَاتِ اللَّهِ، آمَنَهُ اللَّهُ مِنْ مَقْتِهِ، وواضح أن هذا بلا سند معتبر، لكنه وارد في كتب السلف، وفيه عن أَبِي الدَّرْدَاءِ، قَالَ: لَا يَفْقَهُ الرَّجُلُ كُلَّ الْفِقْهِ حَتَّى يَمْقُتَ النَّاسَ فِي جَنْبِ اللَّهِ، ثُمَّ يَرْجِعَ إِلَى نَفْسِهِ، فَيَكُونَ لَهَا أَشَدَّ مَقْتًا، فهذان صحابيان رَوَيَا هذا اللفظ: (مقت النفس)، لكن الأسانيد من جنس أسانيد الرقائق لا تثبت في الغالب.

 

ويُلحظ هنا أنا انتقلنا من مقت النفس لمقت الناس أجمعين والله المستعان.

 

وذكر ابن القيم في "إغاثة اللهفان": مقت النفس في ذات الله من صفات الصِّديقين، ويدنو العبد به من الله تعالى في لحظة واحدة أضعاف أضعاف ما يدنو بالعمل.

 

وفي "مدارج السالكين" عن أبي الدرداء، قال: «لا تفقه كل الفقه حتى تمقت الناس في جنب الله، ثم ترجع إلى نفسك، فتكون لها أشد مقتًا»؛ "مصنف ابن أبي شيبة"، قال: "هذا الكلام لا يفقه معناه إلا الفقيه في دين الله، فإن من شهد حقيقة الخلق وعجزهم وضَعفهم وتقصيرهم، بل تفريطهم وإضاعتهم لحق الله، وإقبالهم على غيره، وبيعهم حظَّهم من الله بأبخس الثمن من هذا العاجل الفاني، لم يجد بدًّا من مقتهم، ولا يُمكنه غير ذلك البتة، ولكن إذا رجع إلى نفسه وحاله وتقصيره، وكان على بصيرة من ذلك، كان لنفسه أشد مقتًا واستهانة، فهذا هو الفقيه".

 

فهذه نصوص موجودة في كتب الإسلام أنكرتها نفسي ولفَظها قلبي لما سبق من أدلة قطعية ثابتة المعاني وطيدة البنيان، لكن أقوال السلف ثم أقوال العلماء لا يمكن ردُّها، لكن ينبغي فهمها، والمقت أشدُّ الكره والبغض لأمر قبيح، وورد في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ} [غافر: 10]، فهو من صفات الكفرة يوم القيامة، ولعله في الدنيا أيضًا، فلا أضيق من عيش كافر، وورد في قوله تعالى: {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: 3]، فورد في معرض الذم لا المدح، وقال تعالى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} [الانفطار: 13، 14]، قالوا (ابن القيم رحمه الله): هذا لهم في الدور الثلاثة الدنيا والبرزخ والآخرة، فأين هذا من مقت النفس.

 

 

ولنا أسئلة:

سؤال: قول أبي الدرداء: لا يفقه الرجل حتى يمقت الناس، هل يقال: من مقاصد التوحيد وثمراته مقت الناس وبغضهم؟ وأين هذا من النصوص المستفيضة بوجوب حب المسلمين وإكرامهم، بل حب الناس أجمعين إلا ما استوجب غير ذلك؟

 

سؤال ثان: في الآثار كلما عرف الإنسان ربَّه مقت نفسه، وأعلمُ الناسِ بربِّه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فهل يجرؤ مسلم أن يقول: كان صلى الله عليه وسلم يمقت نفسه؟ أم أن هذا كفر؟ وهل يجوز أن نمقت نفسه استنانًا به صلى الله عليه وسلم، أم أن نفسه الشريفة هي أعظم ما خلق الله البتة، فداه أنفسنا وأهلونا، صلى الله عليه وسلم.

 

ومن مستفيض الأخبار ما أهان به بعض المتصوفة أنفسهم اتباعًا لمثل هذه النصوص، فكانوا يعيشون في المزابل ويُهينون أنفسهم بما يُحرمه الإسلام وتَعافه النفوس، ويلبسون ثيابًا يزدريها الناس، بل في بعض كتبهم يتقربون بصفع الأولاد لهم، ويَعدون هذا من القرب؛ لأنه من ذل النفس ومَقتها، فهذا اللفظ مقت النفس الوارد في الآثار التي لا يُتَشدَّدُ في سندها؛ لأنها في الفضائل، وأقوال أهل العلم ينبغي تأويلها على المعنى الصحيح، وهو التواضع وهضم النفس، ولومها عند الذنوب أو دعوتها المرء إليها، وأمثال هذه المعاني الفاضلة الثابتة التي هي في أم الكتاب وأصله.


بقي أن نسأل: هل يقال من ثمرات التوحيد مقت النفس؟ ما أرى ذلك مرضيًّا، لكن أن يكون في ثنايا الكلام ويُفسَّر بما يصح، فنعم؛ لأن له معنى باطلًا ومعنى حسنًا، ومعناه الباطل ما فُتنت به بعض المتصوفة المبتدعة، ومما يُعيِّر به أهلُ الكفر أهلَ الإسلام مما يدعو لدُنُوِّ الهمَّة وكسل المرء عن معالي الأمور، ومعناه الصالح موجود بنصوص قطعية متواترة كثيرة مستفيضة هي التي ينبغي اللهج بها وتعليمها وترسيخها، ثم لا ينبغي أن نختم هذا إلا بالاعتراف أنه قد تأثر ببعض التراث الصوفي الكثير من كتب التراث مما ليس له أصل في الكتاب والسنة، وفي كتب أهل العلم، فينبغي تنقية هذا منها، وكأنك تلحظ في هذا إشارة لابن القيم رحمه الله، وابن القيم جبل في العلم والسنة، لكنه خاطب الناس على ما اشتهر بعصره، وتكلم في المدارج بمقام الفناء، والقبض والبسط، وأمثال هذه المقامات الباطلة التي لم يرد لها أصل من كتاب وسنة، فكما قال في المقت ما قال: "الْفَنَاءِ مَبْدَأٌ وَتَوَسُّطٌ وَغَايَةٌ، فَأوله: فَنَاءُ أَهْلِ الْعِلْمِ الْمُتَحَقِّقِينَ بِهِ، وَالثَّانِيَةُ: فَنَاءُ أَهْلِ السُّلُوكِ وَالْإِرَادَةِ، وَالثَّالِثَةُ: فَنَاءُ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ، الْمُسْتَغْرِقِينَ فِي شُهُودِ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ"، وكل هذا غير مرضي، فلا فناء ولا قبض ولا بسط، بل الكتاب والسنة، تكلم ابن القيم رحمه الله بأمثال هذا لأمرٍ أراده الله أعلم به.

 

وأختم هذا بقاعدة مهمة: ليس كل ما رُوي عن السلف يُعلَّم بوصفه أصلًا ويُبنى عليه، بل ما ورد مما هو موافق لأصول الشريعة، فهو كذلك، وما كان فيه إشكال رُدَّ إلى أصولها الثابتة، وفُسِّر عليها، أو أُوِّلَ على معانيها، فأقوالهم من جنس كتابهم الكريم: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران: 7]، وإنما يُلهج بالأصول المحكمات لا بغيرها.

 

مثال ذلك ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم: «لو علمتُم ما أعلم، لبكيتم كثيرًا، ولضحِكتم قليلًا، ولَما تمتعتُم بالنساء على الفُرُش»، لا يقال: من مقاصد الشريعة البكاء كثيرًا والضحك قليلًا، وعدم التمتع بالنساء، بل للضحك والبكاء أحكام شرعية معلومة، وكذا للنساء، وإنما يذكر هذا الحديث كما هو؛ ليفهمه المستمع بما معه من العلم، أو بشرح أهل العلم به، أو يُشرح له، ولكن يقال كما ذكر أهل العلم في أصولهم من مقاصد الشريعة: عدم الاغترار بالدنيا، وفضل البكاء من خشية الله، والحذر من غواية النساء وفتنتهنَّ.

 

 

الذي ينبغي أن يقال:

من ثمرات التوحيد: تشريف النفس ومعرفة قدرها، وتكريمها باتباع أمر الله والجهاد فيه، وصونها عما يدنِّسها من الآثام والذنوب، وتكريمها بالطاعات، والتسابق فيها مع عباده الصالحين، ومن ثمراته التواضع للمسلمين، بل للخلق أجمعين، ورؤية الذنب وخوف الله، وعدم التكبر، وعدم الأمن من مكر الله، وعدم الإياس من رحمته، والسعي في ذلك والمجاهدة فيه، وعدم الاستكبار فضلًا عن الاستهزاء والتحقير لعباد الله أجمعين، فأحب الناس إلى الله أنفعهم لخلقه.

 

أرى أن هذا خير من قولنا: من ثمرات التوحيد مقت النفس، لما يُخشى من المعنى الباطل واللوازم الباطلة، وإن كان ورد في بعض النقول، فإنما ورد ضمن كلام يبيِّن ما صلح من معناه، لم يُذكر كعنوان أو مقصد من مقاصد الشريعة كما ورد غيره.

 

ولا ينبغي أن يُنكر ما ورد عن السلف، لكن يُفسَّر خصوصًا مما هو ليس في دواوين الإسلام الكبرى، وما ليس له أسانيد معلومة موثوقة؛ لأن للسلف مقامًا محمودًا لا يناطحه مسلم عرف ربَّه.

 

ولهذا أمثلة، فمنه كلامهم في الخمول ومدحه، وإنما مدح الله العمل ومثله كلامهم في ذمِّ العقل، والقرآن مليء بــ أفلا تعقلون وأفلا تتفكرون، وكذا كلامهم في ذم القياس، وأول مَن قاس إبليس، وإنما المذموم القياس الفاسد، وفي ذم الرأي، والمذموم الرأي الفاسد لا الصحيح، ومثله كلامهم في مدح الصمت، وفي تحقير النفس وازدرائها، وفي الفقر وفي التحذير من النساء، وفي ذم جدال المبتدعة، والكلام معهم، وفي خشونة العيش، فتلك عشرة كاملة، وهذه مواضيع مهمة، وغير مرضي مدح الخمول، ولا ذم العقل، ولا ذم القياس ولا ذم الرأي بعمومه، ولا مدح الصمت ولا تحقير النفس، أو الناس بالعموم، ولا مدح الفقر، ولا تحقير النساء، ولا عدم جدال المبتدعة، ولا الأمر بخشونة العيش بعمومه، كل هذا غير مرضي بإطلاقه، وإنما يُعرف حكم الله فيها بجمع الأدلة، واستخراج كلام أهل العلم فيها، لا بنص مقتطع من كلام أحد الأعلام ذم به العقلَ، أو مدح الصمت، أو ذم القياس وأمثاله، بل يجب أن تُحمل هذه النقولات على معنى صالح، ولا ينبغي الدعوة لمقت النفس وازدرائها وتحقيرها، ولا إلى الخمول، ولا إلى الفقر، ولا إلى ترك التفكر والتعقل والقياس والرأي السديد، ولا إلى الصمت إلا بشرح معناه، مما يتوافق مع كليات الشريعة المطهرة، وأرى أن البعد عن هذه الألفاظ دون شرح المعنى الصالح لها، خير من ذكرها مجردةً عنه، داعية لعكس ما أريدتْ له، ولنا في الكتاب وصحيح السنة من المصطلحات الشرعية الثابتة المؤيَّدة بمستفيض النصوص المعلومة المعاني - غنًى عن غيرها.

 

والخلاف في كل هذا أشبه ما يكون بخلاف لفظي؛ لأن المعاني متفقة، وهي التواضع وخفض الجناب، ومحاسبة النفس، والشرع وأحكامه، حاكمة على الجميع، لكن للألفاظ دلالاتها ومعانيها، وتشريف النفس وارد كما مقت النفس وارد، والأحرى والأوجب استخدام الألفاظ الجامعة المستحسنة عند عامة الناس وللفِطَر السوية، أما أن يجري هذا في أثناء الكلام مع قرائن تدلُّ على معناه الصحيح، أو تُذكر هذه الآثار مجردةً، وإناطة فَهمها لعلم السامع أو لتحرِّيه من أهل العلم، فلا يمكن إنكاره لوروده عن السلف الصالح، ولأنه مما جرى على السنة ومداد علمائنا، هذا والله أعلم.

_______________________________________________________
الكاتب: مصعب سعيد السامرائي