هي لله، ولو كره الكارهون!

منذ 2011-10-22
هي لله، ولو كره الكارهون!
الكـاتب: مجاهد مأمون ديرانية
المختار الإسلامي


بعد انطلاق الثورة بوقت يسير قرأت تصريحاً لشخص صنّف نفسَه معارضاً للنظام السوري قال فيه إنه غير مستعد للمشاركة في مظاهرة تخرج من جامع، وانتظرت أن يردّ عليه أحدٌ فلم يردّ عليه أحد، فقلت في نفسي: "أهل الثورة أدرى بثورتهم"، وملأت فمي ماء واعتصمت بالصمت فلم أنطق.

ثم قرأت مقالة انتقد كاتبُها صفحةَ الثورة السورية بسبب تسمياتها غير الموفقة لبعض الجُمَع التي جعلت الكثيرين من السوريين يحجمون عن تأييد الانتفاضة كما قال: "ولا أدري لماذا سماها انتفاضة مع أنه ينتقد صفحة الثورة، هلاّ اقترح تسميتها صفحة الانتفاضة؟" ثم مثّل لتلك التسميات غير الموفقة فقال: "فالعلمانيون واليساريون، وهم شريحة كبيرة ومتواجدة بقوة في الحياة السورية وغالبيتهم يقفون اليوم ضد النظام، كانوا ضد تسمية جمعة الحرائر لما تحتويه من أبعاد دينية لا مدنية"، وانتظرت أن يردّ عليه أحدٌ فلم يردّ عليه أحد، فقلت في نفسي: "أهل الثورة أدرى بثورتهم"، وملأت فمي ماء واعتصمت بالصمت فلم أنطق.

وأخيراً سمعت مقابلة مع أحد "المعارضين" يهجو فيها المجلس الوطني السوري الذي قاطعه؛ لأن "أغلبية أعضائه من الإسلاميين" كما قال، ثم قال بالنص: "إن سوريا وشعب سوريا بأحسن الأحوال الإسلاميون فيه لا يمثلون عشرة بالمائة، بأحسن الأحوال، وأنا متفائل في هذا الرقم"، وانتظرت أن يردّ عليه أحدٌ فلم يردّ عليه أحد، فكدت أقول في نفسي: "أهل الثورة أدرى بثورتهم"، وكدت أملأ فمي ماء وأعتصم بالصمت فلا أنطق.

لو كانت هي هذه المرات الثلاث التي جُرِحَت فيها هوية الأمة والثورة ولا شيء غيرها لَتغاضيت عنها، ولكنها غيض من فيض وثلاثٌ من مئات، مَضَيْنَ جميعاً بلا رد سوى الصمت الخَجول، لذلك عجزت هذه المرة عن الصمت؛ لقد بالغت في الصمت حتى أصمّني صوتُ الصمت، وما زلت أغرف من بحر الصبر حتى جفّ بحرُ الصبر، فثَمّ قررت أن أنطق، فاحتملوا مني ما سأقول يا أحرار الثورة، وسامحوني إن أفسدت عليكم ثورتكم بهذه المقالة، ولكن اعلموا أنكم أنتم من أنطقني، فإنكم لمّا هتفتم "هي لله" وخرجتم بالمظاهرات، تكرر صدى الهتاف حتى طرق جدران قلبي، فهتفت معكم "هي لله" ونشرت قلمي لأخط هذه الكلمات.

أقول لذلك الأول:
مظاهراتنا تخرج من جوامعنا، فمن شاء أن يمشي معنا فليمشِ ومن شاء أن يقعد فليقعد؛ إنّا ماشون بك وبغيرك، وإنْ ظننت أنك تَمُنّ علينا بخروجك معنا فإنك واهم، إنما تَمُنّ على نفسك، وإنّ التظاهر في سوريا شرفٌ لا يناله إلا من رفع الله قدره وأراد به الخير، ولسوف تدرك مبلغ خسارتك يوم يسألك أحفادك بعد عشرين سنة أو ثلاثين: أين كنت يوم الثورة؟ فتقول: كنت مع الخالفين، هنيئاً لك في الخالفين!

وأما الثاني فأقول له:
لا أعرف بأيّهما أنا أشد إعجاباً، بعلمك باللغة أم بفقهك في الدين؟ ومن أين لك أن "الحرائر" من مفردات الدين؟ أمَا إنها لو كانت كذلك لشَرُفَت وارتفعت، ولكنها ليست سوى كلمة من كلمات اللغة كسائر الكلمات، ولماذا لم تعترض على كلمة "الأحرار" التي تدور في أدبيات الثورة وإعلاناتها وأخبارها طول الوقت؟ الأحرار جمع حر والحرائر جمع حرة، أم أن الحرية حلال للرجال حرام على النساء؟ ولماذا هذا التمييز ضد المرأة ويحكم؟ ظنناكم متحضرين لا تميزون بين ذكر وأنثى! أم أنكم تريدون أن تكون نساء سوريا من الإماء؟

الثالث لن أقول له شيئاً؛ سوف أسأله فقط: أكنت تتحدث عن سوريا (س-و-ر-ي-ا)؟ هل أنت سوري؟ أعشت في سوريا قط؟ ثم تقول إنك معارض سوري؟ اللهمّ إن كانت هذه هي المعارضة وكان هؤلاء هم المعارضين فإني أبرأ إليك من المعارضة ومن المعارضين، أهذا جهل بالتاريخ أم جهل بالجغرافيا، أم أنه جهل بالحساب؟ أقسم -غيرَ حانث- إني لأجد قصة البارجة الألمانية التي اخترعها طالب إبراهيم أسهلَ بلعاً وهضماً من هذه العشرة بالمئة!

ولا تقل إن الإسلاميين غير المسلمين، فإن كلَّ مسلم إسلاميٌ ما دام الإسلام هو مشروع حياته ومشروع شهادته، قد تجد منهم من ليس كذلك، لكنْ ليس مِن أولئك مَن خرج من بيته متوضئاً فصلى جُمعتَه ثم لفّ نفسه في كفنه ووضع روحه في كفه وخرج يهتف: "هي لله، هي لله"، هؤلاء هم جمهور الثورة وهؤلاء هم مَن ينبغي أن يُسمَع صوتُه يا أيها السادة.

وما دمتُ قد فارقت الصمت أخيراً ونطقت فإني أحب أن أسأل ذلك الذي منح الإسلاميين عشرة بالمئة من حصة الشعب السوري: ماذا فعلت بباقي الحصص؟ وأحب أن أعلّق على ذلك الذي قال إن العلمانيين واليساريين "شريحة كبيرة ومتواجدة بقوة في الحياة السورية وغالبيتهم يقفون اليوم ضد النظام"، أستطيع أن أنقد كل كلمة في هذه الجملة، فما معنى "شريحة كبيرة"؟ لا شيء في الدنيا كبير ولا شيء صغير إلا مقارَنةً بغيره؛ سوريا مثلاً كبيرةٌ مقارنة بالبحرين ولكنها صغيرة مقارنة بالصين، فبأي شيء قارنت شريحة العلمانيين واليساريين حتى تقول إنها كبيرة؟ بما أن الحديث كله عن الإسلاميين فالظاهر أن المقارنة بهم، فهل أفهم أن اليساريين شريحة كبيرة والإسلاميين شريحة صغيرة؟ وما معنى "متواجدة بقوة في الحياة السورية"؟ هل الإسلاميون متواجدون في الحياة السورية بضعف؟ أمّا الادعاء بأن غالبية اليساريين يقفون في وجه النظام فيدعو إلى الضحك، لا سيما بعد مهزلة هيئة التنسيق الأخيرة.

يا سادة: لا أنا ولا غيري نريد أن نحرم أحداً من معارضي النظام من حقه في الحركة والتعبير عن الذات، ولكن لا أنا ولا غيري يقبل أن يُحرَم هذا الحق، ورجائي الوحيد الذي أرجوه منكم هو أن تستعملوا المسطرة نفسها في القياس بالاتجاهات كلها.

لو أراد مراقب أو دارس أن يتعرف إلى هوية ثورة الحرية في سوريا فلن يرهقه البحث، فإنها ثورةٌ أعلن أبطالُها هويّتَها بأعلى أصواتهم يوم هتفوا في الشوارع: "الله أكبر"، لو أردت أن ألخص ثورة الحرية في سوريا في سطر لقلت إنها ثورة خرج أبطالها من الجوامع متوكلين على الله، فهتفوا في الطريق معلنين: "هي لله"، ثم استقبلوا الرصاص في رؤوسهم وصدروهم ففاضت أرواحهم في سبيل الله، ثورة مبدؤها الجامع ومنتهاها جنة الفردوس إن شاء الله.

لقد سكتنا حرصاً على وحدة الثورة وعلى تماسك صفوفها، ولكنّا لا يسرّنا أن يستغل سكوتَنا الآخرون فيهضموا هذا الشعبَ الحر الأبيّ حقه.
العلمانيون واليساريون شريحة كبيرة وقوية في الثورة؟ متى كان هذا؟ وكيف؟ وبماذا يهتف الناس في الشوارع ويحكم؟ دونكم ستّين ألفَ مقطع من المقاطع المصوَّرة يضمها موقعٌ واحد من مواقع الثورة، انخلوها نخلاً، هل تجدون فيها هُتافاً يقول: عاش لينين؟ أو المجد لماو؟ أو وحدة حرية اشتراكية؟ إنما يهتف الناس ملء الحناجر "الله أكبر" فيزلزلون بها الأرضَ ويرتدّ صداها عليهم من جوّ السماء، وإنما خرجوا مشتاقين إلى جنة الرحمن: "عالجنة رايحين، شهداء بالملايين"، لقد فرغوا من حظوظ أنفسهم ووهبوا ثورتهم لله: "هي لله، لا للمنصب ولا للجاه"، فدعونا من تلك الادعاءات وهاتيك المهاترات يرحمكم الله.

أم تريدون أن نجرّد هذه الثورة من هويتها التي اختارها لها أصحابُها مجاملة لكم؟ أتريدون أن نخون أرواح عشرة آلاف شهيد خرجوا تحت نداء "هي لله" واستُشهدوا وهم يرفعون السبابة بتوحيد الله؟ كلا، ولا كرامة! أتريدون أن نتنكر لشعب خرجت ثورته من الجوامع استجابة لله وتفجرت في الشوارع إرضاء لله؟ كلا، ولا كرامة!

إن الإسلام هو هوية سوريا، رضي بها من رضي وسخط من سخط، ولكنها هوية جامعة لا هوية تفريق وإقصاء، ولا يُقال فيها إلا ما يقال في العربية التي هي الهوية الجامعة الثانية لهذا الشعب، فنحن لا نُخرج -بوصف سوريا بالعربية- مَن كان من مواطنيها وكان له لسانٌ غير العربية، بل نعترف له بلسانه وندافع عن حقه في استعماله وتعلّمه ونقنّن لذلك القوانين، وكذلك فإننا لا نُخرج -بوصف سوريا بالإسلام- من كان من مواطنيها وكان له دين غير الإسلام، بل نعترف له بدينه وندافع عن حقه في تطبيقه وتعلّمه ونقنّن لذلك القوانين.

أيها السادة: لا تتعبوا أنفسكم بعد الآن بتوزيع الحصص على شعب سوريا الأبيّ الكريم؛ لا حاجة لتصنيفاتكم وتوزيعاتكم ما دام للشارع فم ولنا آذان.
  • 0
  • 0
  • 1,113

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً