المصلحون يصنعون الفرص

إن كثيراً من الناس يذهب فهمه إلى أن حسن الخلق خاص بمعاملة الخلق دون معاملة الخالق ولكن هذا الفهم قاصر. فإن حسن الخلق كما يكون في معاملة الخلق يكون أيضاً في معاملة الخالق...

  • التصنيفات: تزكية النفس - أخلاق إسلامية -

إن كثيراً من الناس يذهب فهمه إلى أن حسن الخلق خاص بمعاملة الخلق دون معاملة الخالق ولكن هذا الفهم قاصر. فإن حسن الخلق كما يكون في معاملة الخلق يكون أيضاً في معاملة الخالق، فموضوع حسن الخلق إذن: معاملة الخالق جل وعلا، ومعاملة الخلق أيضاً، وهذه المسألة ينبغي أن يتنبه لها الجميع.

 

أولاً: حسن الخلق في معاملة الخالق:
حسن الخلق في معاملة الخالق يجمع ثلاثة أمور:
1. تلقي أخبار الله بالتصديق.
2. تلقي أحكامه بالتنفيذ والتطبيق.
3. تلقي أقداره بالصبر والرضا.


وهذه ثلاثة أشياء عليها مدار حسن الخلق نع الله تعالى:
 

أولاً: تلقي أخباره بالتصديق:
بحيث لا يقع عند الإنسان شك أو تردد في تصديق خبر الله تبارك وتعالى لأن خبر الله تعالى صادر عن علم وهو سبحانه أصدق القائلين، كما قال الله تعالى عن نفسه: 
{ومن أصدق من الله حديثاً} [النساء: 87] ولازم تصديق أخبار الله أن يكون الإنسان واثقاً بها، مدافعاً عنها، مجاهداً بها وفي سبيلها، بحيث لا يداخله شك أو شبهة في أخبار الله عز وجل وأخبار رسوله صلى الله علية وسلم.

وإذا تخلق العبد بهذا الخلق أمكنه أن يدفع أي شبهة يوردها المغرضون على أخبار الله ورسوله صلى الله علية وسلم، سواء أكانوا من المسلمين الذين ابتدعوا في دين الله ما ليس منه، أم كانوا من غير المسلمين، الذين يلقون الشبه في قلوب المسلمين بقصد فتنتهم وإضلالهم.

ولنضرب لذلك مثلاً: حديث الذباب
ثبت في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله علية وسلم قال:
«إذا وقع الذباب في شراب أحدكم فليغمسه ثم ليطرحه، فإن في أحد جناحيه داء وفي الآخر شفاء» (رواه البخارى وغيره).

هذا خبر صادر عن رسول الله صلى الله علية وسلم، وهو صلى الله علية وسلم في أمور الغيب لا ينطق عن الهوى، لا ينطق إلا بما أوحى الله تعالى إليه، لأنه بشر والبشر لا يعلم الغيب بل قد قال الله له: «قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك إن أتبع إلا ما يوحي إلي» [الأنعام: 50].

هذا الخبر يجب علينا أن نقابله بحسن الخلق، وحسن الخلق نحو هذا الخبر يكون بأن نتلقاه بالقبول والانقياد، فنجزم بأن ما قاله النبي صلى الله علية وسلم في هذا الحديث فهو حق وصدق، وإن اعترض عليه من اعترض، ونعلم علم اليقين: أن كل ما خالف ما صح عن رسوله الله صلى الله علية وسلم فإنه باطل؛ لأن الله تعالى يقول: {فذلكم الله ربكم الحق فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون} [يونس: 32].

ومثال أخر: من أخبار يوم القيامة:
أخبر النبي صلى الله علية وسلم:
 «أن الشمس تدنو من الخلائق يوم القيامة بقدر ميل» (أخرجه مسلم)، وسواء كان هذا الميل ميل المكحلة، أم كان ميل المسافة، فإن هذه المسافة بين الشمس ورؤوس الخلائق قليلة، ومع هذا فإن الناس لا يحترقون بحرها، مع أن الشمس لو تدنو الآن في الدنيا مقدار أنملة لاحترقت الأرض ومن عليها.

قد يقول قائل: كيف تدنو الشمس من رؤوس الخلائق يوم القيامة بهذه المسافة، ثم يبقى الناس لحظة واحدة دون أن يحترقوا ؟ !!، نقول لهذا القائل: عليك أن تكون حسن الخلق نحو هذا الحديث.

وحسن الخلق نحو هذا الحديث يكون بأن نقبله ونصدق به، وأن لا يكون في صدورنا حرج منه ولا ضيق ولا تردد، وأن تعلم أن ما أخبر به النبي صلى الله علية وسلم في هذا فهو حق، ولكن هناك فارقاً عظيماً بين أحوال الناس في الدنيا وأحوالهم في الآخرة، بحيث لا يمكن أن نقيس أحوال الدنيا بأحوال الآخرة؛ لوجود هذا الفارق العظيم، فنحن نعلم أن الناس يقفون يوم القيامة خمسين ألف سنة !! وعلى مقياس ما في الدنيا، فهل يمكن أن يقف أحد من الناس خمسين ألف ساعة ؟، بل هل يمكن أن يقف أحد من الناس خمسين ألف دقيقة ؟.

الجواب: لا يمكن ذلك، إذن فالفارق عظيم، فإذا كان كذلك، فإن المؤمن يقبل مثل هذا الخبر بانشراح صدر وطمأنينة، ويتسع فهمه له ويتفتح قلبه لما دل عليه.

ثانياً: ومن حسن الخلق مع الله عز وجل أن يتلقى الإنسان أحكام الله بالقبول والتنفيذ والتطبيق، فلا يرد شيئاً من أحكام الله، فإذا رد شيئاً من أحكام الله فهذا سوء خلق مع الله عز وجل سواء ردها منكرا حكمها، أو ردها مستكبراً عن العمل بها، أو ردها متهاوناً بالعمل بها، فإن ذلك كله مناف لحسن الخلق مع الله عز وجل.

مثال على ذلك: الصوم
الصوم لا شك أنه شاق على النفوس؛ لأن الإنسان يترك فيه المألوف، من طعام وشراب ونكاح، وهذا أمر شاق على الإنسان، ولكن المؤمن حَسَنُ الخلق مع الله عز وجل، يقبل هذا التكليف أو بعبارة أخرى: يقبل هذا التشريف، فهذه نعمة من الله عز وجل في الحقيقة، فالمؤمن يقبل هذه النعمة التي في صورة تكليف بانشراح صدر وطمأنينة، وتتسع لها نفسه، فتجده يصور الأيام الطويلة في زمن الحر الشديد، وهو بذلك راض منشرح الصدر، لأنه يحسن لا خلق مع ربه، لكن سيئ الخلق مع الله يقابل مثل هذه العبادة بالضجر والكراهية، ولولا أنه يخشى من أمر لا تحمد عقباه لكان لا يلتزم بالصيام.

مثال آخر: الصلاة
فالصلاة لا شك أنها ثقيلة على بعض الناس وهي ثقيلة على المنافقين كما قال النبي صلي الله علية وسلم:
«أثقل الصلاة على المنافقين: صلاة العشاء، وصلاة الفجر».
لكن الصلاة بالنسبة للمؤمن ليست ثقيلة، قال تعالى: 
{واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين * الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم وأنهم إليه راجعون} [البقرة: 45، 46] ، فهي على هؤلاء غير كبيرة وإنما سهلة يسيرة، ولهذا قال النبي صلى الله علية وسلم: «وجعلت قرة عيني في الصلاة».

فالصلاة هي قرة عين المؤمن، وزاده اليومي الذي يتزود به للقاء الله تعالى، ولذلك فهو يعظم قدرها ويهتم لها اعظم الاهتمام، لأنها عماد الدين، وأول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة.

فحسن الخلق مع الله عز وجل بالنسبة للصلاة أن تؤديها وقلبك منشرح مطمئن، وعينك قريرة، تفرح إذا كنت متلبساً بها، وتنتظرها حتى يحين وقتها، فإذا صليت الظهر، كنت في شوق إلى صلاة العصر، وإذا صليت العصر، كنت في شوق إلى صلاة المغرب، وإذا صليت المغرب، كنت في شوق إلى صلاة العشاء، وإذا صليت العشاء، كنت في شوق إلى صلاة الفجر، ولهذا كان النبي صلى الله علية وسلم يقول لبلال رضي الله عنه:  «يا بلال، أرحنا بالصلاة»، يقول: أرحنا بها، فإن فيها الراحة والطمأنينة والسكينة، لا كما يقول البعض: أرحنا منها، لأنها ثقيلة عليهم، وشاقة على نفوسهم.
وهكذا دائماً تجعل قلبك معلقاً بهذه الصلوات، فهذه لا شك أنه من حسن الخلق مع الله تعالى.

مثال ثالث: تحريم الربا
وهذا في المعاملات، فقد حرم الله علينا الربا تحريماً أكيداً، وأحل لنا البيع، وقال في ذلك: 
{الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون}  [البقرة: 275].
فتوعد من عاد إلى الربا بعد أن جاءته الموعظة وعلم الحكم، توعده بالنار - والعياذ بالله -، بل إنه توعده في الدنيا أيضاً بالحرب، فقال تعالى: {يا أيها الذين أمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين. فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله} [البقرة: 278، 279] ، هذا يدل على عظم هذه الجريمة وأنها من كبائر الذنوب والموبقات.

فالمؤمن يقبل هذا الحكم بانشراح ورضا وتسليم، وأما غير المؤمن فإنه لا يقبله، ويضيق صدره به، وربما يتحيل عليه بأنواع الحيل، لأننا نعلم أن في الربا كسباً متيقناً وليس فيه أي مخاطرة، لكنه في الحقيقة كسب لشخص وظلم لآخر، ولهذا قال الله تعالى: {وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون} [البقرة: 279] .

ثالثاً: ومن حسن الخلق مع الله تعالى: تلقى أقدار الله تعالى بالرضا والصبر:
وكلنا يعلم أن أقدار الله عز وجل التي يجريها على خلقه ليست كلها متماشية مع رغبات الخلق، فالمرض مثلاً لا يحبه الإنسان، فكل إنسان يحب أن يكون صحيحاً معافى.

فحسن الخلق مع الله نحو أقداره أن ترضى بما قدر الله لك، وأن تطمئن إليه وأن تعلم أنه سبحانه وتعالى ما قدره إلا لحكمة عظيمة وغاية محمودة يستحق عليها الحمد والشكر.
وعلى هذا فإن حسن الخلق مع الله نحو أقداره هو أن يرضى الإنسان ويستسلم ويطمئن، ولهذا امتدح الله الصابرين فقال:
{وبشر الصابرين * الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون} [البقرة: 155، 156].
وفقنا الله للأدب وحسن الخلق معه سبحانه وتعالى.