تقدير الأحوال وطيب الكلام

نقف مع أحاديث أحسن الناس خلقًا صلى الله عليه وسلم؛ لنتعلم كيف يقدر الأحوال، وينشر بين الناس أعذب وأجمل المواقف والكلام.

  • التصنيفات: الآداب والأخلاق - أخلاق إسلامية -

نحن في الدنيا في حالة مشاركة مع الناس رضينا بهذا الأمر أو كرهنا، فما من أحدٍ إلَّا ولديه علاقة أو قضية أو حوار مع شخص في كل يوم، وكل عاقل حريص كل الحرص أن تكون علاقته مع الناس علاقة تتَّسِم بأعلى درجات الاحترام والتقدير؛ حفاظًا على دينه أولًا، وتقديرًا لمكانته ثانيًا، ومن هنا نقف مع أحاديث أحسن الناس خلقًا صلى الله عليه وسلم؛ لنتعلم كيف يقدر الأحوال، وينشر بين الناس أعذب وأجمل المواقف والكلام.

 

فعن أنس بن مالك قال: "مَرَّ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بامْرَأَةٍ تَبْكِي عِنْدَ قَبْرٍ، فَقالَ: «اتَّقِي اللَّهَ واصْبِرِي»، قالَتْ: إلَيْكَ عَنِّي؛ فإنَّكَ لَمْ تُصَبْ بمُصِيبَتِي، ولَمْ تَعْرِفْهُ، فقِيلَ لَهَا: إنَّه النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فأتَتْ بَابَ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَلَمْ تَجِدْ عِنْدَهُ بَوَّابِينَ، فَقالَتْ: لَمْ أَعْرِفْكَ، فَقالَ: «إنَّما الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الأُولَى» [1].

 

المرأة قد أفقدتها المصيبة حاسَّة المشاهدة؛ فلا تعرف ولا تريد أن تعرف مَن مَرَّ عليها؛ ولذا ردَّت بقلب مكلوم: (إلَيْكَ عَنِّي؛ فإنَّكَ لَمْ تُصَبْ بمُصِيبَتِي) عَرَف المصطفى الحال وألم المقال فذهب، وعندما أتت معتذرةً أسقط القضية الشخصية وأعطاها رسالةً للأُمَّة تنقلها للأجيال، فقال: «إنَّما الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الأُولَى» .

 

التقدير حال الغضب:

وهذا زَيدُ بنُ سَعْنةَ، حبر من أحبار اليهود، يختبر الحلم والخُلُق الرفيع في شخص النبي صلى الله عليه وسلم، فأسلف للنبي صلى الله عليه وسلم ثمانينَ مثقالًا من ذهبٍ في تمرٍ معلومٍ، فلما كان قبلَ محِلِّ الأجَلِ بيومينِ أو ثلاثٍ، قال: أتيتُهُ فأخذْتُ بمجامِعِ قميصِهِ وردائِهِ، ونظرْتُ إليه بوجْه غليظٍ، قلْتُ له: يا محمدُ، ألَا تَقْضِيني حقِّي، فواللهِ ما علمتُم بني عبدِ المطلبِ لمُطْلًا، ولقدْ كان بمخالَطَتِكُمْ علمٌ، ونظرْتُ إلى عمرَ وعيناه تدورانِ في وجهِهِ كالفلَكِ المستديرِ، ثم رماني ببصرِهِ، فقال: يا عدوَّ اللهِ، أتقولُ لرسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ما أسمَعُ، وتصنَعُ به ما أرى؟! فوالذِي نفْسِي بيدِهِ، لولا ما أُحاذِرُ فَوْتَهُ لضربْتُ بسيفِي رأسَكَ، ورسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ينظرُ إليَّ في سكونٍ وتُؤَدَةٍ، فقال: «يا عمَرُ، أنا وهو كنَّا أحوجَ إلى غيرِ هذا؛ أنْ تَأْمُرَنِي بحُسْنِ الأداءِ، وتأمرَهُ بحُسْنِ اتِّباعِهِ، اذهَب بِه يا عمرُ، فأعْطِهِ حقَّهُ، وزِدْهُ عشرينَ صاعًا من تمْرٍ مكان ما رُعْتَهُ»، قال زيد: فقُلْتُ: ما هذه الزِّيادةُ يا عُمَرُ؟ قالَ: أمَرَني رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنْ أَزيدَكَ مَكانَ ما روَّعْتُكَ، قلتُ: يا عمرُ، لم يكن من علاماتِ النبوَّةِ شيءٌ إلَّا وقدْ عرفتُ في وجْهِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حينَ نظرتُ إليه، إلا اثنتَيْنِ، لم أُخبَرْهُما منه: يَسْبِقُ حِلْمُهُ جهلَهُ، ولَا تزيدُهُ شدَّةُ الجَهْلِ عليهِ إلَّا حلمًا، ثم أسلم زيد أمام النبي صلى الله عليه وسلم[2].

 

قدر حال صاحب الحق، وكظم غيظه، وزاده في العطاء، وأحسن في القضاء، وكان سيدًا في الوفاء، صلى الله عليه وسلم.

 

التقدير حال سوء الخلق:

والناس مهما كان حالهم فإنه ولا بُدَّ من بيئة تؤثر في مقالهم وأحوالهم، فهذا أعرابي الصحراء لا يعرف أدبيَّات التعامُل، ولا أساليب الطلب، ولا مقامات الناس غالبًا، ففي حديث أنَسٍ قال: "كُنْتُ أَمْشِي مع النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وعليه بُرْدٌ نَجْرَانِيٌّ غَلِيظُ الحَاشِيَةِ، فأدْرَكَهُ أَعْرَابِيٌّ فَجَذَبَهُ جَذْبَةً شَدِيدَةً، حتَّى نَظَرْتُ إلى صَفْحَةِ عَاتِقِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قدْ أَثَّرَتْ به حَاشِيَةُ الرِّدَاءِ مِن شِدَّةِ جَذْبَتِهِ، ثُمَّ قالَ: مُرْ لي مِن مَالِ اللَّهِ الذي عِنْدَكَ، فَالْتَفَتَ إلَيْهِ فَضَحِكَ، ثُمَّ أَمَرَ له بعَطَاءٍ"[3]، وفي رواية: "فَجَاذَبَهُ حتَّى انْشَقَّ البُرْدُ، وَحتَّى بَقِيَتْ حَاشِيَتُهُ في عُنُقِ رَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ"[4].

 

دراسة مستعجلة، وفهم دقيق، وتقدير للحال، تنتهي بابتسامة تشرق بالعطاء المعنوي من فَمِ سيد ولد آدم، ولا تكفي المعنويَّات لمثل الأعرابي، فإنه لم يقبل على ما صنع بهذا العمى إلا ويريد ما يشفي طمعه من الدنيا، فأمر له بالعطاء رغم انغلاق كل أسبابه لهذا الرجل، صدق الله: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4].

 

 

التقدير حال الشهوة:

وفي عنفوان الشباب واندفاع الهوى يغيب الوعي وتقدير الموقف، فهذا حديث أبي أمامة الباهلي: "إنَّ فتًى شابًّا أتى النبيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ فقال: يا رسولَ اللهِ، ائذنْ لي بالزِّنا فأقبل القومُ عليه فزجَروه، وقالوا: مَهْ مَهْ، فقال: «ادنُهْ»، فدنا منه قريبًا، قال: فجلس، قال: «أَتُحبُّه لِأُمِّكَ» ؟ قال: لا واللهِ، جعلني اللهُ فداءَك، قال: «ولا الناسُ يُحِبُّونَه لأُمهاتِهم»، قال: «أفتُحِبُّه لابنتِك»، قال: لا واللهِ يا رسولَ اللهِ، جعلني اللهُ فداءَك، قال: «ولا الناسُ يُحِبُّونَه لبناتِهم»، قال: «أفتُحِبُّه لأُختِك»، قال: لا واللهِ، جعلني اللهُ فداءَك، قال: «ولا الناسُ يُحِبُّونَه لأَخَواتِهم»، قال: «أَفتُحبُّه لعمَّتِك»، قال: لا واللهِ، جعلني اللهُ فداءَكَ، قال: «ولا النَّاسُ يُحِبُّونَه لعمَّاتِهم»، قال: «أفتُحِبُّه لخالتِك»، قال: لا واللهِ، جعلني اللهُ فداءَكَ، قال: «ولا النَّاسُ يُحِبُّونَه لخالاتِهم»، قال: فوضع يدَه عليه وقال: «اللهمَّ اغفرْ ذنبَه، وطهِّرْ قلبَه، وحصِّنْ فرْجَهُ»، فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفتُ إلى شيءٍ" [5].

 

شابٌّ طغت الشهوة على تفكيره فلم يتردَّد في طرح مقتضاها أمام أعظم الخَلْق مَقامًا وهيبةً؛ لكن الحال يحتاج لمعالجة عقليَّة تطفو على الحال الشهوانية، فقال: «أَتُحِبُّه لِأُمِّكَ» ؟ وهنا انتبه الشاب إلى أن القضية لها متعلَّقات ولا تقف عند قضاء الشهوات، ثم ختم له بأجمل الدعوات «اللهُمَّ اغفرْ ذنبَه، وطهِّرْ قلبَه، وحَصِّنْ فرْجَهُ» .

 

فمِمَّا مضى يمكن أن نضع لأنفسنا منهجًا ينهل من المورد العذب والمعين الصافي والخُلُق الذي لا يبلى، فنقول في إيجاز كلام:

 لن يعرف قدرك البشر، زادوا في مدح، أو شنَّعُوا في ذمٍّ، فعن البَراءِ بنِ عازِبٍ: في قولِهِ تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ} [الحجرات: 4]، قالَ: قامَ رجلٌ فقالَ: يا رسولَ اللَّهِ، إنَّ حَمدي زَينٌ، وإنَّ ذمِّي شَينٌ، فقالَ النَّبيُّ صلَّى اللَّه عليهِ وعلى آلِهِ وسلَّمَ: «ذاكَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ» [6]، فالذي يعرف قدرك هو الله.

 

 مهما بلغ شناعة الموقف والذي آذاك بأيِّ صورة من الصور، فإن له دوافع وأحوال لو علمتها لتنزَّهت عن الخوض فيها، وقد تعذَّر صاحبها وتندَّم على لَوْمِك إيَّاه وعتبك.

 

3ـ هناك صِنْفٌ من البشر لأمر في نفوسهم ولرقَّة في دينهم وانحراف في معتقدهم وسلوكهم لم يرضَ باللهِ ربًّا، ولا بمحمدٍ رسولًا، فلا تطلب المستحيل بأن يرضوا عنك مهما قدَّمْتَ لهم.

 

 لا نعامل الناس بأخلاقهم؛ وإنَّما بأخلاقنا التي علمنا إياها ديننا، فلا نترك كريم الأخلاق لسقط السفهاء (فمن لم يخف الله فيك يجب عليك أن تخاف الله فيه).

 

الدعاء:

اللهُمَّ اهدِنا لأحسنِ الأخلاقِ، لا يهدي لأحسنِها إلا أنتَ، واصرف عنا سيِّئَها، لا يصرفُ عنا سيِّئَها إلا أنتَ.


[1] البخاري (1283).

[2] قال الهيثمي في مجمع الزوائد: رجاله ثقات، وصحَّحه الحاكم في المستدرك، وقال المزي في تهذيب الكمال: حسن مشهور.

[3] البخاري (3149).

[4] مسلم (1057).

[5] قال الهيثمي في مجمع الزوائد: رجاله رجال الصحيح، صحَّحه الألباني في السلسلة الصحيحة، والأرناؤوط في تخريج المسند.

[6] صححه البوصيري في إتحاف الخيرة المهرة، والسيوطي في الدرر المنثور، والألباني في صحيح الترمذي.

____________________________________________

الكاتب: د. عطية بن عبدالله الباحوث