حائرة بين الحقيقة والأوهام

خالد عبد المنعم الرفاعي

  • التصنيفات: قضايا المرأة المسلمة - العلاقة بين الجنسين -
السؤال:

أنا فتاة مسلمة أتقي الله ما استطعت في نفسي وأهلي وديني، أبلغ من العمر 30 عامًا ولم أرتبط، وقد هداني فكري إلى التَّقدُّم والتَّسجيل في أحد المواقع المخَّصصة للزَّواج عبر الإنترنت -وهو موقع إسلامي- وسجَّلْتُ بياناتي وطلبتُ فيها أن يتقدَّم لي من هو على دين، ولم أشترِطْ سوى هذا الشَّرط، وأرسل إليَّ الكثير ولكنَّني عندما كنت أجد أي تلميح بعبارة أشكُّ في أنَّها لا تعجبني أهْمل تلك الرَّسائل؛ لأنني لا أبحث إلا عن صاحب دينٍ وخُلُقٍ.
إلى أن أرسل إليَّ أحد الأشخاص مرارًا، وطالما أعجبتني رسائله فهي لا تَخلو من ذكر الله وأحاديث الرَّسول، فاستراح له قلبي وأخبرته أنني أرتدي النِّقاب - وهذه حقيقة - وظننتُ أن يكون ردُّ فعلِه أن يتركني فأنا لا أنفع، فحتَّى رؤيتي أو صورة لي صعب، فما وجدتُ منه غيْرَ تمسُّك بي أكثر للدرجة التي قال فيها: لقد زادك هذا غلاوة عندي؛ فلا أبحث سوى عن مَن تستر نفسها وتسترني معها.
والآن نحن نتكلم عبر الإنترنت، وفعلاً لقد ملك قلبي بعقله وأدبه وخصاله الطيبة، فكثيرًا ما يقول لي: إني سأكون لك عونًا على طاعة الله والتَّقرُّب منه.
حتى إنه وعدني أن نعتَمِرَ معًا بعد الزَّواج، وكلَّ يوم نتحدَّث سويًّا عن الأهل والحياة في مُحاولة منا للتَّقارُب أكثر، حتى أخبرني بحبه لي وأَقْسَم على ذلك، ولا أنكر فقدْ أحببتُه وذلك لكثيرٍ من الصِّفات التي أجِدُها فيه وأنا أحدِّثه.
وقد اتصل بي هاتفيًّا مرَّتَيِّن لأسمع صوته، وكذلك ليتأكَّد من كوني بنتًا ولستُ رجلاً يتلاعب به.
لا أنكر عليْكُم فإنّي أحبُّ مشاعره الفياضة وكرم أخلاقه، وأحببت فيه أنه لم يطلب مني - ولو للحظة - أن أصف له نفسي، فهو يتعامل مع أفكاري لا مع ملامحي أو جسدي مما جعلني أحبه وأتمنَّى أن يجمعنا الله معا زوجًا وزوجة.
هو مسافر خارج البلد الآن، وإجازته ستكون خلال شهريْنِ، وهنا تبدأ مشكلتي، فهو ليس بالقرب مني لأقول له: أثبِتْ صِدْقَك وتقدَّم لأسرتي حتى تكون علاقتنا وكلامنا رسميًّا وبما يرضي الله وذلك لسفره في العمل، وكذلك أخشى بطبيعتي لأني أعرف أن هناك الكثيرين مِمَّن يسلُّون وقْتَهُم بِشغل مشاعِرِ الفَتَيَات، وخاصَّة أنَّه لم يقُل أنَّنا سنحب بعض ولكن هو واضح وصريح سنتزوَّج، مِمَّا يَجعل العلاقة تسهّل الطريق للقلب، ولكن من يعلم الصدق من الكذب! مَن يعلم ما تخفي الضمائر؟ وكما يقولون فإن أجمل الحديث أكذبه.
يعلم الله أني حزينة لمجرَّد شكي فيه، وقد يكون هو ابن حلال ولا يتوقع ذلك مني ولكن هذا ليس بملكي؛ فقصص الكذِب على الفتيات كثيرة.
أنا أصدّقه وأحبُّه وأتمنَّاه زوجًا لي، ولكنْ في ذات الوَقْتِ أخشى أن يكون كلامي معه فيه ما يُغْضِبُ الله وما يُسيء لي، إنَّنا نتكلم في حُدود الله لا أحد منَّا يتخطَّى تلك الحدود سوى أنَّه أحيانًا يُخبرني بأنَّه يُحبني ولن أكذب: كذلك أخْبِرُه بِمشاعري، لكن يشهد الله أنَّه لا تَجاوُز بيننا أكثر من ذلك ولا حتى في الألفاظ أو الكلمات.
أنا حائرة بين سعادتي بكلامي معه وشوقي له ولاكتِمال ما بينَنَا بِالحلال، وبين قلقي من أن يكون يُخفي ما لا أعلمه ولا يعلم الغيبَ إلا الله.
ولا أعرف ماذا أفعل ومن أستشيرُ في خطواتي، وخاصَّة أنَّ والدي متوفًّى وليس لي أخ لأطْلِعه على كلامِنا حتى يستريح قلبي.
في بداية الأمر وآخِره أدعو الله أن يُوفِّقني لِلخيْر، وأن يَستُرَني فهو حسبي ونعم الوكيل، وأرجو منكُمُ المشورة الطيِّبة وجزاكم الله خيرًا.

الإجابة:

الحمدُ لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصَحْبِه ومَن والاه، أمَّا بعدُ:

فقدْ حدَّد الشَّرع الحكيمُ حدودَ العلاقة وضوابطَها بيْن الجنسين، وبيَّن المجال الوحيدَ الذي يُباحُ من خِلاله هذه العلاقة ألا وهو الزَّواج الشَّرعي فقَطْ، وكلُّ علاقةٍ تنْشَأُ بيْن الطَّرَفَيْنِ خارجَ حدود الزَّواج فهِيَ علاقةٌ آثِمة مُحرَّمة، ولقد سَبَقَتْ لنا فتاوى في ذلك فيُمْكِنُكِ الرُّجوع إليْها، ومن هذه الفتاوى: "حكم علاقة الشاب بفتاة بقصد الزواج"، وأمَّا حكم العلاقة بيْنَ الجنسين عبر شبكة الإنترنت فقد سَبَقَ الحُكم عليْها في: "الحديث على الانترنت مع الجنس الآخر"، "حكم الدردشة مع الجنس الآخر". وبالرجوع إلى هذه الفتاوى تعلمين حُكْمَ ما أقدمْتِ عليْه.


ثم اعلمي أنَّ الإنترنت ليس وسيلةً لمعرفةِ أخلاق النَّاس ومستوى دينِهم واستقامتِهم وصِدْقِهم، ففضلاً عن المفاسد المترتِّبة عليه فهو طريقٌ غيْرُ موثوق به، حيثُ إنَّه لا يُدْرَك مِن خِلالِه حقيقةُ الشَّخص ولا أخلاقُه، فقدْ يذكر الإنسانُ عن نفسِه أنَّه متَّصف بأحسنِ الصِّفات وأفضَلِها وهو بِخلاف ذلك، كما أنَّه وسيلةٌ مضمونة لاصطياد المرأة، وذلك بإيهامه إياها أنه جادٌّ في الزَّواج وما هو إلا مُجرَّد عابث ماكر لا يخشى الله.


أمَّا بِخُصوص الشَّابّ المذكور، فإنْ كان فِعلاً راغبًا في الزَّواج منكِ فليتَّصِلْ بوليّ أمرِك مباشرة، فإن تقدَّم وخطَبَ وعرَّف بنفْسِه فعليْكُم السؤال عن دينِه وصلاتِه وخُلُقِه وغير ذلك، وهذا تَمحيصٌ لا يَصِحُّ بعده إلا الصَّحيح، أمَّا إن سَمَح لنفسِه بالاستِمْرار في الحديثِ معكِ دون التَّقدُّم إلى أهْلِك وأخْذِ الخطوات الجادَّة في ذلك فلا يَجوز، وهو من خطوات الشَّيطان الَّتي تَجرُّ إلى معصية الله تعالى، وتؤدي في كثير من الأحيان إلى تدمير عفَّة وعفاف كثيرٍ من فَتَيَات المسلمين وفِتْيانِهم والله المستعان.


فبادري بالبُعْدِ عن مُحادثة ذلك الشاب وغيره، سواءٌ عن طريق شبكة الإنترنت أو عن طريق الهاتف؛ حفاظًا على دينِك، ولو كان فيه خيرٌ فسيبحَثُ عن أُسْرتك ويتقدَّم لخطبَتِك.


ثُم لتَعْلمي أنَّ هذا الشخص لو كان متديِّنًا ِبحَقّ أو رجلاً بصدق ما رضِي لنفْسِه مُطلقًا أن يستدرج أختَه المُسلِمة بِمعسول الكلام ورقيق العبارة، حتَّى تتعلق به وتقع في حبه ويُفْسِد قلْبَها، ويُغْضِب ربَّها، وهل يرضى مثله لأُمِّه أو لبعْضِ مَحارِمِه؟! كيف وقد سَمِعَ النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- غلامًا يَحدو وكان في سفر، فقال: «رُوَيْدك يا أنجشة، سوقَك بِالقوارير» وفي رواية: «رُوَيْدك يا أنجشة، لا تَكْسِر القوارير» (صحيح البخاري)، قال الحافظ في "الفتح": "كان حسنَ الصَّوت بالحُداء فكره أن تَسْمَع النِّساءُ الحداءَ، فإنَّ حُسْنَ الصَّوت يُحَرِّك من النفوس، فشبَّه ضعْفَ عزائِمِهنَّ وسرعة تأثير الصوت فيهنَّ بالقوارير في سرعة الكسر إليها، قال أبو عبيدٍ الهروي: شبه النِّساء بالقوارير لضعف عزائمِهن، والقواريرُ يُسْرِع إليها الكسر، فخَشِيَ من سَماعِهِنَّ النَّشيد الذي يَحدو به أن يقَعَ بِقُلوبِهِنَّ منه، فأمره بالكَفِّ، فشبَّه عزائمهنَّ بسرعة تأثير الصَّوت فيهنَّ بالقوارير في إسراع الكسر إليها". اهـ. مُختصرًا.


أما قولكِ: "إنَّنا نتكلم في حُدود الله لا أحد منَّا يتخطَّى تلك الحدود"، فمن تزيين الشيطان لكما فلتتقي اللهَ -الذي إليه المعاد- في نفسكِ، وليُوجل قلبُكِ، وليشتد إشفاقكِ، فمتى كان تقحم الفتن الموجبة للنار وغضب الجبار والولوج فيها مراعاةً لحدود الله؟! فاحذري –رعاك الله– من أن تكونين ممن قال الله تعالى فيهم: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآَهُ حَسَنًا} [فاطر: 8]. 


كما يجب عليْكِ التَّوبةُ إلى الله مِمَّا بَدَرَ مِنْكِ، واشْغَلِي نفسَكِ بِما ينفَعُك في أمور دينك ودُنْياك، واعلمي أنَّ الزَّوجَ الصَّالح رِزْقٌ يَسوقُه الله تعالى إلى المَرْأة الصَّالحة، فأكثري من الطاعة والإنابة، وسُدِّي كلَّ بابٍ لِلفتنة، وكوني جادَّة نقيَّة لا يطمع فيك طامع، ولا يرتَعْ حوْلَ حِماك راتعٌ من شياطين الإنْسِ.