وأعلم من الله ما تعلمون

إن هذه الكلمات: {وَأَعْلَمُ مِنَ الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ} تعرض مذاقًا يعرفه من ذاق مثله، فيدرك ماذا تعنى هذه الكلمات في نفس العبد الصالح

  • التصنيفات: - آفاق الشريعة -

جاء هذا القول: {وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ}، في آيتين كريمتين في القرآن الكريم، الأولى على لسان نوحٍ - عليه السلام - قال تعالى: {أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 62].

 

وقد فسره البعض أن الله قد علّمه ما لا يعلمونه من علمٍ وهدىً وخيرٍ وتوحيدٍ خالصٍ خالٍ من الشرك، وأعلمه من شريعته ما لا يعلمون.

 

أما الآية الثانية فجاء على لسان يعقوب - عليه السلام - {قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [يوسف: 86].

 

وقد فسره البعض أنه كان يعلم أن يوسف لم يمت وأنه حيٌ يرزق، وهذا ما لم يكن يعلمه أحدٌ غيره.

 

إن هذه الكلمات: {وَأَعْلَمُ مِنَ الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ} تعرض مذاقًا يعرفه من ذاق مثله، فيدرك ماذا تعنى هذه الكلمات في نفس العبد الصالح يعقوب... والقلب الذي ذاق هذا المذاق، ولا تبلغ الشدائد منه - مهما بلغت - إلا أن يتعمق اللمس والمشاهدة والمذاق... ".

 

وفى هذه الكلمات - التي حكاها القرآن عن يعقوب عليه السلام - يتجلى الشعور بحقيقة الألوهية في هذا القلب الموصول، كما تتجلى هذه الحقيقة ذاتها بجلالها الغامر، ولألائها الباهر، فهو يعلم من صفات ربه ومن شأنه ما لا يعلمه هؤلاء المحجوبون عن تلك الحقيقة.

 

وقد حدث ما يشبه ذلك مع أم موسى، قال تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [القصص: 7].

 

هنا تظهر عناية الله، فيوحي إلى الأم الوجلة القلقة المذعورة، ويلقي في روعها كيف تعمل، ويوحي إليها بالتصرف الأمثل:

يا لله! يا لقدرة الله!

يا أم موسى أرضعيه.. فإذا خفتِ عليه وهو في حضنك، وهو في رعايتك، وهو تحت عينيك.. إذا خفت عليه فألقيه في اليم!

 

مشهد الأم الحائرة الخائفة القلقة الملهوفة تتلقى الإيحاء المطمئن المبشر المثبت المريح، وينزل هذا الإيحاء على القلب الواجف المحرور بردًا وسلامًا، ولا يذكر السياق كيف تلقته أم موسى، ولا كيف نفذته، إنما يسدل الستار عليها من رب العالمين.

 

وهذا من أعظم البشائر الجليلة، وتقديم هذه البشارة لأم موسى، ليطمئن قلبها، ويسكن روعها، فإنها خافت عليه، وفعلت ما أُمرت به، ألقته في اليم.

 

ولكن أيها المسلم: انظر في المقابل كان هناك مثل هذا الإيحاء في روع وقلب امرأة فرعون؛ {وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} [القصص: 9].

 

وهنا لا بد أن نذكر من هي امرأة فرعون، إنها آسيا بنت مزاحم، وكانت من خيار النساء، وكانت أما للمساكين ترحمهم وتتصدق عليهم.

 

ويكفي في مدحها قوله تعالى: {وَضَرَبَ الله مَثَلاً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ امرأت فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابن لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الجنة وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ القوم الظالمين} [التحريم: 11].

 

إن هذه الحالة من الوحي الإلهي في حالات خاصة ونوع خاص من البشر لأمرٌ يستدعي التدبر والتفكير جليًّا، لقد حدث هذا أيضا مع عمر الفاروق وهو على المنبر يخطب في الناس.. تدبر ماذا حدث، كما رواها أسلم ويعقوب ونافع مولى ابن عمر: أن سارية بن زنيم، كان يقاتل المشركين على أبواب نهاوند في بلاد الفرس، وقد كثرت عليه الأعداء، وفي نفس اليوم كان عمر بن الخطاب يخطب يوم الجمعة على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة، فإذا بعمر رضي الله عنه ينادي بأعلى صوته في أثناء خطبته: يا سارية الجبل، يا سارية الجبل، من استرعى الذئب الغنم فقد ظلم،

 

فالتفت الناس وقالوا لعمر بن الخطاب: ما هذا الكلام؟! فقال: والله ما ألقيت له بالًا، شيءٌ أُتي به على لساني.

 

ثم قالوا لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه - وكان حاضرًا -: ما هذا الذي يقوله أمير المؤمنين؟ وأين سارية منّا الآن؟!

 

فقال: ويحكم! دعوا عمر فإنه ما دخل في أمر إلا خرج منه.

 

ثم ما لبث أن تبين الحال فيما بعد: حيث قدم سارية على عمر رضي الله عنه في المدينة فقال: يا أمير المؤمنين كنا محاصري العدو، وكنا نقيم الأيام، لا يخرج علينا منهم أحد، نحن في منخفض من الأرض وهم في حصن عالٍ (جبل) فسمعتُ صائحًا ينادي: يا ساريةَ بن زنيم الجبل، فعلوتُ بأصحابي الجبل، فما كانت إلا ساعة حتى فتح الله علينا.

 

وفي هذه الحادثة دلالة واضحة على عناية الله تعالى بعباده المؤمنين المجاهدين، وعلى إكرامه للخليفة الراشد العادل عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

 

هذا الإيحاء الرباني أو التلقي من الله، لا يمكن إنكاره أو التكذيب بحدوثه.

قد حدث لهؤلاء الذين نعرف صلاحهم وتقواهم!!

أيها المسلم: هل يمكن أن يحدث معك هذا؟!

متى؟!

وكيف؟!

 

ألم تقرأ قول الله تعالى: {وَٱلَّذِينَ جَٰهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ۚ وَإِنَّ ٱللَّهَ لَمَعَ ٱلْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69]؛ أي: الذين جاهدوا في الله ليصلوا إليه؛ ويتصلوا به، سينظر إلى جهادهم فيه فيهديهم إليه، وسينظر إلى محاولتهم الوصول فيأخذ بأيديهم، وسينظر إلى صبرهم وإحسانهم فيجازيهم خير الجزاء.

 

أرأيت أيها المسلم؟

ولتقتنع أكثر، اقرأ قول الله تعالى: {وَٱلَّذِينَ ٱهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى وَءَاتَىٰهُمْ تَقْوَىٰهُمْ} [محمد: 17].

 

إن ترتيب الوقائع في الآية يستوقف النظر؛ فالذين اهتدوا بدأوا هم بالاهتداء، فكافأهم الله بزيادة الهدى، وكافأهم بما هو أعمق وأكمل: وآتاهم تقواهم.. والتقوى حالة في القلب تجعله أبدًا واجفًا من هيبة الله، شاعرًا برقابته، خائفًا من غضبه، متطلعًا إلى رضاه، متحرجًا من أن يراه الله على هيئة أو في حالة لا يرضاها... هذه الحساسية المرهفة هي التقوى... وهي مكافأة يؤتيها الله من يشاء من عباده، حين يهتدون هم ويرغبون في الوصول إلى رضى الله.

 

أيُّها المسلم؛ هل زادت قناعتك؟

تدبر أيضا قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} [يونس: 9]؛ هذا الإيمان الذي يصل ما بينهم وبين الله، ويفتح بصائرهم على استقامة الطريق، ويهديهم إلى الخير بوحي من حساسية الضمير وتقواه، إن هؤلاء الموصولين بالله أصبحت لهم طبيعة خاصة، لهم جهاز استقبال من الله، جهاز لدني، هذا الجهاز اللدني في تلك الطبائع الخاصة الموهوبة أدق وأشمل وأكمل من أي جهاز يمتلكه الإنسان، إنه يتلقى عن الله، هذه الطبيعة الخاصة هي التي تتلقى الإيحاءات الربانية لأنها أصبحت مهيأة لاستقباله... إنها تتلقى الإشارة الإلهية، ولكن كيف تتلقى هذه الإشارة؟ وبأي جهاز تستقبلها؟

 

نحن في حاجة - لكي نجيب - أن تكون لنا نحن هذه الطبيعة التي يهبها الله للمختارين من عباده!

 

اقرأ قوله تعالى: {وَمَا فَعَلْتُهُۥ عَنْ أَمْرِى} في هذه الآية: {وَأَمَّا ٱلْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَٰمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِى ٱلْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُۥ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَٰلِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَآ أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ ۚ وَمَا فَعَلْتُهُۥ عَنْ أَمْرِى ۚ ذَٰلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا} [الكهف: 82].

 

قال بعض المفسرين: وأما قوله في آخر القصة: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِيْ}؛ فإنه لا يدل على أنه نبي وإنما يدل على الإلهام والتحديث، كما يكون لغير الأنبياء؛ قال تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيه}، وقال تعالى: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا}.

 

وأن العلم الذي يعلمه الله لعباده نوعان:

علم مكتسب يدركه العبد بجده واجتهاده، وعلم لدني، يهبه الله لمن يمن عليه من عباده؛ لقوله: {وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا}.

 

أيها المسلم؛ هل ذقت يومًا هذه الأحاسيس وعشتَها في نفسك؟!

وإذا كانت الإجابة (لا )، فجاهد نفسك، يهدك ربُّك بهدايتِه.

وإذا كانت الإجابة: (نعم )، فهل استطعت أن تعبر عنها لغيرك؟

 

طبعًا لن تستطيع لأنها تخصك ولن تستطيع التعبير عنها لعمقها في النفس ولن يستطيع غيرك تقبلها منك لأنه لم يذق هذه المشاعر.