الوهن وضعف الأمة: تحليل معمق وتوصيات عملية

محمد سلامة الغنيمي

إن حالة الخذلان الإسلامي لأهل غزة، مجرد عرض لمرض، شخصه النبي -صلى الله عليه وسلم- بالضعف النفسي العام (الوهن)

  • التصنيفات: قضايا إسلامية معاصرة -

 

     إن حالة الخذلان الإسلامي لأهل غزة، مجرد عرض لمرض، شخصه النبي -صلى الله عليه وسلم- بالضعف النفسي العام (الوهن)، حالة الوهن التي منيت بها الأمة أزمت جميع ميادين الحياة فيها، وسلبت من أفرادها الإرادة وروح الانتماء، وجعلت منها تابعا ذليلا للأمم الأخرى، تقتات على منتجاتهم، فتأتمر بأمرهم وتنتهي بنهيهم

    وعلى هذا الأساس يشكل الوهن أشد التحديات التي تواجه الأمة، فهو يعيق تقدمها ويهدد وجودها. ولذلك، يصبح من الملح تحليل هذه الظاهرة بشكل معمق، وتحديد أسبابه الرئيسية، واقتراح حلول عملية للنهوض بالأمة.

     عن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «"توشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها". فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: "بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوهن". فقال قائل: يا رسول الله، وما الوهن؟ قال: "حب الدنيا وكراهية الموت» ".

    عرف النبي صلى الله عليه وسلم مفهوم الوهن في الحديث، بأنه يتمثل في حب الدنيا وكراهية الموت، وهذا التعريف يشير إلى عدة خصائص تنتاب من يوصف به، حيث الاستسلام للغرائز والشهوات، وضعف الإيمان، وكلاهما سبب للآخر، وكلاهما يؤدي إلى ضعف البناء النفسي والاجتماعي، بما يؤول إلى الانشقاق والصراع الداخلي.

     وقد أشار النبي في الحديث إلى أن هذه الحالة المزرية للأمة جعلت الأم تتكالب عليها لنهب ثرواتها والانقضاض عليها، يؤز بعضهم بعضا، كما تتداعى الأكلة إلى القصعة.

     وقد أشار الحديث أيضا أنه رغم هذه الحالة من الوهن، إلا أن الأمة تملك من مقومات القوة ما لم تكن تملكه من قبل، "بل أنتم كثير"، لكن الوهن أضعف من قدراتها على توظيف هذه المقومات، فنزع الوهن من عناصر القوة خاصيتها حتى صارت إلى ضعف، كما يصير القوة المتمثلة في الموارد البشرية كغثاء السيل لا قيمة له.

     وهذه الخصائص تنطبق على أمتنا اليوم، فقد أصاب أمتنا الوهن في أشد حالاته، وتكالبت عليها الأمم من الشرق والغرب ومن أقصى الأرض، لا هم لهم إلا نهب ثرواتها ووأد يقظتها وتكبيل تحركاتها، ووضعوا في وسطها جسم غريب (إسرائيل)؛ ليمنع التحامها وصحوتها، واجتمع أعداؤها عليها عن طريق القرارات الأممية، بحيث يلاحظ المتابع أن هذه الأمم لا تجتمع إلا على أمتنا، ولا يجد المتابع أي صراع في العالم إلا وأمتنا الطرف المجني عليه في هذا الصراع.

     ونظرا لحالتة الوهن هذه أن ما تنتجه الأمة من مواد اللهو والعبث عن طريق السينما وغيرها أكثر مما تنتجه من المواد الغذائية الضرورية، وأصبح ما تنفقه الأمة اللعب والمتعة أكثر بكثير مما تنفقه على التعليم والبحث العلمي، كما أن مخرجاتها من اللكع أكثر من مخرجاتها من المصلحين، وما تنفقه على الاستهلاك التفاخري يفوق أضعاف مضاعفة ما تنفقه على التعليم والتدريب من ميادين التعليم والعمل... حال الأمة كله يشير إلى حرصها الشديد على الدنيا وكراهيتها الموت...

    وقد أثبت الوحي الشريف وخبرات أمتنا التاريخية أن القوة النفسية والإيمانية للأمة هي مصدر عزها وتفوقها، وأنها سبيل إلى التفوق في القوة المادية على الآخر وإن كانت أقل منه في مقومات القوة

     وإذا نظرنا في أضابير التاريخ الناصع لأمتنا واستعرضنا موقف غزوة بني قينقاع على سبيل المثال لقوة الأمة النفسية رغم ضعفها المادي سنجد أن سببها في يهودي كشف عورة امرأة، فوثب عليه مسلم فقتله، وبعد هذا الفعل تحرك جيش المسلمين لنصرة نسائهم، رغم قلة عددهم وضعف عتادهم، لكن قوتهم النفسية والإيمانية جعلت لهم مهابة في نفوس أعدائهم خارت أمامها قوتهم، وطرد النبي ومعه المسلمون اليهود أذلاء صاغرين.

     القصة هنا تثبت تحركا فرديا وجماعيا لحرمة امرأة كشفت عورتها فقط، يوم كان المسلم للمسلم كالبنيان يشد بعضه بعضا، أما الآن فنسائنا يغتصبن، وأطفالنا يشردون، ومقدساتنا تستباح، وحرماتنا تنتهك، والغريب أن ذلك يتم ونحن في حالة من القوة المادية: مال، وعتاد، وعدد... لكن في حالة من الوهن (الضعف النفسي)، والسبب كما حدده النبي: "حب الدنيا وكراهية الموت". قدمنا مصالحنا الشخصية على مصالح أمتنا العامة، وتعلقت قلوبنا بتوافه الأمور.

     حالة الوهن التي نعيشها جعلتنا غثاء كغثاء السيل، أذلاء أمام العالم أجمع! وسنحمل وزر العار أمام أبنائنا وأحفادنا، كما حملنا عار نساء المسلمين في سوريا والسودان وبورما... والقائمة طويلة؛ والقوس ما زال مفتوحا على؟ مصراعاه نحو الهزائم

    ولعل القاريء يتسائل عن الأسباب التي قادت الأمة لحالة الوهن، وهنا يمكننا أن نستدعي نصوص الوحي، فقد علق القرآن الكريم أسباب هلاك الأمم والمجتمعات السابقة بغياب تأثير المصلحين حتى عم الخبث في الناس فاستحقوا العقوبة الكونية؛ لأنه كلما طال الأمد على الناس ابتعدوا عن المنهج بفعل الشهوات والشبهات التي تثيرها النفس الأمارة والشيطان، والمصلحون هنا يمثلون دور الأنبياء في شد الناس إلى المنهج وتقوية إيمانهم الأمر الذي يترتب عليه رسوخ قوتهم النفسية أمام الشهوات والشبهات، فإذا قل المصلحون أمام المفسدين ضل الناس وأصابهم الوهن، قال تعالى: في في بيانه عن سبب هلاك أمة من الأمم: "كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه ۚ لبئس ما كانوا يفعلون"، وقالت زينب بنت جحش: يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: "نعم، إذا كثر الخبث". وقال ابن عمر، قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد؛ سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم".

     ومن هذا المنطلق يمكننا حصر أسباب ضعف الأمة وتدنيها إلى مستوى الوهن، الذي استحقت معه العقوبة الكونية، في سبب رئيس وهو: ضعف عوامل الإصلاح في مقابل قوة عوامل الإفساد، وذلك بلا شك يعود إلى غياب المصلحين وغلبة المفسدين.

ويتفرع عن هذا السبب الرئيس أسباب أخرى أكثر تفصيلا، مثل:

- الابتعاد عن الدين: يعد الدين مصدر القوة والوحدة للأمة، وله دور محوري في ترسيخ القيم والأخلاق الحميدة ولذلك، فإن الابتعاد عن الدين يؤدي إلى انتشار الفساد والضياع، ويضعف الشعور بالمسؤولية والواجب.

- الفرقة والاحتراب الداخلي: تعد الوحدة عنصرا أساسيا لقوة الأمة، بينما تؤدي الفرقة والتناحر إلى تفككها وضعفها. ولذلك، فإن ترسيخ القيم الإسلامية الاجتماعية، ونشر ثقافة التسامح والاحترام بين أفراد المجتمع يعد أمرا ضروريا لنهوض الأمة.

- الجهل والتخلف: الذي خلفته ضعف المنابر الدعوية والمؤسسات التعليمية أمام المنصات الإعلامية التي ركزت بقضها وقضيضها على إثارة الشهوات والشبهات، فخلف ذلك انجراف نحو الشهوات وتجريف للثوابت وتغييب للوعي وتجهيل للنشء .-

التبعية والتواكل: تؤدي التبعية للغرب إلى فقدان الأمة لسيادتها واستقلالها، وذوبان خصوصيتها في الآخر المتكالب عليها، بينما يؤدي التواكل إلى إهمال الاعتماد على الذات، والاقتيات على منتجات الآخر المادية والثقافية. ولذلك، فإن تعزيز الثقة بالنفس والاعتماد على الإمكانات الذاتية يعد أمرا ضروريا لنهوض الأمة.

- الفساد الإداري والمالي: يؤدي الفساد إلى إهدار المال العام، وتغييب الكفاءات، وتعطيل للطاقات البشرية، وإضعاف ثقة المواطنين في حكومتهم، ويؤدي إلى انتشار الفقر والبطالة والجهل. ولذلك، فإن محاربة الفساد بكل أشكاله يعد أمرا ضروريا لنهوض الأمة.

وقد انبثق عن هذه التحديات الكثير من الأزمات المعقدة التي أفقدت الأمة فعاليتها، مثل:

- ضياع الهوية الإسلامية والقومية: يؤدي الوهن وضعف الأمة إلى فقدانها لهويتها الإسلامية والقومية، وتصبح عرضة للتأثيرات الخارجية، مما يؤدي ضعف تماسك المجتمع أمام تيار الغزو الفكري الجارف.

- تسلط الأعداء: تصبح الأمة الضعيفة عرضة لتسلط الأعداء، ونهب ثرواتها، وفرض سيطرتهم عليها، وتصبح أمام كالقصعة أمام آكليها.

- انتشار الفقر والبطالة: يؤدي الوهن وضعف الأمة إلى انتشار الفقر والبطالة، وازدياد تأزمات المشكلات الاجتماعية.

- ضعف الشعور بالأمان: يؤدي الوهن وضعف الأمة إلى ضعف الشعور بالأمان، وازدياد الشعور بالخوف والقلق، وبالتالي ضعف الإنتاج والمشاركة.

التوصيات العملية:

النهوض بالأمة مسؤولية الجميع، ولا يمكن تحقيقه إلا بتضافر الجهود للقضاء على الوهن والضعف، والعمل على تحقيق الإصلاح الشامل في جميع المجالات، ومن أهم التوصيات.

- الاهتمام بإعداد العلماء المجددين والدعاة المصلحين، الذين يحاربون البدعة وينشرون السنة، ويجددون للأمة دينها، ويأخذون بأيدي أفرادها إلى صحيح المنهج.

- التطوير المستدام في وسائل التعليم والدعوة والإعلام بما يوافق العصر، ويطرح البديل الإسلامي الوسطى المستنير أما أجيال الشباب، الذين استهوتهم وسائل الإعلام المغرض.

- نشر العلم والوعي من خلال جميع منصات التواصل العلمي والاجتماعي، بحيث يقدم الوعي المستنير من جهات متعددة وبطرق مختلفة، يبدد غياهب ظلام الجهل، ويفتت صخور الشبهات، ويكشف خبث دثار الشهوات.

- الاهتمام بالتعليم الجيد الذي يعمل على تنمية المهارات وإثارة القدرات ونقل الثوابت التي تقي الجيل من فتن العصر.

- الاعتماد على الذات وتشجيع المنتج المحلي، بالإضافة إلى التنفير من الاستهلاك التفاخري، الذي يستنزف الثروات ويغلف العقول.

- التخلص من التبعية للغرب، ومقاومة الغزو الفكري، واستحضار روح الإيمان الذي يخلص الأمة من حالة الوهن ويعزز من قوتها النفسية.

- محاربة الفساد الإداري والمالي بكل أشكاله وصوره، ويتم ذلك من خلال إيقاظ الضمير، وتعزيز القيم، وإعلاء الشرع والقانون فوق المصالح الشخصية.

وأخيرا، لن تنهض الأمة من كبوتها وتتخلص من الوهن إلا على أيدي العلماء المجددين والدعاة المصلحين، والمعلمين ورثة الأنبياء والمرسلين؛ لأن هؤلاء من يشكلون وعي الأمة، ويشدونها إلى المنهج الصافي الذي وضعه الله لخير الأرض كلها.