فصل عيادة المريض، وتلقينه الشهادة عند الوفاة

عبد الله بن عبد العزيز العقيل

  • التصنيفات: الحث على الطاعات -
السؤال: زرت قريبا لي مريضا، فوجدته قد حضرته الوفاة، فبقيت عنده إلى أن توفي، وعملت معه ما قدرت عليه، حسب معرفتي القاصرة، ولكني ارتبكت وفاتني كثير مما يعمل لمثله؛ لأن ذلك لم يمر علي قبل هذه المرة، فأحب من فضيلتكم أن توضحوا لنا ما ذكره العلماء عن هذه الأشياء لنستفيد.
الإجابة: زيارة المريض، تسمى عيادة المريض. وقد أحسنت أيها السائل في عيادة قريبك؛ لأن عيادة المريض المسلم سنة مؤكدة. وقيل: إنها فرض كفاية.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: الذي يقتضيه النص وجوب عيادة المريض (1)، وهي من حقوق المسلم على المسلم؛ ولهذا أمر بها الشارع، وحث عليها، ورغب فيها، بشرط كون المريض متمسكا بشعائر دينه غير مبتدع، ولا مجاهر بمعصية. وقد ورد فيها جملة أحاديث وآثار.

منها: حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خمس تجب للمسلم على أخيه: رد السلام، وتشميت العاطس، وإجابة الدعوة، وعيادة المريض، واتباع الجنازة" (متفق عليه) (2)، وفي لفظ: "حق المسلم على المسلم ست: إذا لقيته فسلم عليه، وإذا دعاك فأجبه،وإذا استنصحك فانصح له، وإذا عطس فحمد الله فشمته، وإذا مرض فعده، وإذا مات فاتبعه" (3).

والعيادة مشروعة، سواء كان المريض في المستشفى، أو في بيته، أو في محل آخر. ولا تتقيد بمرض معين، بل تشرع في كل ما يسمى مرضا، حتى رمد العين ونحوه.

وهناك أشياء تشرع للعائد، وأشياء تشرع للمريض. فمن آداب الذي يعود المريض: أن تكون عيادته غبا، وأن لا يطيل الجلوس عنده؛ خوفا من ضجره وملله. وإذا دخل عليه وسلم فيسأله عن حاله، ويقول: "لا بأس عليك، طهور إن شاء الله". ويدعو له بالشفاء والعافية؛ ففيه تطييب لنفس المريض، وإدخال للسرور عليه، كما ذكره الأصحاب رحمهم الله.

وينبغي للذي يعود المريض أن ينتهز الفرصة فيذكره التوبة، ويشير عليه أن يكتب وصيته، ولو كان مرضه خفيفًا غير مخوف.

ولا بأس أن يضع العائد يده على المريض وأن يرقيه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان إذا عاد بعض أهله من مرض يمسح بيده اليمنى. ويقول في دعائه: "أذهب الباس، رب الناس، واشفِ أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاءً لا يغادر سقما" (4). ويقول: "أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يشفيك ويعافيك" (سبع مرات)؛ لحديث ابن عباس. رواه أحمد وأبو داود وغيرهما (5).

ويستحب أن يقرأ عنده الفاتحة، وسورة الإخلاص، والمعوذتين؛ لما ورد في ذلك (6).

وصح أن جبريل عليه السلام عاد النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "باسم الله أرقيك من كل شيء يؤذيك، من شر كل نفس أو عين حاسد، الله يشفيك، باسم الله أرقيك" (7)، وغير ذلك مما ورد.

وأما الأشياء التي تشرع للمريض: فيجوز له أن يخبر بما يجده من الألم والوجع، سواء ذكره لطبيب، أو غيره ممن يعوده ويسأله عن حاله، لكن لا على طريق التشكي، بل على طريق الإخبار بعد أن يحمد الله فيقول: لله الحمد أحس بكذا، والحمد لله أجد كذا، ونحو ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة: "بل أنا وا رأساه" (8)، ويصبر ويحتسب؛ لقوله تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ} (9)، والصبر الجميل صبر بلا شكوى. والشكوى المذمومة هي الشكوى إلى المخلوق، كما قيل:
وإذا شكوت إلى ابن آدم إنما تشكو *** الرحيم إلى الذي لا يرحم

وأما الشكوى إلى الخالق فليست مذمومة، ولا تنافي الصبر الجميل. ومن الشكوى إلى الله قول يعقوب عليه السلام: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى الله} (10)، وقول أيوب عليه السلام: {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} (11).

ويكره للمريض الأنين؛ لأنه يترجم عن الشكوى، ما لم يغلبه فيكون معذورا. ولا يجوز له تمني الموت لضر نزل به؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: "لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به، فإن كان لا بد فاعلا فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرا لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي" (متفق عليه) (12). ولأن ذلك يدل على الجزع المذموم، ولأنه لا يعلم هل ينتقل إلى ما هو خير له أو بالعكس، والعياذ بالله، ولأن آخر عمر المرء لا قيمة له إلا إذا استعمله فيما يرضي ربه.

أما إذا كان تمني الموت لخشية ضرر في دينه. فقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضني إليك غير مفتون" (13).

فإذا حضرته الوفاة، وبدأ به النزع، فيتولاه أرفق أهله، وأعرفهم بمداراته، وأتقاهم لله، فيتعاهد حلقه بالماء أو شيء من الشراب، ويندي شفتيه بقطنة؛ لأن ذلك يطفئ ما نزل به من الشدة، ويسهل عليه النطق بالشهادة، ويلقنه: لا إله إلا الله، مرة. وفي الحديث: "لقنوا موتاكم: لا إله إلا الله" (14)، فإذا قالها المريض اكتفى بها، وإن لم يقلها أو تكلم بعدها بكلام آخر أعادها عليه الذي يلقنه، مرة إلى ثلاث. ويكون ذلك بلطف ومداراة؛ لأن ذلك مطلوب في كل حال فهنا أولى.

قال بعضهم: يلقنه غير الورثة؛ خشية أن يظن أن قصدهم استعجال موته. ذكره الأصحاب رحمهم الله. ويوجه إلى القبلة سواء كان على جنبه الأيمن، أو مستلقيا على ظهره، وإذا كان على ظهره فتكون رجلاه إلى القبلة، ويرفع رأسه قليلا حتى يكون في وجهه مستقبل القبلة. ويستمر معه على هذه الحالة: من تندية شفتيه، وبلِّ حلقه، وتلقينه لا إله إلا الله، والرفق به. فإذا تحقق موته فيغمض عينيه؛ لأن البصر يتبع الروح إذا خرجت، فإذا ترك على حاله حتى يبرد تشوه منظره. ويشد لَحييه؛ حتى لا يدخله الهوام أو يدخله الماء وقت تغسيله. ولا يتكلم من حضره إلا بخير؛ فإن الملائكة تؤمن على ما يقولون. وإن تسهل تليين مفاصله لينها، وإلا فلا. وصفة تليين مفاصله: أن يلصق ذراعيه بعضديه، ثم يعيدهما، ويلصق ساقيه بفخذيه، ويلصق فخذيه ببطنه، ثم يعيدهما، ويكون ذلك قبل قسوتها؛ لتبقى أعضاؤه لينة، ويسهل على الغاسل تقليبها عند غسله.

وتخلع ثيابه كلها؛ لئلا يحمى جسده فيسرع إليه الفساد ثم يُسجَّى بثوب واسع يستره. ويجعل على بطنه شيء يثقله نسبيا؛ لئلا ينتفخ بطنه. ويوضع على النعش، أو على سرير؛ ليبعد عن الهوام، ويرتفع عن نداوة الأرض، ويكون متجها إلى القبلة؛ وذلك بجعل رجليه إلى القبلة -إن كان مستلقيا- فإن كان على جنبه الأيمن فيوجَّه وجْهُه إلى القبلة. ويكون رجلاه أخفض من رأسه؛ لينحدر عنه ماء تغسيله.

ويسن الإسراع في تجهيزه، إن مات غير فجأة. ولا بأس أن ينتظر به من يحضره من أقاربه، ومن يصلون عليه ما لم يُخش عليه، أو يشق على الحاضرين. ويجب الإسراع في قضاء دَيْنه وإبراء ذِمته. والله المستعان.

___________________________________________

1 - انظر (الاختيارات) ص (85).
2 - أخرجه البخاري (1240)، ومسلم (2162) واللفظ له.
3 - أخرجه مسلم (2162)، وأحمد (2/ 372، 412) وغيرهما.
4 - البخاري (5750)، ومسلم (2191) عن عائشة.
5 - أحمد (1/239، 243)، وأبو داود (3106)، والترمذي (2083) وقال: حسن غريب، والنسائي في (اليوم والليلة) (1045) من حديث المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، مرفوعًا، به.
6 - خبر نفثه صلى الله عليه وسلم بالمعوذات في المرض الذي مات فيه عند البخاري (5735)، ومسلم (2192) من حديث عائشة، والمعوذات تشمل سورة الإخلاص. وذِكْر المعوذتين عند الترمذي (2058) وقال: حسن غريب، والنسائي (8/271)، وابن ماجه (3511) عن أبي سعيد. وحديث الرقية بفاتحة الكتاب عن أبي سعيد، رواه البخاري (2276)، ومسلم (2201).
7 - أحمد (3/ 28، 56)، ومسلم (2186)، والترمذي (972) وقال: حسن صحيح. والنسائي في (الكبرى) (4/ 393)، وابن ماجه (3523).
8 - أخرجه البخاري (5666).
9 - سورة الزمر: الآية (10).
10 - سورة يوسف: الآية (86).
11 - سورة الأنبياء: الآية (83).
12 - أخرجه البخاري (5671)، ومسلم (2680) من حديث أنس.
13 - أخرجه الترمذي (3235) من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، سألت محمد بن إسماعيل عن هذا الحديث، فقال: هذا حديث حسن صحيح. والحديث قد أخرجه أحمد (1/368)، والترمذي (3233)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما وفيه انقطاع.
14 - أخرجه مسلم (916)، (917) وغيره.