{واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه}

من أسباب تعاسة وشقاء ابن آدم النظر إلى ما في يد غيره فيما فُضِّلوا فيه عليه...

  • التصنيفات: تزكية النفس - نصائح ومواعظ -

يقول تعالى: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216].

 

من أسباب تعاسة وشقاء ابن آدم النظر إلى ما في يد غيره فيما فُضِّلوا فيه عليه، وحتى تقليد الآخر في كل شيء حتى في الهندام والشعر، وما يمتلك من وسائل الرفاهية والمتعة، وفي سائر مكتسباته، حتى إنه ليُحمِّل نفسه فوق طاقته ليمتلك سيارة مثل سيارة جاره أو زوجة مثل زوجته، وهذا ملاحظ؛ ولكن:

أولًا: هناك فرق بين أن يتمنى زوجة مثل زوجة جاره، وأن يتمنى زوجة جاره بعينها.

 

ثانيًا: إن هذا يجعله يغفل عما بيده مما وهبه الله له، فلا يلاحِظ نِعَمَ الله عليه، بأنه ربما كان أفضل صحيًّا من جاره الذي يعاني من أمراض، أو أن أولاده أذكى وأكثر تفوقًا من جاره، أو أن زوجته ربما تكون أفضل وأكثر صلاحًا وطِباعًا من زوجة جاره هذا.

 

جاء في سنن الترمذي عن قتادة بن النعمان؛ قال صلى الله عليه وسلم: «إذا أحب الله عبدًا، حماه الدنيا، كما يظل أحدكم يحمي سقيمه الماء»؛ [ (صححه الألباني) ].

 

وهو في معنى قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الأنفال: 24].

 

يقول ابن قيم الجوزية رحمه الله: "المشهور في الآية أنه يحول بين المؤمن وبين الكفر، وبين الكافر وبين الإيمان، ويحول بين أهل طاعته وبين معصيته، وبين أهل معصيته وبين طاعته؛ وهذا قول ابن عباس والجمهور، وقيل معناه: أنه سبحانه وتعالى قريب من قلبه لا تخفى عليه خافية، فهو بينه وبين قلبه.

 

وعلى المعنى الأول يكون تفسير الآية هكذا: إنكم إن تثاقلتم عن الاستجابة وأبطأتم عنها، فلا تأمنوا أن يعاقبكم الله بأن يحول بينكم وبين قلوبكم - أي: وبين ما تحبون - وهذا تحذير شديد للمؤمنين؛ أي: إياكم أن يعاقبكم الله بأن يحول بينكم وبين قلوبكم، فلا يمكنكم بعد ذلك الاستجابة، فعليكم المبادرة بالاستجابة؛ لأنه لو لم تسارعوا بالاستجابة فأنتم على خطر؛ وهذا مثل قوله تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف: 5]، ومثل قوله تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام: 110]".

 

وقال: "كذلك والآية جمعت بين أمر شرعي طلبي {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال: 24]، وبين الإيمان بالقدر خيره وشره؛ {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} [الأنفال: 24]، وهي مثل قوله تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير: 29]".

 

قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: "إن الله سبحانه وتعالى يحول بين المرء وقلبه، فيريد الإنسان شيئًا ويعزم عليه، وإذا به ينتقض عزمه، ويتغير اتجاهه؛ فيكون الله تعالى حائلًا بين المرء وقلبه، وفي هذا تحذير للعباد من أن يحول الله تعالى بين العبد وقلبه، فيزِلَّ ويهلِكَ؛ فعلى المرء أن يراقب قلبه دائمًا، وينظر ما هو عليه؛ حتى لا يزل ويهلك".

 

وقال ابن مسعود: "إن العبد لَيَهُمُّ بالأمر من التجارة والإمارة حتى ييسر له، فينظر الله إليه، فيقول للملائكة: اصرفوه عنه، فإنه إن يسرته له أدخلته النار، فيصرفه الله عنه، فيظل يتطير بقوله: سبَّني فلان، وأهانني فلان، وما هو إلا فضل الله عز وجل"؛‏ هذا الأثر صححه ابن القيم رحمه الله في (الصواعق المرسلة)، ورجاله ثقات عند البغوي، وقال الذهبي: أخرجه اللالكائي بإسناد حسن.

 

وقال الحافظ العراقي: رواه أبو نعيم في الحلية بلفظ: "إن الرجل ليشرف في التجارة والإمارة، فيطلع الله عز وجل إليه من فوق سبع سماوات فيقول: اصرفوا هذا من عبدي، فإني إن قيضته له أدخلته النار، فيصبح يتظانُّ - يتهم - بجيرانه من سبقني"، وقد رواه من حديث ابن عباس.

 

وهذا من رحمة وحكمة رب الناس في حماية عبادة المؤمنين أن يحميهم من الدنيا.

 

وقد أخرج الطبراني من حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قول الله عز وجل: «إن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا الفقر، وإن بسطت عليه أفسده ذلك، وإن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا الصحة، ولو أسقمته لأفسده ذلك، وإن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا السقم، ولو أصححته لأفسده ذلك، وإن من عبادي من يطلب بابًا من العبادة فأكفه عنه؛ لكيلا يدخله العجب، إني أدبر أمر عبادي بعلمي بما في قلوبهم، إني عليم خبير».

 

علاج الحسد والحقد:

وحديث المصطفى صلى الله عليه وسلم المحكم الموجز يبين الأمرين معًا: أمر تمني ما في يد الغير، والغفلة عن نِعَمِ الله.

 

ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «انظروا إلى من هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم؛ فإنه أجدر ألَّا تزدروا نعمة الله».

 

هذا التوجيه البليغ الدقيق من معلم البشرية ومن لا ينطق عن الهوى يوجز كل ما فصَّلناه؛ فالرسول الكريم يقول لابن آدم: لا تعكر صفو حياتك بالنظر إلى من هم أعلى منك مالًا أو جاهًا أو حظًّا، فتلك الأشياء وهي وإن كانت من الرزق، إلا أنها ليست كل الرزق، والنظر نوعان: نظر لمن هو فوقك؛ وهو يجلب لك الإحباط والحزن، وربما يجرك للحسد والحقد، ونظر لمن هم أسفل منك؛ وهو يأتيك بالرضا والطمأنينة، وهذا عند العامة ولكن ليس عند مَن هو مِن أهل العلم، فعلى العاقل أن يتخير بين مآل ونتيجة الأمرين؛ أمر يأتيك بالحزن والهم والبَطَر، وأمر يأتيك بالقناعة والحمد والرضا.

 

وعليك أن تراقب قلبك فإذا كنت تتمنى زوال النعمة عن هذا الشخص، وأن تحصل أنت عليها، فأنت حاسد، وإذا كنت تتمنى زوال النعمة وحسب فأنت حاقد، وإذا كنت تتمنى أن يكون لك مثلما لديه، دون أن تزول عنه تلك النعم، فهذا من الغِبطة أن تتمنى له الخير والزيادة، وتتمنى لنفسك مثله.

 

ويجوز الحسد عند التنافس في فعل الخيرات، وهنا يترادف لفظ الحسد ولفظ الغِبطة؛ وذلك أن هناك عاملًا مشتركًا بين الغبطة والحسد؛ وهو أن في كليهما تمنيًا للنعمة، إلا أن الحسد فيه تمني زوال النعمة عن المحسود، وهذا هو الفرق الذي يزول عند التنافس في فعل الخير وعند التناظر؛ لذلك يقول الرسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا حسدَ إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالًا فسُلِّط على هَلَكَتِهِ في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة، فهو يقضي بها ويُعلِّمها»، فالحسد هنا مرادف للغبطة بين رجل ينافس رجلًا آخر في الإنفاق في سبيل الله، وفي الوصول إلى الحق، فالتنافس والتسابق هنا من الحسد المحمود الذي هو الغبطة؛ لهذا فقد فَصَلَهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بقية أنواع الحسد.

 

ونخرج من ذلك بنتيجة؛ هي أن الحسد في إنفاق المال خالصًا لوجه الله، وفي ابتغاء الوصول للحكمة والحقيقة؛ وهي ذروة العلم - حسد محمود، وهو مرادف للغبطة، أما الحسد المبغوض، فهو تمني زوال نعم الدنيا الزائلة التي تفنى من متاع وغيره.

 

وهاتان الآيتان تؤكدان كلامنا السابق:

• يقول تعالى: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا} [الزخرف: 32]؛ وهي تعني أن الخلق متفاضلون في الرزق بمعناه الحقيقي، وهو كل ما يمنحه الله من نِعَمٍ ومن فضل.

 

• ويقول تعالى: {وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} [النساء: 32]؛ جاء في تفسير السعدي: "ينهى الحق تعالى المؤمنين عن أن يتمنى بعضهم ما فضَّل الله به غيره من الأمور الممكنة وغير الممكنة، فلا تتمنى النساء خصائص الرجال التي بها فضلهم على النساء، ولا صاحب الفقر والنقص حالة الغنى والكمال تمنيًا مجردًا؛ لأن هذا هو الحسد بعينه، تمني نعمة الله على غيرك أن تكون لك ويسلب إياها، ولأنه يقتضي السخط على قدر الله، والإخلاد إلى الكسل والأماني الباطلة التي لا يقترن بها عمل ولا كسب؛ فما عند الله يُطلَب بطاعته ولا يُعطَى بمعصيته".

 

وآفة العبد إذا رأى مَن فوقه تاقت نفسه للحاق به، واستقصر حاله التي هو عليها، وربما كان من وراء دفعه إلى ذلك مجرد الزَّهْو والتباهي والتفاخر، وربما كانت كما نرى الزوجة والأولاد، وهذا الحال حادث ونراه جليًّا، والزهو والتباهي بمتاع الدنيا ليس من شيمة أهل الآخرة، ولا أهل العلم، وعلى العبد إدراكُ أنه القيِّم على أسرته، وأن العبد إزاء مطالِبِ أبنائه وزوجته بين أمور ثلاثة؛ هي:

• قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم: 6].

 

• وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} [التغابن: 14].

 

• وقوله تعالى: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا} [الإسراء: 29].

 

والتفاضل بين الناس في شرع الله إنما يكون بالتقوى والعمل الصالح فقط، والتقوى والعمل الصالح تبعٌ للعلم، فكلما ازداد العبد علمًا، ازداد ورعًا وهربًا من الدنيا وأهلها، وزهدًا فيما في أيدي الناس؛ روى ابن ماجه عن أبي العباس سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال: ((جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، دُلَّني على عمل إذا عمِلتُه أحبني الله وأحبني الناس، فقال: «ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما عند الناس يحبك الناس».

 

وقد سُئل النبي صلى الله عليه وسلم: أي المؤمنين أكْيَسُ؟ قال: «أكثرهم ذكرًا للموت وأحسنهم لِما بعده استعدادًا»، قال: وسُئل النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ} [الأنعام: 125]، قالوا: كيف يشرح صدره يا رسول الله؟ قال: «نور يُقذَف فيه، فينشرح له، وينفسح له» ، قالوا: فهل لذلك من أمارة يُعرف بها؟ قال: «الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل لقاء الموت»؛ [ (أورده السيوطي في التفسير) ].

 

ومما ابتُليَ به شباب الأمة في هذا العصر تقليد أهل الغرب؛ فالعالم - كما يقولون - قد أصبح كالقرية الصغيرة، وما يظهر لنا منهم للأسف هم أسوأ ما يمثلهم؛ وهم الممثلون ولاعبو الكرة ومشاهير الدنيا من أثريائهم، فترى من على شاكلتهم من محبي الدنيا يقلدونهم ويقتدون بهم في السلوك والهيئة وأسلوب المعيشة؛ وهم كما قال ابن المقفع: "طالب الدنيا مثل شارب ماء البحر كلما ازداد شربًا، ازداد عطشًا حتى يقتله"، والحق تبارك وتعالى حذرنا من مقارنة حالنا كمؤمنين بالله، مع أحوال هؤلاء من طالبي الدنيا، فضلًا عن موالاة أهل الكتاب وأهل الكفر، وقد حذرنا الله من ذلك في آيات كثيرة.

 

• ويقول تعالى: {لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ} [آل عمران: 28].

 

• ويقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة: 57].

 

• ويقول تعالى: {هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ} [آل عمران: 119].

 

وقد قال لنا صلى الله عليه وسلم: «لَتتبعُنَّ سَنَنَ مَن كان قبلكم شبرًا بشبر، وذراعًا بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضبٍّ، لدخلتموه» ، قال الصحابة: يا رسول الله، اليهودَ والنصارى؟ قال: «فمن»؟؛ أي: فمن غير اليهود والنصارى؟ [ (رواه الشيخان) ].

 

ويأخذنا هذا إلى لفت الأنظار نحو (العين):

يقول تعالى: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه: 131].

 

بحث البعض من علماء الباراسيكولوجي عن إثبات نظرية تسمى "الانبعاثات الخارجية"؛ وهي تزعم انبعاث أشعة كهرومغناطيسية من المخ تخرج عبر العين، وذلك خلال سعى علماء الغرب في علوم الطاقة الحيوية عن بعض ما ذُكر في الفلسفات الشرقية الآسيوية، وقد فسر بعضهم تأثير العين بأنه طاقة سلبية تنتقل إلى الآخر وتسبب له الأذى، وتنتقل الطاقة من الدماغ عن طريق العين التي تعد نافذة الروح إلى الآخر؛ فتُحدِث خللًا في دورته الخاصة بالطاقة المفترضة له، وهو ما ينعكس بالسلب على حالته الصحية، وأيًّا كان ذلك، فهو لم يلاقِ قبولًا علميًّا.

 

لكن ذكر العين موجود في تراثنا العربي والإسلامي منذ قرون، فقد تصيب العين حتى دون قصد العائن زوالَ النعمة، فهي اندهاش وإعجاب زائد ربما بقصد أو بدون قصد، وقيل: قد يصيب العائن نفسه، وهذا يعني أنها غير مقصودة.

 

يقول ابن القيم رحمه الله في (زاد المعاد) ما يؤكد ذلك: "وقد يعين الرجل نفسه، وقد يعين بغير إرادته، بل بطبعه، وهذا أردأ ما يكون من النوع الإنساني".

 

ولا شك في أن تأثير العين هو من القَدَرِ، فلا شيء يصيب الإنسان إلا بإذن الله؛ فالحق سبحانه يقول: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحديد: 22]، والضر لا يكون إلا بإذن الله؛ يقول تعالى: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة: 102].

 

وقد قال المفسرون في قوله تعالى: {وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ} [القلم: 51]: إن قوله تعالى: {لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ} تشير إلى محاولات الكفار لاستخدام العين في النَّيل منه صلى الله عليه وسلم.

 

وقال المفسرون: إن نصيحة سيدنا يعقوب عليه السلام ليوسف بعدم إخباره لإخوته بالرؤيا التي رآها وهو صغير، ونصحه لأبنائه كذلك يشير إلى الحسد والعين؛ فقد جاء في القرآن: {وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} [يوسف: 67]، فقد كانوا أحد عشر رجلًا فخاف عليهم من الحسد؛ ويقول الحق تبارك وتعالى بعدها: {وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [يوسف: 68]، ومن المعروف أن سيدنا يعقوب ويوسف عليهما السلام كانا يتنبؤون بحدوث الأشياء قبل وقوعها، ويتأولون الرؤى؛ وذلك من العلم اللدني؛ كما قال تعالى عن يوسف: {قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ *وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ} [يوسف: 37، 38].

 

روى الإمام مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما قول المصطفى صلى الله عليه وسلم: «العين حق، ولو كان شيءٌ سابقَ القدر، سبقته العين، وإذا استُغسلتم فاغسلوا».

 

فالحديث يثبت حقيقة وجود العين وتأثيرها، ولولا أن نزول وحلول القدر سابق لكل شيء لكانت العين سابقة له، وهذا يدل على سرعة إصابتها وقوة تأثيرها؛ فالحق تعالى يقول: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [التوبة: 51]، وقد كانوا يقولون إن ضرر العين يتم دفعه بأن يؤمر العائن بغسل أطرافه وما تحت الإزار، ويصب ماء الغسيل على المعيون؛ ويوجهنا صلى الله عليه وسلم بمساعدة المعيون في إتمام ذلك، فيقول: «وإذا استُغسلتم فاغسلوا».

 

وقد حسَّن الألباني في السلسلة الصحيحة حديث: «العين تُدْخِل الرجل القبر، والجمل القدر»، وحسَّن ابن حجر والألباني قوله صلى الله عليه وسلم: «أكثر ما يموت من أمتي بعد قضاء الله وقدره العين»، والعين من أمور الغيب التي لا يصدق فيها إلا ما جاء بالكتاب والسنة، ولله في خلقه شؤون؛ يقول ابن القيم رحمه الله: ولا ريب أن الله سبحانه خلق في الأجسام والأرواح قوى وطبائع مختلفة، وجعل في كثير منها خواص وكيفيات تؤثر، ولا يمكن للعاقل إنكار تأثير الأرواح في الأجسام، فإنه أمر مشاهد محسوس، والحق قد يبتلي عباده بالمرض الجسدي والروحي والنفسي وبشتى الابتلاءات؛ ليمتحن صبرهم ومدى قوة إيمانهم بما قدَّره؛ يقول تعالى: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا} [الفرقان: 20].

 

توجيهات نبوية:

يقول تعالى: {وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ} [الكهف: 39]؛ قال ابن كثير: "قال بعض السلف: من أعجبه شيء من ماله أو ولده، فليقل: ما شاء الله لا قوة إلا بالله، ولو رأى صورته في المرآة أو على صفحة الماء فأعجبته، فليقل: ما شاء الله لا قوة إلا بالله".

 

• أخرج أحمد والحاكم عن سهل بن حنيف قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما يمنع أحكم إذا رأى من أخيه ما يعجبه في نفسه وماله، فليبرِّك عليه؛ فإن العين حق»؛ معنى (فليبرك عليه): يدعو بالبركة، وكثيرًا ما كنا نسمعها من الجدات والأجداد مقولة: (تبارك الله)، أو (تبارك الله فيما خلق).

 

• وجاء في حديث رواه أحمد والنسائي وابن ماجه، وصححه الألباني في صحيح الجامع قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «علام يقتل أحدكم أخاه؟ ألَا برَّكتَ».

 

• روى ابن ماجه وصححه الألباني عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «استعيذوا بالله من العين؛ فإن العين حق».

 

• وروى الترمذي وحسنه وابن ماجه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعوذ من عين الجان، ثم أعين الإنس، فلما نزلت المعوذتان، أخذهما وترك ما سوى ذلك)).

 

• كما أن في الرقية الشرعية فوائدَ جمة وآثارًا جلية.