فقدت الخشوع في الصلاة

خالد عبد المنعم الرفاعي

  • التصنيفات: أعمال القلوب - الطريق إلى الله -
السؤال:

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أشكركم بدايةً على ما تُقَدِّمون مِن استشارات، جزاكم الله خيرًا.

تُوُفِّي والدي مِن سنتين، وكانتْ وفاتُه مفاجأةً للجميع، ولم أستطعْ تقبُّل الأمر في البداية، وكنتُ أحاول ألا أُظْهِرَ حُزني؛ حتى أخففَ عن إخوتي وأمي!

منذ ذلك الوقت وأنا لا أستطيع الخشوعَ في الصلاة، وقد حاولتُ مِرارًا، وكثيرًا ما أبكي وأدعو ربي أن أعودَ كما كنتُ، لكني فشلتُ.

قرأتُ كثيرًا عن كيفية الخشوع في الصلاة، لكن بدون نتيجةٍ، قلبي يعتصر ألمًا؛ لأنه لا صلاة بدون خشوع، ولا أعلم حين أموت ماذا أقول لخالقي؟!

منذ وفاة والدي وأنا أجد أن شيئًا بي قد تغيَّر، ولا أعلم كيف أعود إلى ما كنتُ.

رحم الله والدي، وأسكنه فسيحَ جنَّاته.

الإجابة:

الحمدُ لله، والصلاةُ والسلامُ على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه، أما بعدُ:

فهوِّني عليك - أيتها الأخت الكريمة - فإنَّ الوالد - رحمه الله - قد عاش بأجلٍ، ومات بقدرٍ، وقدِم على ربٍّ غفورٍ، ونرجو مِن الله أن يكونَ قد استراح مِن بلاء الدنيا وشقائها؛ فإن لله ما أخذ وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجلٍ مُسَمَّى، فلْتَصْبِري ولْتَحْتَسِبي.

والذي يظهر مِن رسالتك أنَّ السببَ في تبدُّل حالك وفاةُ الوالد الكريم، وما ترتب عليه من تسلط الشيطان عليكِ، ومما يعين على النسيان الصبرُ، والإنسانُ لا يستغني عن الصبر في حال مِن الأحوال، والتسليم لقضاء الله تعالى وتقديره، واليقين بأن الله تعالى لم يأخذْه إلا في الوقت المحدد له، فينبغي ألا نجزعَ كما لا يجزع مَن استردتْ منه وديعة أو عارية، فكلُّ مَن مات قد انقضى أجلُه المسمى، ومحالٌ تقدُّمه أو تأخُّره عنه.

فإنَّ مفاجآت المصيبة بغتةً لها روعةٌ تُزعزع القلب، وتزعجه بصدمها، فإنْ صبَر الصدمة الأولى انكسر حدها، وضعفتْ قوتها، فهان عليه استدامة الصبر، وأيضًا فإنَّ المصيبةَ ترد على القلب وهو غير موطَّن لها فتزعجه، وهي الصدمة الأولى، وأما إذا وردتْ عليه بعد ذلك توطَّن لها، وعلم أنه لا بد له منها، فيصير صبره شبيهَ الاضطرار؛ قاله ابن القيم في كتابه "عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين" (ص: 77).

وتدبري ما رواه مسلمٌ عن أم سَلَمة، أنها قالتْ: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، يقول: «ما من مسلم تُصيبه مصيبة، فيقول ما أمره الله: إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، اللهُمَّ أجرني في مصيبتي، واخْلُفْ لي خيرًا منها، إلا أخلَفَ الله له خيرًا منها»، قالتْ: فلما مات أبو سلمة، قلتُ: أي المسلمين خير مِن أبي سلمة؟ أول بيت هاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم إني قلتُها، فأخْلَفَ الله لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالتْ: أرْسَل إليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حاطب بن أبي بلتعة يخطبني له، فقلت: إن لي بنتًا وأنا غيورٌ، فقال: «أما ابنتها فندعو الله أن يغنيها عنها، وأدعو الله أن يذهب بالغيرة».

وفي صحيح البخاريِّ، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يقول الله تعالى: ما لعبدي المؤمن عندي جزاء، إذا قبضتُ صفيَّهُ مِن أهل الدنيا ثم احتسبه، إلا الجنة»، والصفيُّ: الحبيب المصافي له؛ كالولد والوالد، وكل مَن يحبه الإنسان ويتعلَّق به.

وقد أرشدنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى ما يُخَفِّف المصاب غير ما ذكرناه لك، هو أن نتذكر مصيبتنا بموت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي هو أحب إلينا من أنفسنا وأهلينا وأموالنا والناسِ أجمعين، فالمصيبةُ به أعظم مِن كل مصيبة يُصاب بها المسلم بعده إلى يوم القيامة؛ فبموته انقطع الوحي، وماتت النبوةُ، وأول ظهور الشر، وكان أول انقطاع الخير وأول نقصانه؛ عن عائشة قالتْ: فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم بابًا بينه وبين الناس، أو كشف سترًا، فإذا الناس يُصلون وراء أبي بكر، فحمد الله على ما رأى مِن حُسن حالهم رجاء أن يخلفه الله فيهم بالذي رآهم، فقال: «يا أيها الناس، أيما أحد مِن الناس أو من المؤمنين أُصيب بمصيبة، فلْيَتَعَزّ بمصيبته بي عن المصيبة التي تصيبه بغيري، فإنَّ أحدًا مِن أمتي لن يصابَ بمصيبة بعدي أشد عليه من مصيبتي»؛ رواه ابن ماجه، وصححه الألباني.

فعزي نفسك، واطلبي الثواب مِن الله؛ قال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة: 155 - 157]، وقال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214]، والآياتُ في هذا المعنى كثيرةٌ، فأخبر سبحانه وتعالى أنه يختبر عباده المؤمنين، ويمتحنهم بالسراء والضرَّاء، وموت الأحباب مِن الأقارب والأصحاب، وهذا شيءٌ لا بد منه، أن يُبتلَى المؤمنُ في ماله أو نفسه أو ولده أو والده على قدْر دينه، فإن كان في دينه صلابة زِيد في البلاء، وشأنُ المؤمن في حال البلاء أن يسترجعَ، فهو عبدٌ لله يصنع به ما يشاء.

هذا، وأنصحك بقراءة كتاب عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين، ومدارج السالكين؛ لابن قيم الجوزية.

أما مسألة الخشوع في الصلاة، وكيفية تحصيله، فسألخِّص لك بعض الأمور التي يجب مراعاتها لتحصيل الخشوع في الصلاة:

  • استحضار هيبة الموقف بين يدي الله تعالى، وتَذَكُّر اطِّلاعه سبحانه علينا ومراقبته لنا، وأنه لا يليق بالمسلم التَّشاغُل عن صلاته بكثرة الشُّرود، مع إقبال الرب علينا، كما في الحديث الذي رواه أحمد عن أبي ذرٍّ، يقول: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «لا يزال الله عز وجل مقبلاً على العبد في صلاته ما لم يلتفتْ، فإذا صرف وجهه انصرف عنه».

وروى مسلم عن عقبة بن عامر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما مِن مسلمٍ يتوضأ فيحسن وضوءه، ثم يقوم فيصلي ركعتين، مُقبلاً عليهما بقلبه ووجهه، إلا وجبتْ له الجنة».

 

  • تَفْرِيغ القلب مِن الشواغِل الدنيوية والحاجات البدَنيَّة؛ قال شيخُ الإسلام ابن تيميَّة في "مجموع فتاوى": "وأما زوال العارض فهو الاجتهادُ في دفْع ما يشغل القلبَ مِن تفكُّر الإنسان فيما لا يَعنيه، وَتَدَبُّر الجواذب التي تجْذِب القلب عن مقصود الصلاة، وهذا في كلِّ عبدٍ بِحَسْبه؛ فإنَّ كثرة الوسواس بحسب كثرة الشبهات والشهوات، وتعليق القلب بالمحبوبات التي ينصرف القلب إلى طلبها، والمكروهات التي ينصرفُ القلبُ إلى دفْعِها".

 

  • العمل على الخشوع بالجوارح؛ فلا يتحرك العبدُ ما استطاع إلى ذلك سبيلاً؛ فلا يعبث بشيءٍ من جسده، ولا بشيءٍ آخر؛ كملابسه؛ لأن ذلك مما ينافي الخشوعَ.

 

  • التفكُّر والتدبر فيما يقرؤه حال الصلاة من القرآن، أو فيما يسمعه حال الصلاة مع الجماعة؛ قال تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص: 29]، وقال: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24]، فتدبَّري معاني ما تقولين مِن أذكار.

 

  • استحضري دائمًا أنك تُخاطبين الله تعالى خطابَ الحاضِر السَّامِع، وتمثلي ما روى مُسلم في "صحيحه"، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «قال الله تبارك وتعالى: قَسَمْتُ الصَّلاة بيني وبين عبدي نِصفين، ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} قال الله تعالى: حمدني عبدي، وإذا قال: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} قال الله تعالى: أثنى علي عبدي، وإذا قال: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} قال: مجَّدني عبدي، فإذا قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} قال: هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل، فإذا قال: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} قال: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل».

 

  • العملُ على قصر الأمل يدفع المرء إلى أن يصلي صلاة المُوَدِّع؛ ففي سنن ابن ماجه، عن أبي أيوب، قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، علمني وأوجز، قال: «إذا قمتَ في صلاتك، فصَلِّ صَلاَةَ مُوَدِّع»؛ حسنه الشيخ الألباني، فمَن اعتقد أنه - وهو في صلاة - أنها ربما تكون آخر صلاة يؤديها، فَحَرِيٌّ به أن يخشعَ فيها ويُتْقِنُهَا.

 

  • القراءة في كتب السيرة عن أخبار السلف، وقصصهم مع الصلاة، وطلبهم الخشوع بأي ثمن.

 

  • اصدقي اللجوء إلى الله تعالى، وتضرَّعي إليه أن يرزقك الخشوع في الصلاة، ويُصلح قلبك، مع الإلحاح في الدعاء؛ فمَن أكثر الطرق ولج!

 

  • ضعي نصب عينك ما ورد في مدْح الله تعالى للخاشعين، وربط ذلك بفلاح المؤمنين بخشوعهم في صلاتهم؛ قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون: 1 - 2]، مع ملاحظة أن الصلاة بدون الخشوع لا يحصل فاعلها على ثمرة الصلاة، التي تتمثل في كفِّه عن الفحشاء والمنكر، وأنَّ مَن لم يخشعْ في صلاته فقد فوت على نفسه طعمَ لذة المناجاة لله تعالى، التي هي ألذ ما يتلذَّذ به المؤمنُ.

 

  • الحرص على قطع الخطرات وعدم الاسترسال معها، فالصبر على قطع الخطرة - التي هي ألقيات الشيطان - أيسرُ بكثير من الصبر على ألم ما بعدها؛ فإن الخطرة تولِّد فكرة، ثم تولِّد الفكرةُ إرادة، ثم تقوى فتصير عزيمة جازمة، فيتعذر قطعها.

 

وفَّقك الله لكل خيرٍ، ورزقنا وإياك الخشوعَ في الصلاة.