إحياء العشر الأواخر من رمضان

اعلموا رحمكم الله أن شهر رمضان شهر البركة والغفران، قد آذن بالانصراف، وقد ذهب أكثره، ولم يبق فيه إلا ليالٍ محدودة، وساعات معدودة، فاغتنموا أوقاتكم، وسارعوا إلى مغفرة من ربكم، وجنة عرضها السماوات والأرض؛ أعدت للمتقين.

  • التصنيفات: ملفات شهر رمضان -

اعلموا رحمكم الله أن شهر رمضان شهر البركة والغفران، قد آذن بالانصراف، وقد ذهب أكثره، ولم يبق فيه إلا ليالٍ محدودة، وساعات معدودة، فاغتنموا أوقاتكم، وسارعوا إلى مغفرة من ربكم، وجنة عرضها السماوات والأرض؛ أعدت للمتقين.

 

واعلموا أن عباد الله الصالحين وأنبياءه وخلفاءهم وأتباعهم كانوا يحيون لياليهم وأوقاتهم بالعبادة، وقد قال تبارك وتعالى في وصفهم: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [السجدة: 16].

 

وقد قال الصحابي الجليل عبد الله بن أبي رواحة في وصف الرسول -صلى الله عليه وسلم-:

يَبِيتُ يُجَافِى جَنْبَهُ عَنْ فِرَاشِهِ   ***   إِذَا اسْتَثْقَلَتْ بِالْمُشْرِكِينَ الْمَضَاجِعُ 


 

وقد أثنى الله على هذه الأمة ووصف أتباعها بالإخلاص، وذلك لكثرة عبادتهم وسجودهم لوجهه الكريم، فقال جل من قائل حكيم: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ} [الفتح: 29].

 

وقيام الليل وكثـرة الصلوات والسجود والركوع سمة المؤمنين المخلصين المطيعين الذين مدحهم الله وأثنى عليهم في التوراة والإنجيل، وقد جاء ربيعة بن مالك الأسلمي إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يسأله عن أمرٍ، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ««اسأل يا ربيعة» ؟»، فقال ربيعة: أسألك يا رسول الله مرافقتك في الجنة، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «أو غير ذلك» ؟»، يعني: أَوَلَا تسأل عن شيء غيره؟، فقال ربيعة: لا أسألك إلا هذا، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «فأعني على نفسك بكثرة السجود»، (رواه مسلم).

 

فهذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يطلب من إنسان يريد مثل أجر النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، لا يطلب منه إلا أن يزيد في ركوعه وسجوده، وأن يحيي ليله بالعبادة والتهجد؛ مع محافظته على الفروض في أوقاتها، فعند ذلك يصاحبهم في الجنة، ويكون له مثل ثوابهم وأجرهم.

 

واعلموا أن قيام الليل كان فرضًا في أول الإسلام؛ لأن عبادة الليل بعيدة عن الرياء المحبط للأعمال؛ ولأنه أقرب لإجابة الدعاء، كما روى مسلم والبخاري: أن رسول الله ﷺ قال: «ينزل ربنا إلى السماء الدنيا؛ حين يبقى من الليل ثلثه، فيقول: من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له»؟، (متفق عليه).

 

فيا أيها المسلمون:

شمروا سواعد الجد واستعدوا لهذه العشر المقبلة ختام الشهر، واستنوا بسنة نبيكم عليه أفضل صلاة وأزكى تحية، فقد روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: «كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا دخلت العشر الأواخر من رمضان: شد مئزره، وأيقظ أهله، وأحيا ليله»، وصح عنه -صلى الله عليه وسلم-أنه قال: «تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان».

 

فبادروا بالعمل يرحمكم الله ويرضى عنكم، وتداركوا ما أضعتموه في أيامكم السالفة، فإنما الأعمال بالخواتيم، فازرعوا خيرًا لكي تحصدوا جزاءكم كاملًا موفورًا، وتباعدوا عن الشرور والآثام؛ فإنها لا تثمر إلا شرًّا ووبالًا:

مَا ينالُ الخَيْرُ بالشَّرِّ ولاَ   ***  يَحْصِدُ الزَّارِعُ إلاَّ مَا زَرَعْ 


 

فاشغلوا أوقاتكم بالعبادة والقيام ليلًا، والتسبيح والذكر والتلاوة نهارًا، واعلموا أن شهركم لا معوض له، وأن البقاء لله وحده.

 

 

فاعلموا وفقكم الله أن شهر العطف والرحمة، شهر المحبة والإحسان والمواساة، شهر الصدقات والبر، شهر التلاوة والذكر والاستغفار، قد همَّ بالسفر، فقد ذهب جُزأه الأكبر، فحاسبوا أنفسكم وادأبوا على التزود من أعمال الخير، وخير الزاد التقوى {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد: 16].

 

واعلموا أن خير الذخائر هو ما يدخره الإنسان ليوم القيامة، يوم لا يسأل حميم حميمًا، ولا الصديق عن صديقه، ولا الوالد عن والده، يوم تضع كل ذات حملٍ حملها من هوله، في ذلك اليوم يفتقر كل إنسان إلى عمله:

إذا افتقرتَ إلى الذخائِر لم تَجِدْ   ***   ذُخراً يكون كصالح الأعمالِ 

 

عباد الله:

إن لكم في رسول الله قدوة حسنة، فقد كان -صلى الله عليه وسلم-إذا دخلت هذه العشر شد مئزره، وأيقظ أهله، وأحيا ليله، وقد قام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذات ليلة يصلي حتى احتجر الدم في أقدامه، وأُرهقت أعصابه، فقالت له عائشة رضي الله عنها: لماذا يا رسول الله تجهد نفسك وتتعبها، وتقوم الليل كله، وقد غفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟، فقال -صلى الله عليه وسلم-: «أفلا أكون عبدًا شكورًا».

 

فاتقوا الله عباد الله، واستغفروه عن سالف تفريطكم، وتداركوا ما بقي بالإخلاص والعمل.

 

أيها المسلمون:

حاسبوا أنفسكم قبل أن يحاسبها غيركم، وعليكم بالجماعة، فإن يد الله على الجماعة، ومن شذَّ شذَّ في النار، وفي الحديث الذي رواه الإمام أحمد: «إن الشيطان كالذئب يأخذ من الغنم القاسية»، فاجتمعوا على البر وتقوى الله وعبادته.

 

واعلموا أن أحسن الحديث كتاب الله، فاستمعوا إليه وتفهموا معانيه، {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف: 204]، واعلموا أن خير السنن سنة نبيكم محمد عليه الصلاة والسلام.

 

ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار، واغفر لنا ولوالدينا والمسلمين، اللهم أصلح ولاة المسلمين، اللهم ولِّ علينا خيارنا، واهدهم صراطك المستقيم، وانصرهم وأيدهم بروح منك، اللهم لا تولِّ علينا بذنوبنا من لا يخافك فينا ولا يرحمنا، برحمتك يا أرحم الراحمين.

 

عباد الله:

{إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} [النحل: 90، 91].

 

فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه وآلائه التي لا تحصى يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تخفون وما تعلنون.

________________________________________________
الكاتب: الشيخ محمد بن صالح الشاوي