فصل في ‏{‏الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى‏}‏

ابن تيمية

  • التصنيفات: التفسير -
السؤال: فصل في تفسير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى‏}‏
الإجابة:

قال تعالى‏:‏ ‏{‏‏الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى}‏‏ ‏[‏الأعلى‏:‏ 2‏]‏، فأطلق الخلق والتسوية ولم يخص بذلك الإنسان، كما أطلق قوله بعد ‏{‏‏وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى}‏‏ ‏[‏الأعلى‏:‏ 3‏]‏ لم يقيده‏.

‏‏ فكان هذا المطلق لا يمنع شموله لشيء من المخلوقات‏.‏

وقد بين موسى عليه السلام شموله في قوله‏:‏ ‏{‏‏رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى}‏‏ ‏[‏طه‏:‏ 50‏]‏‏.

‏‏ وقد ذكر المقيد بالإنسان في قوله‏:‏ ‏{‏‏يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ}‏‏ ‏[‏الانفطار‏:‏ 6- 7‏]‏‏.

‏‏ وقد ذكر المطلق والمقيد في أول ما نزل من القرآن، وهو قوله‏:‏ ‏{‏‏اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ}‏‏ ‏[‏العلق‏:‏ 1 - 5‏]‏‏.‏

وفي جميـع هـذه الآيات مطلقها ومقيدها والجامع بين المطلق والمقيد قـد ذكر خلقه، وذكر هدايته وتعليمه بعد الخلق، كما قال في هذه السورة‏:‏ ‏{‏‏الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى}‏‏ ‏[‏الأعلى‏:‏ 2- 3‏]‏ ‏.

‏‏ لأن جميع المخلوقات خلقت لغاية مقصودة بها، فلابد أن تهدى إلى تلك الغاية التي خلقت لها‏.

‏‏ فلا تتم مصلحتها وما أريدت له إلا بهدايتها لغاياتها‏.

‏‏ وهذا مما يبين أن الله خلق الأشياء لحكمة وغاية تصل إليها، كما قال ذلك السلف وجمهور المسلمين وجمهور العقلاء‏.

‏‏ وقالت طائفة كجهم وأتباعه‏:‏ إنه لم يخلق شيئًا لشيء، ووافقه أبو الحسن الأشعرى ومن اتبعه من الفقهاء أتباع الأئمة‏.

‏‏ وهم يثبتون أنه مريد، وينكرون أن تكون له حكمة يريدها‏.

‏‏ وطائفة من المتفلسفة يثبتون عنايته وحكمته، وينكــرون إرادتــه‏.

‏‏ وكلاهمــا تناقض‏.

‏‏ وقد بُسِطَ الكلام على فســاد قول هؤلاء في غير هذا الموضــع، وأن منتهاهم جحد الحقائق‏.‏

فإن هذا يقول‏:‏ لو كان له حكمة يفعل لأجلها لكان يجب أن يريد الحكمة وينتفع بها، وهو منزه عن ذلك‏.

‏‏ وذاك يقول‏:‏ لو كان له إرادة لكان يفعل لجر منفعة؛ فإن الإرادة لا تعقل إلا كذلك‏.‏

وأرسطو وأتباعه يقولون‏:‏ لو فعل شيئًا لكان الفعل لغرض، وهو منزه عن ذلك‏.‏

فيقال لهؤلاء‏:‏ هذه الحوادث المشهودة، ألهـا محــدث أم لا‏؟‏ فــإن قالــوا‏:‏ لا، فهو غاية المكابرة‏.

‏‏ وإذا جوزوا حدوث الحوادث بلا محدث فتجويزهـا بمحـدث لا إرادة له أولى‏.

‏‏ وإن قالوا‏:‏ لها محدث، ثبت الفاعل‏.‏

وإذا ثبت الخالق المحدث فإما أن يفعل بإرادة أو بغير إرادة‏.‏

فإن قالوا‏:‏ يفعل بغير إرادة كان ذلك أيضًا مكابرة‏.

‏‏ فإن كل حركة في العالم إنما صدرت عن إرادة‏.‏

فإن الحركات إما طبعية، وإما قَسْريَّة،وإما إرادية؛ لأن مبدأ الحركة إما أن يكون من المتحرك، أو من سبب خارج‏.‏

وما كان منها فإما أن يكون مع الشعور، أو بدون الشعور‏.

‏‏ فما كان سببه من خارج فهو القسرى، وما كان سببه منها بلا شعور فهو الطبعي، وما كان مع الشعور فهو الإرادى‏.

‏‏ فالقسري تابع للقاسر، والذي يتحرك بطبعه، كالماء والهواء والأرض، هو ساكن في مركزه، لكن إذا خرج عن مركزه قسرًا طلب العودة إلى مركزه، فأصل حركته القسر‏.

‏‏ولم تبق حركة أصلية إلا الإرادية‏.

‏‏ فكل حركة في العالم فهي عن إرادة‏.

‏‏ فكيف تكون جميع الحوادث والحركات بلا إرادة‏؟‏ وأيضًا، فإذا جوزوا أن تحدث الحوادث العظيمة عن فاعل غير مريد فجواز ذلك عن فاعل مريد أولى‏.

‏‏ وإذا ثبت أنه مريد قيل‏:‏ إما أن يكون أرادها لحكمة،وإما أن يكون أرادها لغير حكمة‏.

‏‏ فإن قالوا لغير حكمة، كان مكابرة‏.‏

فإن الإرادة لا تعقل إلا إذا كان المريد قد فعل لحكمة يقصدها بالفعل‏.

‏‏ وأيضًا، فإذا جوزوا أن يكون فاعلًا مريدًا بلا حكمة فَكَوْنُه فاعلًا مريدًا لحكمة أولى بالجواز‏.

‏‏ وأما قولهم‏:‏ هذا لا يعقل إلا في حق من ينتفع، وذلك يوجب الحاجة، والله منزه عن ذلك‏.

‏‏ فـإن أرادوا أنه يوجب احتياجه إلى غيره أو شيء من مخلوقاته فهو ممنوع وباطل، فإن كل مـا سواه محتاج إليه من كل وجه‏.

‏‏وهو الصمد الغنى عن كل ما سواه وكل ما سواه محتاج إليه،وهو القيوم القائم بنفسه المقيم لكل ما سواه‏.‏ فكيف يكون محتاجًا إلى غيره‏؟‏ وإن أرادوا أنه تحصل له بالخلق حكمة هي أيضًا حاصلة بمشيئته فهذا لا محذور فيه، بل هو الحق‏.‏

وإذا قالوا‏:‏ الحكمة هي اللذة، قيل‏:‏ لفظ ‏[‏اللذة‏]‏ لم يرد به الشرع، وهو موهم ومجمل‏.‏ لكن جاء الشرع بأنه ‏[‏يحب‏]‏ ، و ‏[‏يرضى‏]‏، و‏[‏يفرح بتوبة التائبين‏]‏، ونحو ذلك‏.

‏‏ فإذا أريد ما دل عليه الشرع والعقل فهو حق‏.‏

وإن قالوا‏:‏ الحكمة إما أن تراد لنفسها أو لحكمة، قيل‏:‏ المرادات نوعان ما يراد لنفسه، وما يراد لغيره‏.‏

وقد يكون الشيء غاية وحكمة بالنسبة إلى مخلوق وهو مخلوق لحكمة أخرى‏.‏ فلابد أن ينتهي الأمر إلى حكمة يريدها الفاعل لذاتها‏.‏

والمعتزلة ومن وافقهم، كابن عقيل وغيره تثبت حكمة لا تعود إلى ذاته‏.‏

وأما السلف؛ فإنهم يثبتون حكمة تعود إليه، كما قد بين في غير هذا الموضع‏.

‏‏ والمقصود هنا ذكر قوله تعالى‏:‏ ‏{‏‏الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى}‏‏ ‏[‏الأعلى‏:‏2- 3‏]‏ والتسوية‏:‏ جعل الشيئين سواء، كما قال‏:‏ ‏{‏‏وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ}‏‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 19‏]‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏‏تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء‏} ‏[‏آل عمران‏:‏ 64‏]‏، و ‏{‏سَوَاء‏}‏ وسط؛ لأنه معتدل بين الجوانب‏.

‏‏ وذلك أنه لابد في الخلق والأمر من العدل‏.

‏‏ فلابد من التسوية بين المتماثلين، فإذا فضل أحدهما فسد المصنوع، كما في مصنوعات العباد إذا بنوا بنيانًا فلابد من التسوية بين الحيطان، إذ لو رفع حائط على حائط رفعًا كثيرًا فسد‏.

‏‏ ولابد من التسوية بين جذوع السقف، فلو كان بعض الجذوع قصيرًا عن الغاية وبعضها فوق الغاية فسد‏.‏ وكذلك إذا بنى صف فوق صف لابد من التسوية بين الصفوف، وكذلك الدرج المبنية‏.

‏‏ وكذلك إذا صنع لسقي الماء جداول و مساكب فلابد من العدل والتسوية فيها‏.‏

وكذلك إذا صنعت ملابس للآدميين فلابد من أن تكون مقدرة على أبدانهم لا تزيد ولا تنقص‏.‏

وكذلك ما يصنع من الطعام لابد أن تكون أخلاطـه على وجه الاعتدال، والنار التي تطبخه كذلك‏.‏

وكذلك السفن المصنوعة‏.

‏‏ ولهذا قال الله لداود‏:‏ ‏{‏‏وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ}‏‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 11‏]‏، أي‏:‏ لا تدق المسمار فيقلق، ولا تغلظه فيفصم، واجعله بقدر‏.‏

فإذا كان هذا في مصنوعات العباد وهي جزء من مصنوعات الرب فكيف بمخلوقاته العظيمة التي لا صنع فيها للعباد، كخلق الإنسان وسائر البهائم، وخلق النبات، وخلق السموات والأرض والملائكة‏.

‏‏ فالفلك الذي خَلَقه وجعله مستديرًا ما له من فروج، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏‏الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسًِا وَهُوَ حَسِيرٌ}‏‏ ‏[‏الملك‏:‏ 3- 4‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏‏وَالسَّمَاء ذَاتِ الْحُبُكِ}‏‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 7‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏‏أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ‏} ‏[‏ق‏:‏ 6‏]‏‏.‏

فهو سبحانه سواها كما سوى الشمس والقمر وغير ذلك من المخلوقات، فعدل بين أجزائها‏.‏

ولو كان أحد جانبي السماء داخلًا أو خارجًا لكان فيها فروج، وهي الفتوق والشقوق، ولم يكن سواها، كمن بنى قبة ولم يسوها‏.

‏‏ وكذلك لو جعل أحد جانبيها أطول أو أنقص، ونحو ذلك‏.

‏ فالعدل والتسوية لازم لجميع المخلوقات والمصنوعات‏.‏

فمتى لم تصنع بالعدل والتسوية بين المتماثلين وقع فيها الفساد‏.

‏ وهو سبحانه ‏{‏‏الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى}‏‏ ‏[‏الأعلى‏:‏ 2‏]‏‏.‏ قال أبو العالية في قوله‏:‏ ‏{‏‏خَلَقَ فَسَوَّى‏}‏‏ قال‏:‏ سوى خلقهن وهذا كما قـال تعالى‏:‏ ‏{‏‏فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ}‏‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 12‏]‏‏.

‏‏

___________________

المجلد السادس عشر

مجموع الفتاوي لابن تيمية