اجتماع الكلمة ومفهوم الأمة

عبد الله بن محمد الطيار

فاتقوا الله - عباد الله - وحققوا مفهوم الأمة في مجتمعكم على كل المستويات؛ في البيت والشارع، ومكان العمل ،وفي كل مكان

  • التصنيفات: قضايا إسلامية معاصرة -

 

الحمد لله مالك يوم الدين، له الحمد والشكر، خالق الخلق أجمعين، وأشهد ألا إله إلا الله وحدَه لا شريك له؛ إله الأولين والآخرين، أمر بالاعتصام بحبله، ونهى عن الفرقة بين المسلمين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله؛ سيد ولد آدم أجمعين، وإمام الهُداة المهتدين، صلى الله عليه وآله وصحبه، ومن تبعهم إلى يوم الدين.

أما بعد:

فاتقوا الله - عباد الله - وحققوا مفهوم الأمة في مجتمعكم على كل المستويات؛ في البيت والشارع، ومكان العمل ،وفي كل مكان يقول الله - تعالى -: {﴿ إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ * وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ * فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ ﴾} [الأنبياء: 92 - 94].

عباد الله:

الله - جل وعلا - هو الأحد الفرد الصمد الخالق لكل شيء، وهو ربُّ كل شيء وعلى كل شيء قدير، أرسل الرُّسل للخلق؛ لإخراجهم من الظلمات إلى النور، الذي جاء بكتاب مبين، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خَلْفه، ولا يَقبل التحريف ولا التبديل، وجعل خاتمهم محمدًا، وقد جعل الله شعار المؤمنين ورابطتهم والصلة بينهم أخوتهم المنطلقة من لا إله إلا الله، محمد رسول الله.

ولقد أدركَ سلف الأمة - رضوان الله عليهم - معنى وحدة الأمة، فكانوا كالجسد الواحد تحطمت على وحدتهم ورابطتهم كل الغزوات والمؤامرات، وهذه الرابطة بينهم منحت للفرد مقياسًا للحياة أرفع من مقياس العصبية والقومية، وحررت النفوس فكرة الحدود الوراثية والجغرافية، فنرى الاتصال بينهم على أساس العقيدة الإسلامية الثابتة.

فإذا افتخر جيل أو قوم، أو جنس أو أهل بلد بما يجمعهم من روابط السكن، وروابط الولادة أو القوم، أو العشيرة أو الظروف المعيشية الواحدة، فإن أمة الإسلام - يا عباد الله - توحِّد بين أفرادها: «لا إله إلا الله محمد رسول الله» صلة الفرد بخالقه، وصلته برسوله، وصلته بإخوانه على هدي من كتاب الله وسنة رسوله، وهذه الأمة لا يؤمن أحدهم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه.

إنها الدعوة العالية لا فرق فيها بين صغير وكبير، ولا بين أحمر ولا أسود، ولا عربي وعجمي، إلا بالتقوى والعمل الصالح؛ {﴿ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ﴾} [الحجرات: 13]، هذه الأمة تخص ربها بالعبادة، ولا تفرِّق بين أحد من رسله؛ ﴿ { وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ﴾} [الأنبياء: 92].

فمن خرج عن الأمة فقد، نكث عن العهد وسار عن طريق الغواية، وخالف كلمة الرُّسل جميعًا، وتقطعوا أمرهم بينهم مختلفين على الرسل؛ بين مصدِّق ومكذِّب، ولكن المرجع والمصير إلى الله؛ فيجازي كلاًّ بعمله؛ {﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ ﴾} [الأنبياء: 94].

عباد الله:

إن من خير ما رسمه ديننا الإسلامي الحنيف من أهداف وأمر به وأكَّد عليه، وحاسب على تركه والتهاون به - هو اجتماع الكلمة، وترابط المسلمين، وتساندهم للعمل جميعًا في صالح الجماعة المؤمنة؛ رفعة لشأنها، واستدامة لعزِّها ومجدها، وصدق الله العظيم {﴿ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ﴾} [آل عمران : 103]، وقال - تعالى -: { ﴿ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾} [آل عمران: 105].

فالاعتصام بحبل الله وعدم التنازع والفرقة - هو الحجر الأساسي في بناء صرح الأمة؛ يقول ابن مسعود - رضي الله عنه - في هذا السياق: ((عليكم بالجماعة؛ فإنها حبل الله الذي أمر به، وإن ما تكرهون في الجماعة والطاعة خير مما تحبون في الفرقة)).

عباد الله:

والمتأمل في شعائر الإسلام وشرائعه - يجد الدليل العمل على ضرورة التزام الجماعة في كل أمر ذي بال، لقد شرع الله الاجتماع في معظم العبادات، وهو عنوان صلاح الناس، فالصلوات الخمس والجمعة التي تجتمعون فيها هذه الساعة، والعيدان والصوم - خصه الله في شهر واحد وحده في وقت معين؛ ليصوم الناس في نفس هذا الوقت، وتظهر فيه وحدة الأمة وترابطها.

وهكذا الحج يجتمع فيه المسلمون ممن كتب الله لهم هذه الفريضة من سائر أقطار الأرض، في مظهر واحد، لا فوارق ولا ميزات، ولا مظاهر الشعار والميزان والتفاضل، كل ذلك بالتقوى.

وهذا واضح جدًّا من معنى الحديث: (( «المسلم للمسلم كالبنيان، يشد بعضه بعضًا» ))، فالبنيان المتماسك القوي هو الذي تكون أجزاؤه قوية سليمة، أما إذا كانت الأجزاء تالفة، تنخر فيها الأكلة، فهنا يدب لها الفساد، ولا تلبث أن تنهار؛ لأنها معرضة دائمًا لهبوب الرياح.

وهكذا صرح الجماعة المسلمة ما دام الترابط بينهم والتماسك شعارهم، فستكون لهم العزة والغلبة، وأما إذا تفرقوا وتخاذلوا، وأكل بعضهم بعضًا، فالويل لهم من أنفسهم وأعدائهم؛ {﴿ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾} [الأنفال : 46].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.

أقول ما سمعتم، فاستغفروا الله يغفر لي ولكم؛ إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية

الحمد لله الذي أمر المسلمين بالاجتماع، وحذَّرهم من الفرقة، وأشهد ألا إله إلا الله، جعل اجتماع الكلمة شرطًا من شروط النصر على الأعداء، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الذي وحَّد الله به الأمة، وجمع به الكلمة - صلَّى الله عليه وسلَّم.

أما بعد:

فاتقوا الله - عباد الله - واحذروا من تفرُّق الكلمة على كل المستويات، فعلى مستوى الأمة يلحظ المسلم الاختلاف الكبير، والتفرق العظيم في صفوف أمة الإسلام، وهي لم تواجه عدوًّا أشرس مما تواجه اليوم، وإن عُدتها وقوتها - بعد توفيق الله - هي اجتماع الكلمة وتوحيد الصف، وعلى المستوى البلد الواحد يلحظ المتأمل مظاهر الاختلاف والتفرق في كثير من شؤون الحياة، وهذا أمر يحتاج إلى إعادة النظر؛ فلم نكن في يوم ما أحوج منَّا اليوم على الصف، وتوحيد الكلمة، والوقوف في وجه أعدائنا الذين كشَّروا عن أنيابهم، ووالله لن تنفعنا أية قوة إذا لم نتسلح بالإيمان، واجتماع الرأي، وتوحيد الصف، وعلى مستوى الفتوى، ووضوح الرؤية في كل القضايا المستجدة على الساحة تظهر آثار الاختلاف المبني على الانتصار للرأي والعاطفة، بل وأحيانًا الهوى، والواجب الحذر في هذا الباب، وألا يصدر من الإنسان شيء إلا بعد التثبت والتحرِّي؛ لأن آثار ذلك على الشباب كبيرة جدًّا.

ولعل من أعظم مكاسب أعدائنا في الأحداث الأخيرة - ما وصلوا إليه من تعميق الفجوة بين العلماء، وكثير من الشباب، والسبب في ذلك طرح بعض الآراء التي لا تدعو لتوحيد الصف واجتماع الكلمة، بل كانت من أسباب تفريق الناس وبلبلة أفكارهم.

وعلى مستوى الأسر والعوائل نجد الكثير من الاختلاف على أمور حقيرة، لكن شياطين الإنس ينشطون في هذه المستنقعات، فيعمقون الخلاف بين أفراد الأسرة الواحدة؛ حتى تصل الأمور إلى طريق مسدود، وهكذا على مستوى البيت الواحد، والمدرسة والدائرة، وقل مثل ذلك في كل موقع يوجد فيه اختلاف وفرقة، والمخرج - بإذن الله - هو سلامة الصدور، والتنازل عن بعض الأمور، واتهام النفس، ومحبة الآخرين، والحرص على إيصالهم حقوقهم، والدعاء لهم ظاهرًا وباطنًا، وتناسى الأخطاء؛ لأنها لا تساوي شيئًا في بحر حسنات أخيك المسلم.

أسأل الله أن يوفقنا اجتماع الكلمة، وأن يزيدنا من الهدى والتقى والرشاد.

وأكثروا - يا عباد الله - من الصلاة على رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم.