{ أياما معدودات }

منذ 2023-03-22

{أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ}: تسعة وعشرين أو ثلاثين يومًا بحسب شهر رمضان، وإنما عبر عن شهر الصوم بأيام وهي جمع قلة، ووصفها بمعدودات وهي جمع قلة أيضًا؛ تهوينا لأمره على المكلَّفين...

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 183، 184].

 

{أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ}: تسعة وعشرين أو ثلاثين يومًا بحسب شهر رمضان، وإنما عبر عن شهر الصوم بأيام وهي جمع قلة، ووصفها بمعدودات وهي جمع قلة أيضًا؛ تهوينا لأمره على المكلَّفين، والمعدودات كناية عن القلة؛ لأن الشيء القليل يعد عدًّا؛ ولذلك يقولون: الكثير لا يُعَد، كل هذا ليهون به عليهم كلفة الصوم ومشقته؛ إذ لم يجعله شهورًا ولا أعوامًا، تسهيلًا على المكلف بأن هذه الأيام يحصرها العد وليست بالكثيرة التي تفوت العد، ولهذا وقع الاستعمال بالمعدود كناية على القلائل؛ كقوله: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} [البقرة: 203]، {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً} [البقرة: 80]، {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ} [يوسف: 20].

 

وذكر المفسرون أنه كان في ابتداء الإسلام صوم ثلاثة أيام من كل شهر واجبًا، وصوم يوم عاشوراء، فصاموا كذلك في سبعة عشر شهرًا، ثم نُسخ بصوم رمضان.

 

قال ابن عباس: "أول ما نُسخ بعد الهجرة أمر القبلة، والصوم"، ويُقال: نزل صوم شهر رمضان قبل بدر بشهر وأيام.

 

{فَمَنْ كَانَ مْنْكُمْ} تعقيب لحكم العزيمة بحكم الرخصة، وتقديمه هنا قبل ذكر بقية تقدير الصوم تعجيل بتطمين نفوس السامعين؛ لئلا يظنوا وجوب الصوم لمن كان {مَرِيضًا} هو الذي يؤلم، ويؤذي، ويُخاف تماديه، وتزيُّده، ودليل التخصيص بمرض يشق به الصوم ما يُفهم من العلة، ويكشف ضابط ذلك قول القرافي في الفرق الرابع عشر من كتابه (الفروق)؛ إذ قال:

"إن المشاق قسمان: قسم ضعيف لا تنفك عنه تلك العبادة كالوضوء والغسل في زمن البرد وكالصوم، وكالمخاطرة بالنفس في الجهاد، وقسم هو ما تنفك عنه العبادة، وهذا أنواع: نوع لا تأثير له في العبادة كوجع إصبع، فإن الصوم لا يزيد وجع الإصبع وهذا لا التفات إليه، ونوع له تأثير شديد مع العبادة كالخوف على النفس والأعضاء والمنافع، وهذا يوجب سقوط تلك العبادة، ونوع يقرب من هذا فيوجب ما يوجبه".

 

{أَوْ عَلَى سَفَرٍ} ظاهر اللفظ اعتبار مطلق السفر زمانًا وقصدًا، وهذا في سفر الطاعة كطلب العلم وبر الأقارب، والمباح كالتجارة، أما سفر المعصية؛ كشهادة الزور، فالقول بالمنع أرجح.

 

وقوله: {أَوْ عَلَى سَفَرٍ} مسافر، إشعارًا بالاستيلاء على السفر؛ لِما فيه من الاختيار للمسافر، بخلاف المرض، فإنه يأخذ الإنسان من غير اختيار، فهو قهري، بخلاف السفر؛ فكان السفر مركوب الإنسان يستعلي عليه، ولذلك يُقال: فلان على طريق، وراكب طريق؛ إشعارًا بالاختيار، وأن الإنسان مستولٍ على السفر، مختار لركوب الطريق فيه.

 

وفي البخاري ومسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة، فصام حتى بلغ عسفان، ثم دعا بماء، فرفعه إلى يديه ليريه الناس، فأفطر حتى قدم مكة، وذلك في رمضان، فكان ابن عباس يقول: قد صام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأفطر، فمن شاء صام، ومن شاء أفطر)).

 

وفي مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((لا تعب على من صام، ولا على من أفطر، قد صام رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر وأفطر)).

 

وللمسافر باعتبار صومه في سفره حالات ثلاث:

الأولى: ألَّا يكون فيه مشقة إطلاقًا؛ يعني: ليس فيه مشقة تزيد على صوم الحضر؛ ففي هذه الحال الصوم أفضل، وإن أفطر فلا حرج؛ ودليله أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يصوم في السفر؛ كما في البخاري من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه قال: ((خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره في يوم حارٍّ، حتى يضع الرجل يده على رأسه من شدة الحر، وما فينا صائم إلا ما كان من النبي صلى الله عليه وسلم وابن رواحة))؛ ولأن الصوم في السفر أسرع في إبراء ذمته، ولأنه أسهل عليه غالبًا لكون الناس مشاركين له، وثقل القضاء غالبًا، ولأنه يصادف شهر الصوم؛ وهو رمضان.

 

الحال الثانية: أن يشق عليه الصوم مشقة غير شديدة؛ فهنا الأفضل الفطر؛ لِما رواه مسلم عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما؛ قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فرأى رجلًا قد اجتمع الناس عليه، وقد ظلل عليه، فقال: ما له؟ قالوا: رجل صائم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليس البر أن تصوموا في السفر»، وفي رواية أبي داود: «ليس من البر الصيام في السفر»، فنفى النبي صلى الله عليه وسلم البر عن الصوم في السفر.

 

فإن قيل: إن من المتقرر في أصول الفقه أن العِبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب؛ وهذا يقتضي نفي البر عن الصوم في السفر مطلقًا؟

 

فالجواب: أن معنى قولنا: (العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب) يعني أن الحكم لا يختص بعين الذي ورد من أجله، وإنما يعم من كان مثل حاله.

 

الحال الثالثة: أن يشق الصوم على المسافر مشقة شديدة؛ فهنا يتعين الفطر؛ لِما رواه الترمذي عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى مكة عام الفتح، فصام حتى بلغ كراع الغميم، وصام الناس معه، فقيل له: إن الناس قد شق عليهم الصيام، وإن الناس ينظرون فيما فعلت، فدعا بقدح من ماء بعد العصر، فشرب، والناس ينظرون إليه، فأفطر بعضهم، وصام بعضهم، فبلغه أن ناسًا صاموا، فقال: «أولئك العصاة»، والمعصية لا تكون إلا في فعل محرم، أو ترك واجب.

 

{فَعُدَّةٌ} ولم يقل: فعدتُها؛ أي: فعدة الأيام التي أفطرت اجتزاءً؛ إذ المعلوم أنه لا يجب عليه عدة غير ما أفطر فيه مما صامه، والعدة هي المعدود، فكان التنكير أخصر.

 

وقال ابن عاشور: "ولم يقل: فصيام أيام أخر؛ تنصيصًا على وجوب صوم أيام بعدد أيام الفطر في المرض والسفر".

 

{مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}، ولم يقيد بالتتابع كما قال في كفارة الظِّهار، وفي كفارة قتل الخطأ، يُراد به الأمر بالقضاء، وأصل الأمر لا يقتضي الفور، ومضت السنة على أن قضاء رمضان لا يجب فيه الفور، بل هو موسع إلى شهر شعبان من السنة الموالية للشهر الذي أفطر فيه؛ وفي صحيح مسلم عائشة رضي الله عنها تقول: ((كان يكون عليَّ الصوم من رمضان، فما أستطيع أن أقضيه إلا في شعبان الشغل من رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو برسول الله صلى الله عليه وسلم))؛ أي: يمنعني الشغل برسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا واضح الدلالة على عدم وجوب الفور؛ وبذلك قال جمهور العلماء.

 

وأما من أفطر متعمدًا في يوم من أيام قضاء رمضان، فالجمهور على أنه لا كفارة عليه؛ لأن الكفارة شُرعت؛ حفظًا لحرمة شهر رمضان وليس لأيام القضاء حرمة.

 

{وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} يتحملونه بمشقة لكبر سنٍّ أو مرض لا يُرجى برؤه {فِدْيَةُ طَعَامِ مِسْكِينٍ}، قال بعض أهل العلم: الفقير أشد حاجة من المسكين؛ الفقير هو الذي لا يجد نصف كفاية سنة، وأما المسكين فيجد النصف فأكثر دون الكفاية لمدة سنة.

 

والإطعام هو ما يشبع عادة من الطعام المتغذَّى به في البلد، وقدَّره بعض الفقهاء بمُدَّين (حفنتين) - أي نصف صاع - من الطعام، وقد أطعم أنس بن مالك خبزًا ولحمًا عن كل يوم أفطره حين شاخ، ولا قضاء عليه، والراجح أنه يرجع في الإطعام في كيفيته ونوعه إلى العرف؛ لأن الله تعالى أطلق ذلك، والحكم المطلق إذا لم يكن له حقيقة شرعية يُرجع فيه إلى العرف.

 

{فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا} زاد على مقدار الفدية في الطعام (المُدَّين)، أو أطعم أكثر من مسكين، {فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ}، فالزيادة على الواجب - إذا كان يقبل الزيادة - خير من الاقتصار عليه، وظاهر هذه الآية العموم في كل تطوع بخير، وإن كانت وردت في أمر الفدية في الصوم، وظاهر التطوع التخيير في أمر الجواز بين الفعل والترك، وأن الفعل أفضل.

 

{وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} الصيام على من يطيقه ولو بمشقة خير من الإفطار مع الطعام، {إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 184]؛ أي: تعلمون فوائد الصوم دنيا وثوابه أخرى، وفيه فضيلة العلم.

 

ولقد كان الصيام على المقيمين القادرين مخيرًا فيه، فمن شاء صام ومن شاء أفطر وأطعم، فغير المريض والمسافر إذا كان يطيق الصيام بمشقة وكلفة شديدة له أن يفطر ويطعم عن كل يوم مسكينًا، وأعلمهم أن الصيام في هذه الحال خير، ثم نسخ هذا الحكم الأخير بقوله في الآية الآتية: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185]، فزالت الرخصة إلا لمن عجز منهم.

 

وذكر أهل الناسخ والمنسوخ أن ذلك فرض في أول الإسلام لما شق عليهم الصوم، ثم نسخ بقوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185]، ونُقل ذلك عن ابن عباس؛ وفي البخاري عن ابن عمر وسلمة بن الأكوع نسختها آية {شَهْرُ رَمَضَانَ} [البقرة: 185]، ورُويت في ذلك آثار كثيرة عن التابعين، وهو الأقرب من عادة الشارع في تدرج تشريع التكاليف التي فيها مشقة على الناس من تغيير معتادهم، كما تدرج في تشريع منع الخمر.

خالد سعد النجار

كاتب وباحث مصري متميز

  • 6
  • 0
  • 1,144

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً