كيف تنال فضائل رمضان ؟

هشام عقدة

أسباب المغفرة من الله - جل وعلا - في مواسم المِنَح والنفحات أن يخلِّص العبد نفسه من الخصومات والمشاحنات، كما يجب أن يتخلص - خاصة - من قطيعة الرحم

  • التصنيفات: ملفات شهر رمضان -

إن الذي ينبغي لكلٍ منا أن يُعنى به في شهر رمضان هو:

أولاً: وفي كلمة جامعة مختصرة: أن يجعل من نفسه محلاً قابلاً لتنزُّل الرحمات والمغفرة والعتق من النار: اجعل من قلبك وواقعك موقعاً صالحاً لفضل الله؛ تصيبه الرحمة وتَحُل عليه المغفرة، وهذا؛ لأن هذا الشهر من جهةٍ شهر فضل عظيم من الله - جل وعلا - ومن الجهة الأخرى أن هذا الفضل ولا بد إنما يذهب لأهله.

فأما أنه شهر فضلٍ ومِنَح من الله - جل وعلا - فلأن لله عتقاء في كل ليلة من ليالي رمضان وعند كل فطر؛ فعن أبي أمامة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن لله عند كل فطر عتقاء»[1].

وروى ابن ماجه بإسناد حسن عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أنه قال:دخل رمضان، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «هذا الشهر قد حضركم وفيه ليلة خير من ألف شهر من حُرِمها، فقد حُرِم الخير كله، ولا يُحرَم خيرها إلا محروم» [2].

وأما أن هذا الفضل إنما ينال أهلَه، فلأن الله - تعالى - أعدل وأحكم من أن يكرم بهذا الفضل من ليس له أهلاً ويدع من هو أهل له.

ومن ثَمَّ كان علينا أن نجتهد في جعل أنفسنا أهلاً لفضل الله - جل وعلا - في هذا الشهر؛ علَّنا نكون بذلك من عتقاء الرحمن في هذا الشهر الكريم.

وأول ما يطهِّر به كل منا نفسه - استعداداً لهذا الشهر الكريم - التغافر، وإزالة الشحناء، وصلة الأرحام؛ فإن الخصام يؤخر الغفران، ولهذا جاء في الحديث: «تعرض الأعمال في كل يوم خميس واثنين، فيغفر الله - عز وجل - في ذلك لكل امرئ لا يشرك بالله شيئاً، إلا امرءاً كانت بينه وبين أخيه شحناء، فيقول: اتركوا هذين حتى يصطلحا»، وفي رواية: «أركوا هذين حتى يصطلحا» [3].

وجاء في الحديث الآخر: «إن الله لَيطَّلعُ في ليلة النصف من شعبان، فيغفر لجميع خلقه إلا لمشرك أو مشاحن» [4].

فظهر من هذا بجلاء أن من أسباب المغفرة من الله - جل وعلا - في مواسم المِنَح والنفحات أن يخلِّص العبد نفسه من الخصومات والمشاحنات، كما يجب أن يتخلص - خاصة - من قطيعة الرحم؛ فإنه - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يدخل الجنة قاطع» [5] أي قاطع رحم، فظهر من هذا بجلاء أن قطع الأرحام من موانع نيل فضل الله؛ فكيف يطمع قاطع الرحم أن يكون من عتقاء الله من النار في هذا الشهر ؟ ومن ثَمَّ وجب على كلٍّ منا أن يزيل كل سبب كان من جهته؛ أدى إلى قطع رحِمه.

فليكن رمضان شهر بِرٍّ وصِلَة وتسامُح؛ فينبغي لك بين يدي هذا الشهر أن تزور أقاربك وأصهارك وأرحامك، وتصِلَهم وتتودد إليهم، وأعظم الصِّلات وأرفع القربات بِرُّ الوالدين والحنو عليهما وإكرامهما وإرضاؤهما.

وليتنازل الإنسان، وليعفو وليصفح: {أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النور: 22]، {وَأَن تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [البقرة: 237]، {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت: 34].

وصحَّ عنه - صلى الله عليه وسلم - أن رجلاً قال له: يا رسول الله ! إن لي قرابة أصلهم ويقطعونني وأُحسن إليهم ويسيؤون إليَّ، فقال - صلى الله عليه وسلم - «إن كنت كما قلت، فكأنما تُسفُّهم المل - أي كأنما تؤكلهم الرماد الحار- ولا يزال معك من الله ظهير عليهم ما دمت على ذلك» [6].

وما أجمل قول أحد الحكماء وهو يذكر طريقة تعامله مع أقاربه وموقفه مع عشيرته بأبيات من الشعر ! يقول فيها:

وإن الذي بيني وبينَ بَنِي أبـــــــي  **  وبين بَنِي عمِّي لمختلفٌ جِـــــــــــــدا

إذا هتكوا عِرضي وَفَّرتُ عروضَهمُ  **  وإن هدموا مجدي بَنَيتُ لهم مَجـــدا

ولا أحملُ الحقدَ القديمَ عليهِــــــمُ  **  وليس رئيس القومِ من يحملُ الحقدا

فينبغي أن يكون شهر رمضان شهر تآخٍ ووحدة وائتلاف لا سيما والمسلمون جميعاً في هذا الشهر يقومون بعبادة واحدة في وقت واحد، وفي لحظة واحدة؛ لحظة الإفطار تجد الصمت الجميل يعم بلادهم... وانتظر الجميع تكبير المؤذن، فيحمدوا الله على إتمام صومهم، ويفرحوا بفطرهم.

وفي الليل يقومون خلف إمام واحد يقف كلٌّ منهم إلى جانب أخيه؛ فليكن هذا التوحد بين القلوب كما هو في المظهر والصورة.

ثانياً: أن نحسِّن أخلاقنا ونتفادى أسباب الشحناء؛ الوقاية خير من العلاج: ومن أخطر أسباب التباغض والتشاحن هذا اللسان الذي يكب الناس على وجوههم في النار؛ فكُلُّه آفات ومزالق... وطوبى لمن قيَّد لسانه إلا عن نُطْقٍ بذكر أو أمر بمعروف أو نهي عن منكر أو خير وحق... فإياك أن تخطئ في حق إخوانك المسلمين؛ بغِيبَة أو سخرية أو نميمة أو همز أو لمز، وإياك أيضاً أن تخطئ في حقهم بظن سيء أو تجسس أو تتبع لعوراتهم... وكلنا يعلم الآيتين اللتين نهى الله - تعالى - فيهما عن هذه الأمور القبيحة، فيقول - جل وعلا - في سورة الحجرات مؤدِّباً المجتمع الإسلامي حتى يكون مجتمعاً طاهراً نظيفاً متحاباً؛ سياجه وحرسه التقوى... فيذكرهم أولاً بطبيعة العلاقة بينهم، فيقول: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات: 10]، وبعد تذكيرهم بهذه الأخوة الإيمانية يؤدبهم بعد ذلك بما ذكرنا، فيقول: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلاَ نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلاَ تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلاَ تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاسْمُ الفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلاَ تَجَسَّسُوا وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ} [الحجرات: 11-12].

ففي هذه الآيات يحذرنا الله - عز وجل - من السخرية واللمز والتنابز بالألقاب والظن السيئ والتجسس والغيبة، فأما السخرية، فهي ما يبدر من المرء نحو أخيه من الاستهزاء، أو الاستقلال، أو ازدراء واحتقار له - ولو بالشعور - أو اعتقاد بأنه أعظم منه ناسياً ميزان الله - عز وجل - وقد يدعو إلى سخرية الرجل من أخيه كون أحدهما غنياً والآخر فقيراً، أو كون أحدهما متعلماً والآخر جاهلاً، أو كون أحدهما قوياً والآخر ضعيفاً، أو كون أحدهما ذكياً والآخر ساذجاً، أو كون أحدهما حسن الصورة والآخر دميماً... وكلها مقاييس لا اعتبار لها في ميزان الله وإنما الاعتبار بالتقوى {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13]، والساخر لا يكون تقياً بل الساخر دائماً متكبر؛ إذ السخرية دلالة على الكبر، كما في الحديث: الكبر بطر الحق وغمط الناس [7] أي احتقارهم وازدراؤهم، وهذا ملازم للسخرية، والله - عز وجل - ينبه هذا الساخر الغافل عن الميزان الحق علَّه يستفيق من غفلته وغروره، وذلك بقوله - عز وجل -: {عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ} [الحجرات: 11] فالتلويح بكلمة {عَسَى} فيه تنبيه وتخويف للساخرين المغرورين بذكر الميزان الحق؛ فهناك قيم يعلمها الله وقد تكون خافية عليهم؛ فعليهم أن يتذكروا ذلك ويحذروا منه {عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ}.

وللسخرية أوجُهٌ وصوَر كثيرة قد تخفى على الكثيرين وتنتشر حتى بين الخيِّرِين، منها: أن تضحك إذا تكلم أخوك إشعاراً له أو لمن حوله بأن كلامه قاصر، أو أن تعتقد أن أخاك لا يمكن أن يخطِّئك أو يستدرك عليك شيئاً في يوم من الأيام، أو لا يستطيع أن يقول كلمة أو رأياً أصوب مما تقول، ومنها عدم الإنصات لمنيحدثك.

فعلى المسلم اجتناب جميع صور السخرية (كبيرها وصغيرها) مع الغريب أو الصديق؛ فالبعض يتساهل في السخرية وإطلاق اللسان مع صديقه الذي وثِق به بحجة أنهما قد اعتاد كل منهما على الآخر... فإن المسلم يجب أن يعتاد على حفظ لسانه مع الجميع، وقد كان المصطفى - صلى الله عليه وسلم - والأنبياء لا يسبون كلباً ولا بهيمة... وقد علمنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند سماع نهاق الحمير أو نباح الكلب أن نستعيذ بالله [8]، وإذا عثرت الدابة أن نقول: باسم الله [9]... على خلاف ما يفعله البعض من السب للحيوان والجماد... وغير ذلك.

وأما اللمز، فهو: أن تعيب أخاك بالقول وهو حاضر.

وأما التنابز بالألقاب، فهو: أن تنادي أخاك بلقب يكرهه.

وأما الظن المنهي عنه، فهو: التهمة والتخوف في غير محله، فهذا الظن يجب ترك الكثير منه مخافة القليل {اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات: 12]، ولم يقلِ الله: اجتنبوا الظن... وإنما قال: {كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ}  لأن بعض الظن مطلوب؛ وهو الظن بأهل الفساد ومن عُرِفوا بالشر، وأعداء الدين؛ فهؤلاء من الغفلة والحماقة إحسان الظن بهم، بل قد نُهينا عن إحسان الظن بأمثال هؤلاء، كما في قوله - تعالى -: {وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ البَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ} [آل عمران: 118] أما المسلمون الذين لم يُعرَفوا بالشر، فحرام أن نظن بهم سوءاً، وفي هذا قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إياكم والظن؛ فإن الظن أكذب الحديث» »[10]، وقال عمر - رضي الله عنه -: "ولا تظنن بكلمة خرجت من أخيك إلا خيراً وأنت تجد لها في الخير محملاً".

وأما التجسس، فهو: أن تطلب معرفة الأخبار التي لم يظهرها صاحبها. وتأمل تماماً هذا الكلام لتدرك مدى تفريطنا في أوجُه الشرع، والبحث عن العورات، واستماع حديث القوم وهم له كارهون.. والله - عز وجل - ينهانها عن التجسس، والرسول - صلى الله عليه وسلم - كذلك يحذرنا منه ويقول: «إنك إن اتبعت عورات الناس أفسدتهم أو كدت أن تفسدهم»[11].

وفي هذا رد على من ظن أنه إذا تتبع عورة أحد وعرف عنه شيئاً؛ فأحرجه أن ذلك يصلحه، والعكس أصوب لِمَا في ذلك من إثارة العند وإسقاط حاجز الحياء؛ فلا يعود يراجع نفسه بعد الانكشاف.

واعلم أن هناك فرقاً بين ستر المؤمن أو عدم التجسس وبين السكوت على المنكر؛ فالنهي إنما هو عن محاولة معرفة ما يتستر به، لكن إذا ظهر ما يتستر به وعرفه أخوه المسلم دون قصد التفتيش عنه، وجب عليه النصيحة والموعظة والإنكار دون أن يُشيع أمره ويتحدث عنه بغير ضرورة أو مصلحة راجحة.

فاحذروا من ألسنتكم؛ حماية لكم من الذنوب وحفظاً لصومكم من الضياع... ومن الأمور الخطيرة التي تدل على قلة التقوى، وتذهب بثواب الصوم : الغيبة، وهي: ذكرك أخاك بما يكره، قال أبو هريرة - رضي الله عنه -: قيل: يا رسول الله ! ما الغيبة ؟ قال: «ذكرك أخاك بما يكره» » قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول ؟ قال: «إن كان فيه ما تقول، فقد اغتبته وإن لم يكن فيه ما تقول، فقد بهتَّه»  [12].

وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: قلت للنبي - صلى الله عليه وسلم -:حسبك من صفية كذا وكذا - تعني قصيرة - فقال - صلى الله عليه وسلم -: «لقد قُلتِ كلمة لو مُزجت بماء البحر لمزجته»  [13].

وعن البراء بن عازب - رضي الله عنه - قال: خطبنا رسول الله – صلى الله عليه وسلم - حتى أسمع العواتق، أي الفتيات الأبكار في بيوتها، أو قال: في خدورها، أي من علو صوته وغضبه - صلى الله عليه وسلم - فقال: «يا معشر من آمن بلسانه ولم يفضِ الإيمان إلى قلبه ! لا تؤذوا المسلمين، ولا تعيِّروهم، ولا تتبعوا عوراتهم؛ فإنه من تتبع عورة أخيه، تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته، يفضحه في جوف رحله»  [14].

إذا شئت أن تحيا سليماً من الأذى  **  وذنبكَ مغفورٌ وعِرضُك صيِّنُ

لسانَك لا تذكر به عورةَ امـــــــرئ  **  فكلُّك عوراتٌ وللناسِ أَلسُــنُ

وقال - صلى الله عليه وسلم -: «لما عُرج بي، مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم، قلت: من هؤلاء يا جبريل ؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم»  [15].

وقال - صلى الله عليه وسلم -: «من أكل برجل مسلم أكلة، فإن الله يطعمه مثلها من جهنم، ومن كُسِي برجل مسلم، فإن الله يكسوه مثله في جهنم، ومن قام برجل مقام سمعة ورياء -أي عابه وفضحه وشهَّر به بين الناس؛ ليُظهر نفسه- فإن الله يقوم به مقام سمعة ورياء يوم القيامة»  [16] أي يفضحه على رؤوس الخلائق... واعلم أخي المسلم أنه كما تُحَرَّم الغيبة، يحرم سماعها مع السكوت وعدم الذب عن أخيك المسلم الذي يؤكل لحمه، قال - صلى الله عليه وسلم -: «ما من امرئ يخذل امرءاً مسلماً في موضع تُنتهك فيه حرمته ويُنتقص فيه من عرضه، إلا خذله الله - تعالى - في موطن يحب فيها نصرته، وما من امرئ ينصر مسلماً في موضع يُنتقص فيه من عرضه ويُنتهك فيه من حرمته، إلا نصره الله – عز وجل - في موطن يحب فيها نصرته»  [17].

ثالثاً: الجود والصدقة: للأسف قد لا نفهم من الجود إلا الجود على بطوننا ! وليس هذا هو المراد، لكنه السخاء في الإنفاق في سبيل الله... الإنفاق من أجل الدعوة، والتصدق على الفقراء والمساكين وأهل الحاجات، وإكرام الأصحاب والأضياف، وفي الصحيح عن ابن عباس - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم – كان أجود الناس بالخير وكان أجود ما يكون في رمضان، كان جبريل يلقاه في كل ليلة من رمضان فيعرض عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - القرآن، فلَرَسول الله - صلى الله عليه وسلم - أجود بالخير من الريح المرسلة [18].

وزاد أحمد في رواية: لا يُسأل عن شيء إلا أعطاه [19].

اللهُ أعطاكَ فابذُل مِن عطيَّتِــــهِ  **  فالمالُ عاريةٌ والعمرُ رحَّــــــــــــــالُ

المالُ كالماءِ إن تُحبَس سواقيه  **  يأسن، وإن يَجرِ، يَعذُبُ منهُ سلسالُ

 

والبعض قد يُرى سخياً على أصحابه في المآكل والمشارب، لكنه لا يتبرع من أجل الدعوة، ولا تطيب نفسه بالإنفاق على الفقراء والمساكين خاصة الذين لا يعرفهم، ومن الناس من ينفق على أصحابه ويتبرع من أجل الدعوة، ولكنه لا يتصدق على المحتاجين ! ومقتضى الجود أن يكون السخاء سمة للعبد؛ فلا يكون حريصاً على المال، بل يقول به هكذا وهكذا؛ ففي صحيح البخاري عن أبي ذر - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال له: «إن المكثرين هم المقلُّون يوم القيامة إلا من قال بالمال هكذا وهكذا، وقليل ما هم»  [20].

رابعاً: الاستكثار من العبادة: من تلاوة للقرآن، وقيام لليل، وذكر ودعاء... فإن ذلك من آكد الشعائر المستحبة وأظهرها في رمضان وأقربها؛ لتحقيق مغفرة ما تقدم من الذنوب والآثام، وفي الصحيحين والسنن: «من قام رمضان إيماناً واحتساباً غُفِر له ما تقدم من ذنبه»  [21] ولم يترك - صلى الله عليه وسلم - هذا القيام حتى يوم بدر، كما قال علي - رضي الله عنه - فيما رواه عنه الإمام أحمد في مسنده:» لقد رأيتنا وما فينا إلا نائم، إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تحت شجرة يصلي ويبكي حتى أصبح... « [22].

ويُستَحب الإكثار من تلاوة القرآن ليس نهاراً فحسب، بل ليلاً؛ يحمد الله؛ ففي حديث ابن عباس أن المدارسة بينه - صلى الله عليه وسلم - وبين جبريل - عليهما السلام - كانت ليلاً لقوله - رضي الله عنه -: وكان جبريل يلقاه كل ليلة من رمضان؛ فيدارسه القرآن [23].

فدل على استحباب الإكثار من التلاوة في رمضان ليلاً؛ فإن الليل تنقطع فيه الشواغل وتجتمع فيه الهمم ويتواطأ فيه القلب واللسان على التدبر كما قال تعالى: {إِنَّ نَاشِئَةَ الَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلاً} [المزمل: 6].

وينبغي للمسلم أن يعظِّم شأن هذه العبادة ( تلاوة القرآن في رمضان ) ويقدمَها على ما سواها؛ قال ابن عبد الحكم: كان مالك إذا دخل رمضان، يفر من قراءة الحديث ومجالسة أهل العلم وأقبل على تلاوة القرآن من المصحف، وقال عبد الرزاق الصنعاني: كان سفيان الثوري إذا دخل رمضان ترك جميع العبادة وأقبل على قراءة القرآن، وكانت عائشة - رضي الله عنها - تقرأ في المصحف أول النهار في شهر رمضان، فإذا طلعت الشمس نامت.

فاجتهد أخا الإسلام ! في الإكثار من ختم كتاب الله - جل وعلا - في هذا الشهر ولا تصيره شهر غفلة ولغو ونوم.

ومما يعينك على قيام الليل تذكُّر الأجر والتوبة والعفو عن الخطيئة والذنب،وتذكُّر ظلمة القبر ووحشته وهمه؛ فقيام الليل نور لظلمة القبور.

كان أبو الدرداء يقول: صلوا في ظلمة الليل ركعتين لظلمة القبور، صوموا يوماً شديداً حره لحر يوم النشور، تصدقوا بصدقة لشر يوم عسير.

وعلى الصائم أن يجعل هذا الشهر كذلك شهر تضرُّع ودعاء؛ فإن دعاء الصائم لا يُرد، ولكل مسلم دعوة مستجابة في كل يوم وليلة.

روى البزار عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ثلاث دعوات مستجابات: دعوة الصائم، ودعوة المظلوم، ودعوة المسافر»  [24]، وفي رواية: «ثلاث دعوات لا تُرد: دعوة الوالد لولده، ودعوة الصائم، ودعوة المسافر»  [25]، وفي أخرى: «دعوة الوالد على ولده»  [26].

وينبغي أن يزيد الصائم في الاهتمام والجد في العشر الأواخر، ويعظِّم شأن القيام في هذه الليالي، ويتنظف ويتزين، ويستعد لاستقبال فضل الله ولتعظيم شأن تلك الليالي، وليكون أكثر نشاطاً وحضوراً في الصلاة، وقد كان كثير من السلف يغتسل قبل العشاء في ليالي العشر، قال ابن جرير: كانوا يحبون أن يغتسلوا كل ليلة من ليالي العشر الأواخر، وكان النخعي يغتسل في العشر كل ليلة، ومنهم من كان يغتسل ويتطيب في الليالي التي أرجى لليلة القدر.

وقال حماد بن سلمة: كان ثابت البناني و حميد الطويل يلبسان أحسن ثيابهما ويتطيبان ويطيبان المسجد في الليلة التي ترجى فيها ليلة القدر، وقال ثابت: كان لتميم الداري حلةً اشتراها بألف درهم وكان يلبسها في الليالي التي ترجى فيها ليلة القدر.

قال ابن رجب - رحمه الله -: فتبين بهذا أنه يُستحب في الليالي التي ترجى فيها ليلة القدر التنظيف والتزيُّن والتطيُّب بالغسل والطيب واللباس الحسن، كما يُشرَع ذلك في الجُمَع والأعياد.

ومما يستقبل به المسلم العشر الأواخر - خاصة - ويُظهر فيه مزيد الاجتهاد في تلك الليالي الاعتكاف واعتزال النساء.

وهذه السُّنة العظيمة نريد أن نحييها ونريد أن لا تُهمَل مع الأيام.

وقد كان - صلى الله عليه وسلم - وهو أكثر المسلمين أعباءً وانشغالاً يعتكف العشر في رمضان ويعتكف معه أصحابه

كن كالصحابةَ في زهدٍ وفي ورعٍ  **  القومُ همُ ما لهم في الناسِ أشباهُ

عبَّادُ ليلٍ إذا جنَّ الظلامُ بهم كــم  **  عابدٍ دمعُهُ في الخد أجــــــــــراهُ

خامساً: الإقلاع عن الذنوب: وأن يتوب منها ويرعوي عن المعاصي، وأعظم من ذلك أن ينخلع قلبه بالكلية عن التعلق بشيء سوى الله - جل وعلا - ففكره وقلبه وروحه كل ذلك مع الله - تعالى - فلا يتعلق قلبه بفضول المباحات فضلاً عن المعاصي والآثام.

أهلُ الخصوصِ من الصوَّام صومُهمُ  **  صونُ اللسانِ عن البهتانِ والكــذب

ِوالعارفون وأهلُ الأنسِ صومُهـــــمُ  **  صونُ القلوبِ عن الأغيارِ والحجُبِ

فالصوم إنما شُرع لتحصيل التقوى؛ فمن لم يدع قول الزول والعمل به والجهل، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه، ورب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع، ورب قائم ليس له من قيامه إلا السهر، فلنجعل رمضان شهر توبة وإجابة، وشهر خشية لله وتقوى.

يا ذا الذي ما كفاهُ الذنبُ في رجـبِ  **  حتى عصى ربَّهُ في شهرِ شعبان

لقد أظلك شهرُ الصومِ بعدَهُمـــــــــا  **  فلا تصيِّره أيضاً شهرَ عصيـــــان

واتل القرآن وسبِّح فيه مجتهــــــداً  **  فإنهُ شهرُ تسبيحٍ وقـــــــــــــرآنِ

كم كنتَ تعرفُ ممن صام في سلـفٍ  **  من بين أهـلٍ وجيرانٍ وإخــوان

أفناهُمُ الموتُ واستبقاك بعدهُـــــمُ  **  حياً فما أقربَ القاصي من الداني

نسأل الله - تعالى - أن يبارك لنا في رمضان، ويخرجنا منه مغفوراً لنا !وصلاةً وسلاماً على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

 


(1) أخرجه: أحمد (22202) وصححه الأرنؤوط.

(2) أخرجه: ابن ماجه (1644).

(3) أخرجه: مسلم (2565).

(4) أخرجه: ابن ماجه (1390) وصححه الألباني في الصحيحة (1144).

(5) أخرجه: البخاري (5984) ومسلم (2555).

(6) أخرجه: مسلم (2558).

(7) أخرجه: مسلم (91).

(8) أخرجه: أحمد (14283) وحسنه الأرنؤوط.

(9) أخرجه: أبو داود (44984) وصححه الألباني في صحيح الجامع (7401).

(10) أخرجه: البخاري (6064) ومسلم (2563).

(11) أخرجه: أبو داود (4888) وصححه الألباني في صحيح الجامع (2291).

(12) أخرجه: مسلم (2589).

(13) أخرجه: أبو داود (4875) وصححه الألباني في صحيح السنن (2502).

(14) أخرجه: الترمذي (2032) وصححه الألباني في غاية المرام: (ص 240).

(15) أخرجه: أبو داود (4878) وصححه الألباني في الصحيحة (533).

(16) أخرجه: أبو داود (4881) وصححه الألباني في الصحيحة (934).

(17) أخرجه: أحمد (36368) وأبو داود (4884) وحسنه الألباني في صحيح الجامع.

(18) أخرجه: البخاري (6 و 1902) ومسلم (2308).

(19) أخرجه: أحمد (2042) وصححه الأرنؤوط.

(20) أخرجه: البخاري (2388).

(21) أخرجه: البخاري (37 و 38) ومسلم (760).

(22) أخرجه: أحمد (1023) وصححه الأرنؤوط.

(23) تقدم تخريجه.

(24) صحيح الجامع (3027).

(25) صحيح الجامع (3029).

(26) صحيح الجامع (3028).

_________________________________________________