القرآن ومعركة المصطلحات

منذ 2023-02-11

تخوض أمتُنا معركة حاسمة في جميع مجالات الحياة، ولا سيما في ميدان الفكر والثقافة؛ حيث تستعمل في هذه المعركة كل أنواع الأسلحة الفتاكة التي تهدف إلى بلبلة الأفكار...

تخوض أمتُنا معركة حاسمة في جميع مجالات الحياة، ولا سيما في ميدان الفكر والثقافة؛ حيث تستعمل في هذه المعركة كل أنواع الأسلحة الفتاكة التي تهدف إلى بلبلة الأفكار، وإشاعة الفوضى والانحلال، والانسلاخ من العقيدة والتراث والتاريخ، والإتيان على بنيان هذه الأمة من القواعد، ومن أخطر هذه الأسلحة: سلاح المصطلحات والشعارات الذي طرحه الغرب[1] للتداول في عالمنا الإسلامي مع بَدء الغزو الفكري، ولم يمض كبيرُ وقت، حتى شاعت هذه المصطلحات وذاعت بعد أن رددتْها وسائل الإعلام، وعمَّمتها الصحف والمجلات، وأُقحمت في صُلب المناهج والكتب الدراسية، وأصبحت اليوم عملة دارجة، تطالعك بها الأغاني الشعبية، وأحاديث الدَّهماء، فضلًا عن أنصاف المتعلمين والمثقفين الذين يلهجون بذكرها - حين يستريحون وحين يَسرَحون - ليثبتوا للناس أنهم بلغوا الحلم، وآنسوا من أنفسهم الرشدَ، وتأتي خطورة هذه المصطلحات والشعارات من أن كل مصطلح أو شعار مرتبط ارتباطًا وثيقًا بشجرته الفكرية التي يُمثلها، ويتغذى منها، ويعيش عليها، وبالتالي فهو حينما يُطرَح للتداول في مجتمع جديد، لا بد أن يحمل معه رصيده وفلسفته وتاريخه، ولا بد أن يلقي بظلاله وإيحاءاته وقِيَمِه في هذا المجتمع الذي يُحسن استقبال الوافد الجديد - بحكم تقاليد الضيافة العربية - ويُخلي له البيت، ويرفع من طريقه العقبات، وإيثارًا لمبدأ التسامح الديني الذي عُرفنا به ونتنازل - بسماحة حاتم - عن مصطلحاتنا وشعاراتنا، ليخلوَ الجو لضيف الثقيل الذي يبيض ويفرخ، ويستوطن ويستعرب، وعلى المصطلح الإسلامي أن يغادر أرضه وبلاده، ليعيش لاجئًا ذميًّا في بلد آخر، أو يكتفي أن يعيش في زاوية ميتة من زوايا التاريخ، علمًا أنهم يلاحقونه حتى في مثل هذه الزاوية، ويلبسونه لباسًا جديدًا، ويفسرونه تفسيرًا مشوَّهًا، حتى يفقد حرارته، ويخبوَ ضَوْءُه، وتسكن إشعاعاته، ثم يضربون حوله ستارًا حديديًّا يمنع الناس من الوصول إليه، ويمنعه من أن يلقي إليهم بشهاب قبس أو جذوة من نار.

 

وتقوم المعركة داخل المجتمع إذا شعر العقلاء بخطورة هذا المصطلح؛ حيث ينبهون الناس إلى حقيقته وأهدافه، وأنه ليس صديقًا زائرًا، وإنما هو غازٍ، فاتح وعدو فاتك.

 

ويستنجد المصطلح بالطابور الفكري الخامس الذي يهب للوقوف إلى جانبه، ويشهر سلاحًا آخر من المصطلحات والشعارات، فهؤلاء الذين يحاربون المصطلح الجديد: رجعيون! برجوازيون! خونة! عملاء! رأسماليون! ديمانموجيون! ثيوقراطيون! إمبرياليون! إلى هذا المسلسل الأجنبي.

 

ويحفظ العوام والدَّهماء، و(البروليتاريا) هذه المصطلحات، من كثرة ترديدها على مسامعهم، ويظنون أنهم إذا ما رددوها قد صاروا في عداد العلماء، واجتازوا بذلك مرحلة الأمية، وأصبح بإمكانهم أن يتحدثوا للناس، ويخطبوا في المجالس والاحتفالات، ويناقشوا في المراكز والمنتديات، ويقدموا لنا نظريات في بناء الدولة والمجتمع، ويقودوا الأمة بمفكِّريها وعقلائها إلى هذا الدرك الهابط والمستنقع الآسِن؛ حيث يسود الجهل وينزوي العلم، وتنقلب القيم، وتختلط المفاهيم، فتضيع الحقائق وتنتشر الفوضى، وينحل المجتمع، فيقتل الناس بعضهم بعضًا، وتسود شريعة الغاب، فتطل الذئاب، وتنبح الكلاب ويَنعِق البوم، ويسود الوجوم، ويسجل التاريخ نهاية أمة.

 

ومن هنا كان علينا أن ننتبه لخطر هذه المصطلحات، فهي بمثابة الجسم الغريب الذي يدخل جسم الإنسان، فإما أن يطرحه على هذا الجسم، وإما أن يقتل هذا الجسم، أو يضعفه ويمرضه، وليس هناك حل وسط، ولا نستطيع نحن أن نقف في وجه هذه المصطلحات موقفًا سلبيًّا فقط، بل لا بد من موقف إيجابي أيضًا، بل هو الأصل الذي نعوِّل عليه، وهذا الموقف الإيجابي يعني أن نطرح مصطلحاتنا الإسلامية بقوة للتداول، ويفضل أن تكون المصطلحات مصطلحات قرآنية أولا قبل كل شيء، ذلك أن المصطلح القرآني هو المصطلح الرباني الذي لا يوازيه أي مصطلح آخر؛ من حيث الصياغة والمحتوى، أو من حيث الدقة والتحديد، أو من حيث الشيوع والذيوع، والاقتصار على المصطلح القرآني - إن وجد - يوفر علينا كثيرًا من المشاكل التي تنتج عن المصطلحات الاجتهادية التي تختلف باختلاف المجتهدين، والتي تؤدي إلى تعدد المصطلحات لمفهوم واحد؛ مما يضعف هذه المصطلحات، ويسلبها القوة والقدرة على الصمود في وجه المصطلحات الغربية، كما يؤدي إلى نوع من بلبلة في الأفكار واختلاط المفاهيم بين المسلمين أنفسهم.

 

ولا تزال أمتنا تعاني من كثير من المصطلحات التاريخية التي دخلت إلى تراثنا، ولم تكن مصطلحات قرآنية؛ مما أثار الخصومات والمعارك الكلامية التي قتلت وقت المسلمين، وشغلتهم عن الجهاد، وفرَّقتهم شيعًا وطوائفَ: {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [المؤمنون: 53].

 

وإذا أخذنا على سبيل المثال مصطلح (التصوف)، هذا المصطلح الذي ليس قرآنيًّا، والذي بدأ في العصر العباسي حينما أطلق على جماعة من الناس قاموا يحاربون الترف والنعيم الذي ساد الدولة العباسية، ويدعون إلى الزهد في هذه الدنيا الفانية، ثم تطور ليعني طريقة في السلوك والتربية والأخلاق، ثم دخلته مفاهيم وأفكار هندية ونصرانية وأعجمية، تخالف عقيدة الإسلام وأفكاره، ثم ليصبح بعد ذلك نظريات فلسفية تقول بالحلول والاتحاد ووحدة الوجود، ثم ليصبح طرقًا متعددة لها أول وليس لها آخر، تملأ العالم الإسلامي، وكل واحدة منها تعتقد أنها الفرقة الناجية، وأن الحق لا يجاوزها، وتتهم غيرها بالانحراف والفسوق، وعاش المسلمون فترة طويلة من تاريخها يتنابزون بالألقاب، ويأكل بعضهم لحم بعض، وما تزال أثار هذه الحياة تلوِّن بعض أنحاء العالم الإسلامي.

 

فلو أننا عمدنا إلى مصطلح قرآني، لنُطلقه على الحالة الأولى التي بدأت في العصر العباسي، وهي دعوة الناس إلى إيثار الآخرة على الدنيا، وتحذيرهم من الترف والنعيم، لم نصل إلى ما وصلنا إليه من نتائج وآثار ما نزال نعاني منها حتى يومنا هذا، ولو فتشنا في القرآن الكريم عن مصطلح لمثل هذه الحالة، لوجدنا مثلًا كلمة (الإحسان) يمكن أن تؤدي هذا المدلول، دون أن تدخل تلك الأفكار الغربية التي دخلت تحت كلمة (تصوف)؛ ذلك أن الكلمات القرآنية يحدد معناها اللغة ويعطيها مفهومها القرآن، فلا مجال في ذلك للزيادة والنقصان، ولو حاولنا أن نتبيَّن مفهوم القرآن لهذا المصطلح (الإحسان)، لوجدناه كما يلي:

{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ * كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ * وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [الذاريات: 15 - 19]، كما فسره الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل، حين سئل عن الإحسان، فقال: «الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه، فإنه يراك» .

 

وفي مواجهة المصطلحات الغربية الوافدة، لا بد لنا من أن نعيد طرح مصطلحاتنا القرآنية بقوة، وتمتاز بالإضافة لما قدمنا أنها تحمل طابع العقيدة دائمًا؛ حيث تعطيها الأولوية في كل شيء؛ مما يجعلها منسجمة مع نظرتنا العامة إلى الحياة التي نستمدها من القرآن نفسه، فلا نقع في تناقض بين عقيدتنا ومصطلحاتنا - كما هو حادث اليوم بعد فشو المصطلحات الغربية - حيث نشاهد الاضطراب الذي يعم المسلمين جميعًا بعد أن أصبحت هذه المصطلحات بدهيات مسلَّمة، وحقائق مقررة عند العوام والخوص؛ مما حدا ببعض المفكرين إلى استعمال هذه المصطلحات، وإعطائها مفهومًا إسلاميًّا، وقطعها عن جذورها التاريخية والفكرية، إرضاءً لهذه الجماهير التي سحرتها هذه المصطلحات والشعارات، وبدلًا من أن تكون هذه المصطلحات جسرًا يعبره المنادون بها إلى الإسلام - كما كان يظن - غدت جسرًا يعبره المسلمون إلى تلك الأفكار والقيم التي تمثلها هذه الشعارات؛ لأن الجسر الذي يكون صالحًا للذهاب، فهو صالح للإياب أيضًا، خاصة وقد جاءت هذه الدعوة في ظروف غير مناسبة؛ حيث كانت تلك الشعارات والمصطلحات قد وصلت إلى الحكم، وأخذت طريقها للتنفيذ، وعبرت بالمسلمين ذلك الجسر إلى الجاهلية.

 

وبعد أن خفَّت حِدَّةُ المعركة قليلًا، بانتصار موقوت للمصطلحات الجاهلية الحديثة، فعلى رجال الفكر الإسلامي أن يراجعوا أنفسهم، وينظروا فيما قدموا، ويتأملوا كثيرًا فيما حدث، ويدفعوا بالمصطلحات القرآنية للناس من جديد، محددةً واضحة متميزة، مقارنةً مع مصطلحات الجاهلية مع بيان الفروق الكبيرة، وتحطيم الجسور المقامة، ووضع الناس أمام احتمالين لا ثالث لهما: إما الإسلام وإما الجاهلية، {وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} [الأنعام: 55]، ومن ثم تستبين سبيل المؤمنين.

 

وإذا ما حاولنا تبيُّن بعض هذه المصطلحات التي اقتحمت علينا أسوارنا، وغدت مدار حياتنا، وحاولنا تفهُّمها وإدراكها، وعقدنا مقارنة بينها وبين مصطلحاتنا القرآنية، فإننا نجد الفروق الشاسعة التي ليست هي في الواقع إلا فروقًا بين ثقافتين ودينين، وحضارتين؛ أي بين إسلام وجاهلية.

 

مصطلح الوطنية:

نأخذ على سبيل المثال: مصطلح (الوطنية) و(الوطن) و(المواطن) و(الوطني)، والذي لم يفطن له أحد فيما أعلم.

 

هذا المصطلح لم يكن معروفًا في تاريخنا، وكلمة (مواطن) لا مدلول لها في المعجم الإسلامي؛ لأن الولاء في الإسلام للعقيدة، لا للأرض ولا للقوم، ولا لغيرها من الاعتبارات الأخرى التي دخلت ثقافتنا حديثًا بتأثير الغزو الفكري الأوروبي؛ حيث استلهمت من أوروبا الغربية خصوصًا فرنسا وإنكلترا[2]، ولو أننا رجعنا إلى القرآن الكريم لاستخلاص المصطلح الإسلامي، لم نجد ذكرًا للوطن ولا للمواطن، وإنما يستعمل القرآن كلمة أخرى، وهي (الدار) - معرفة بالألف واللام تارة، وبالإضافة تارة أخرى - فمن الأول قوله تعالى في مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم في معرض حديثه عن الأنصار: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا} [الحشر: 9]، ومن الثاني حديثه عن المهاجرين؛ حيث يقول: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} [الحج: 40]، ومن ذلك قوله مخاطبًا بني إسرائيل: {سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ} [الأعراف: 145].

 

فالعقيدة في الإسلام قبل (الوطن) أو (الدار)، وفي حالة التعارض على المسلم أن يهاجر من بلده ويترك داره: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} [النساء: 97]، ومن هنا كان المصطلح الإسلامي (دار الإسلام) مصطلحًا قرآنيًّا - بالمعنى لا باللفظ - تبرز فيه العقيدة قبل الأرض، وتستمد الأرض فيه قيمتها من العقيدة التي فوقها، والناس في دار الإسلام لا ينسبون إلى الأرض (مواطنون)، وإنما ينسبون إلى عقائدهم (مسلمون).

 

وكذلك الأمر بالنسبة إلى غير دار الإسلام، فهناك دار العهد، ودار الحرب، ودار العهد هي التي ترتبط بدار الإسلام بمعاهدة أو ميثاق، ودار الحرب هي التي لا ترتبط بدار الإسلام بعهد ولا ميثاق، ورعايا هذه الدُّور يسمون معاهدين أو محاربين.

 

وهكذا نجد المصطلح الإسلامي مصطلحًا محددًا يرتبط بالعقيدة، ويمنع من اختلاط المفاهيم الجديدة التي جاءتنا بها المصطلحات الجاهلية، ويحدد سلوك المسلم على أساس العقيدة لا على أساس الوطن الذي يطلب منه في بعض الأحيان أن يتخلى عن عقيدته لمصلحة وطنية، وخوفًا من أن يؤدي ذلك تفرقة طائفية بين أبناء الوطن الواحد؛ حيث أصبحت الدعوة إلى الإسلام في دار الإسلام أمرًا مستنكرًا، والمناداة بالعودة إلى الإسلام الذي يشكل أبناؤه 99% من سكان العالم العربي دعوة طائفية تحارب بكل وسيلة؛ ذلك أن هناك 1% من غير المسلمين يسكنون العالم العربي، وعلى المسلمين إذًا أن يتخلوا عن عقيدتهم وشريعتهم وأخلاقهم وحضارتهم إرضاءً لهذا الواحد بالمائة من غير المسلمين، وهذا هو آخر ما وصلت إليه النظم والنظريات الديمقراطية الحديثة التي تقوم على أساس حكم الأكثرية!

 

مصطلح القومية:

ولو أخذنا مصطلحًا آخرَ (القومية) الذي انتشر حديثًا في بلادنا، وأصبح يدل على مذهب واتجاه، ويحمل مفهومًا فكريًّا، هذا المصطلح لا وجود له في تاريخنا وثقافتنا، وإن كانت كلمة ((قوم)) موجدة في ثقافتنا وتراثنا، ولكنها لا تعني أكثر من مجموعة من الناس يرجعون إلى أصل واحد، ويعيشون حياة مشتركة، و(القومية) بوصفها مفهومًا، لم تظهر إلا مؤخرًا، وقد ظهرت في ألمانيا أولًا، وأخذت طابَعًا عرقيًّا معينًا متميزًا عن بقية الأجناس البشرية، وصنفت القومية الألمانية القوميات الأخرى، ووضعت لها سُلَّمًا يتميز الناس على هذا الأساس العرقي، ثم انتشرت في أنحاء العالم، ويلاحظ أن هذه الدعوة تركز على العرق والجنس دون العقيدة والاتجاه، ومن هنا لا نجد لهذه الدعوة مجالًا في الإسلام، وإنما نجد جذورها التاريخية تعود إلى الشيطان الذي امتنع من السجود لآدم؛ لأنه خُلق من طين بينما خُلق هو من نار: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف: 12]، وإذا كانت دعوى الشيطان صحيحة في الخلق دون الخيرية، فدعوة هؤلاء ليست صحيحة في الخيرية ولا في الخلق؛ لأن الناس خلقوا من أب واحد وأم واحدة: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} [النساء: 1]، وكونهم شعوبًا وقبائلَ لا يغيِّر من الواقع شيئًا: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13]، وهكذا يبرز ميزان التفاضل الذي يقوم على التقوى والعمل الصالح، ويكون اختلاف الناس شعوبًا وقبائلَ سبيلًا للتعارف والتقارب، ولا شك أن التميز العنصري الذي يسود العالم اليوم، إنما هو نتيجة من نتائج الدعوات القومية، غير أن (القومية) في ذاتها لا تحمل مضمونًا فكريًّا حقيقيًّا، ولا مذهبًا اجتماعيًّا معينًا، وإنما هو وعاء فارغ يمكن مَلْؤه بأي فكرة أخرى، ومن هنا نرى أن مصطلح (القومية العربية) الآن أصبح وعاءً للاشتراكية، وما زال بعض المسلمين والمحسوبين على الفكر الإسلامي يستعملون هذا المصطلح ويريدون أن يقولوا: إن محتواه هو الإسلام، ويظنون أن المصطلح ما زال فارغًا، ويمكن ملؤه بالفكرة الإسلامية، وهؤلاء ولا شك واهمون؛ لأنهم يستعملون (القومية) بمعناها اللغوي، بينما يستعملها الآخرون بمفهومها الغربي الذي يناقض الإسلام مناقضةً كُليَّة، والعوام الذين أصبحت الكلمة على أفواههم وفي متناول ألسنتهم لا يفرِّقون بين المدلولين، ويُسمُّونهم (الطابور الخامس) الفكري لخدمة القومية العنصرية ومحتواها الاشتراكي، وهم يظنون أنهم ينصرون الإسلام ويجاهدون في سبيل الله، ويزيدهم خداعًا وتضليلًا موقف هؤلاء المحسوبين على الفكر الإسلامي، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا، ولو رجَعنا إلى القرآن الكريم لوجدنا أن هذا التقسيم القومي لا أساس له، وأن القرآن قسَّم الناس إلى قسمين على أساس العقيدة لا أساس الجنس، فهناك (الذين آمنوا) (والذين كفروا)، وهناك (المسلمون) و(الكافرون)، وتحت كل من النوعين يمكن أن يكون أقوام وأجناس مختلفة، ولكن العقيدة هي التي تجمعهم في كل الحالتين، وهكذا بدأت هذه الاصطلاحات تختفي من مجتمعنا بعد أن نعق غراب القومية في دار الإسلامي، وكان من نتائج هذه الدعوة الخبيثة أن تفتَّتت دار الإسلام إلى قوميات متصارعة يقتل فيها المسلمون بعضهم بعضًا خدمةً للجاهلية، وانتصارًا للعصبية المنتنة.

 

ويتفرع عن هذه الدعوة إلى القومية دعوة إلى الوحدة، وقد أصبحت الوحدة شعارًا رائجًا في حياتنا المعاصرة، ولو رجعنا إلى ثقافتنا وتراثنا، لم نجد مثل هذه الدعوة، وإنما هي بضاعة استوردناها مع مفهوم القومية الغربي، وبما أن الوحدة عندهم كانت تابعة لمفهوم القومية، فهكذا صارت عندنا، وأصبحنا ندور في فلك الفكر الغربي؛ حيث نستعمل اصطلاحاته وننتظر أن تحلَّ بنا حتمياته، حتى لكأن خط التاريخ الغربي هو الخط الذي لا بد أن تسلكه كل أمة، وليس لها من دونه بديل! ويلاحظ أن شعار الوحدة أضحى شعارًا خاليًا من مضمون الإسلام بل أصبح يحمل محتوى القومية؛ لأن الوحدة المقصودة إنما هي الوحدة القومية العربية، ولما كان مفهوم القومية بطبيعته فارغًا، فقد ملأه بالاشتراكية؛ مما اضطرهم في النهاية إلى القول بوحدة الهدف بدلًا من وَحدة الصف، وهكذا سلكوا هذا الطريق الوعر الشاق لإبعاد مفهوم الإسلام بحجة الطائفية والأقليات والوطنية والقومية، لينتهوا أخيرًا إلى مفهوم فكري مستورد بديل من المفهوم الإسلامي، ولو رجعنا إلى القرآن الكريم، لم نجد دعوة للوحدة العربية ولا لغيرها، وإنما نجد دعوة إلى الاعتصام بحبل الله والاستمساك بعروته الوثقى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103]، ولا شك أن مفهوم هذه الآية يحقق الوحدة الإسلامية التي لا يمكن أبدًا أن تتحقق بالجهد البشري، وهكذا كانت الدعوة إلى الوحدة دعوة إلى الفرقة أثارت النعرات والعصبيات والصراع الطبقي والقومي الذي مهَّد لإسرائيل أن تضرب ضربتها في الوقت المناسب دون أن تَلقى مقاومة تُذكَر، بينما كانت الدعوة إلى الإسلام في الظاهر دعوة إلى تفريق القوم الواحد إلى قسمين مؤمنين وكافرين، كما كانوا يتحدثون عن القرآن فيقولون: (سحر يؤثَر، يفرِّق بين المرء وأهله ومواليه)، لكنها في الحقيقة كانت دعوة للاستمساك والاعتصام بحبل الله التي نتج عنها أعظمُ وَحدة حقيقية عرَفها التاريخ؛ لأنها كانت وحدة قلوب قبل أن تكون وحدة بلاد، ووحدة قرآن قبل أن تكون وحدة معلَّقات، ووحدة إسلام قبل أن تكون وحدة جاهلية، وصدق الله العظيم إذ يصف هذه الوحدة: {لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} [الأنفال: 63]، {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران: 103].

 

المصدر:

مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية، العدد 1 – السنة: 2 – 1389هـ

 


[1] المقصود بالغرب هنا ليس الاصطلاح السياسي الذي يشمل دول أوروبا الغربية، وإنما المقصود به المصطلح الحضاري الذي يشمل الكتلة الشرقية والغربية، باعتبار أن الفكر الاشتراكي غربي في أصوله وجذوره، وأن الشيوعية لم تكن سوى رد فعل للرأسمالية الغربية، وكلاهما تسيران في خط تاريخي واحد.

[2] انظر في هذا كتاب (برناردلويس): الغرب والشرق والأوسط، الفصل الرابع ص 105-146

  • 8
  • 1
  • 1,047

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً