عدم الاختلاط، والثبات على الحق

خالد عبد المنعم الرفاعي

  • التصنيفات: العلاقة بين الجنسين -
السؤال:

منَّ اللهُ عليَّ بالالتِزام وارتِداء النِّقاب، والحمدُ لله على كلِّ شيء، ويبْقى موقِفي مع النَّاس والأقارب، وما ألاقيه من هَمٍّ وكرْب معهم، وعدم تقبُّلهم ما أنا عليه الآن من عدَم اختلاط، والتِزام بما أمرنا اللهُ به من عفَّة وطهارة، ونقاء وستر.

فأجِد مَن حولي غضابًا لعدم خروجي في أي مكانٍ إلا للضَّرورة، وأجِد بعضَهم - كأبناء عمَّتي - وقد بدا عليْهِم علامات عدَم الرضا لما أنا عليْه؛ لأنِّي لا أخرج من حُجْرَتي عندما يأْتون إليْنا، ومثل هذه الأقاويل الَّتي لا حصْر لها: "أنتم مثل الإخوة".

قل لي بربِّك: كيف هذا وقدْ علمت أنَّ كلَّ ما كنَّا نفعلُه يُغْضِب الله منَّا؟! والآن وقد علِمْتُ أنَّ هذا هو الصَّواب، كيف لي أن أعود للخطأ مرَّة أخرى؟!

ولكن ما يُصيبُني بالضِّيق أكثر أنَّ هذا لا يُرْضِي أبي وأمِّي، مع العلم أنَّ أبي أحْسَبُه من الملتزِمين بأمور الدِّين، ولكنَّه يقول لي: "خلاص، تعوَّدوا على هذا، ولو قلت لهم غير ذلك سيغضبون"، أقصد من أجل السَّلام مثلاً، أو حضورهم في غيْر وجود أبي في المنزل بِحجَّة أنَّهم تربَّوا هُنا، أو أن أمِّي مثلُ أُمِّهم.

والآن وقد ضاق صدْري، كيف لي أن أفعل في ظلِّ هذه الظُّروف، فقُل لي بالله عليْك: ماذا أفعل؟ وجِّهْني للطَّريق الصَّحيح وما يُحبُّه الله ويرضاه؛ فأنت أعلم منِّي فأفتِني بما أجهل. وجزاكم الله خيرًا كثيرًا في الدُّنيا والآخرة.

الإجابة:

الحمدُ لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصَحْبِه ومَن والاه، أمَّا بعدُ:

فإن من سنن الله تعالى في خلقِه ابتلاء عباده المؤمنين، وامتحان صبرِهم وعبوديَّتهم؛ قال تعالى: {الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت: 1 - 3]، فالدُّنيا للمؤمن ليستْ نِهاية المطاف، وإنَّما هي دارٌ لتحْصيل الأجْر الجزيل لِمَن صبر فيها؛ قال الله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10].

وقد ربَّى النَّبيُّ الصَّحابةَ الكِرام - ومن اليوم الأوَّل في الدَّعوة - على أنَّ الطَّريقَ شاقٌّ؛ ولكنَّ نهايتَه الرَّاحة الأبديَّة، فالعاقل من يتحمَّل ألَمَ ساعة لراحة سرمديَّة.

وما تذكُرُه السَّائِلة الكريمة صعبٌ شاقٌّ على النَّفس بلا شكّ، ولكن مَن يصبر يعوِّضه الله خيرًا؛ قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنعام: 165]، وقال: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [هود: 7]، وقال سبحانه: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} [الملك: 1، 2]، وقال سبحانَه: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 142]، وأعظم الجهادِ جهادُ النَّفس، وأعظمُ الصَّبر الصبر على الفِتْنة والباطل وأهلِه، وعلى فقْدِ النَّصير الَّذي يسانده ويدفع عنْه.

قال الأستاذ "سيد قطب" في (الظلال): "إنَّ الإيمان أمانةُ الله في الأرض، لا يحملُها إلاَّ مَن هُم لها أهل، وفيهم على حملِها قدرة، وفي قلوبهم تجرُّد لها وإخلاص، وإلاَّ الَّذين يؤْثرونَها على الرَّاحة والدَّعة، وعلى الأمْن والسَّلامة، وعلى المتاع والإغْراء، وإنَّها لأمانة الخلافة في الأرْض، وقيادة النَّاس إلى طريق الله، وتَحقيق كلِمته في عالم الحياة، فهِي أمانة كريمة، وهي أمانة ثقيلة، وهي من أمْر الله يضطلِع بها النَّاس؛ ومن ثَمَّ تَحتاج إلى طراز خاصٍّ يَصبر على الابتلاء، فهُناك فتن كثيرة في صُوَر شتَّى: هُناك فتنة الأهل والأحبَّاء، وهُنالك فتنة الغرْبة في البيئة والاستِيحاش بالعقيدة، حين ينظُر المؤمِن فيرى كلَّ ما حوْلَه وكلَّ مَن حولَه غارقًا في تيَّار الضَّلالة، وهو وحْده موحشٌ غريب طريد.

وهُنالك الفتنة الكبرى، أكبر من هذا كلِّه وأعنف: فتنة النَّفس والشَّهوة، وجاذبيَّة الأرض، وثقلة اللَّحم والدَّم، والرَّغبة في المتاع والسُّلْطان، أو في الدَّعة والاطمِئْنان، وصعوبة الاستِقامة على صِراط الإيمان والاستِواء على مُرْتَقاه، مع المعوِّقات والمثبِّطات في أعْماق النَّفس، وفي ملابسات الحياة، وفي منطق البيئة، وفي تصوُّرات أهل الزَّمان.

فإذا طال الأمد، وأبطأ نصرُ الله، كانت الفِتْنة أشدَّ وأقْسى، وكان الابتِلاء أشدَّ وأعنف، ولَم يثبُت إلاَّ مَن عصم الله، وهؤلاء همُ الَّذين يحقِّقون في أنفُسِهم حقيقة الإيمان، ويؤْتَمنون على تلك الأمانة الكبرى: أمانة السَّماء في الأرض، وأمانة الله في ضَمير الإنسان.

وما بالله - حاشا لله - أن يعذِّب المؤمنين بالابتلاء، وأن يؤذِيَهم بالفتنة، ولكنَّه الإعداد الحقيقي لتحمُّل الأمانة، فهي في حاجة إلى إعدادٍ خاصٍّ لا يتمُّ إلاَّ بالمعاناة العمليَّة للمشاقّ، وإلاَّ بالاستِعلاء الحقيقي على الشَّهوات، وإلاَّ بالصَّبر الحقيقي على الآلام، وإلاَّ بالثِّقة الحقيقيَّة في نصْر الله أو في ثوابه، على الرَّغْم من طول الفتنة وشدَّة الابتلاء.

والنَّفس تصْهرُها الشَّدائد، فتنفي عنها الخبث، وتستجيش كامن قواها المذْخورة، فتستيْقِظ وتتجمَّع، وتطْرقها بعنف وشدَّة، فيشتدّ عودُها ويصلب ويصقل، وكذلك تفعل الشَّدائد بالجماعات، فلا يبقى صامِدًا إلاَّ أصْلبها عودًا وأقْواها طبيعة، وأشدُّها اتصالاً بالله وثقة فيما عنده من الحسنَييْن: النصر أو الأجر، وهؤلاء هم الذين يسلَّمون الراية في النهاية، مؤتَمنين عليها بعد الاستِعْداد والاختبار، وما يشكُّ مؤمنٌ في وعد الله، فإن أبطَأَ فلِحِكْمة مقدَّرة، فيها الخير للإيمان وأهله، وليس أحدٌ بأغْيَرَ على الحقِّ وأهله من الله، وحسْب المؤمنين الَّذين تُصيبهم الفتنة، ويقع عليهم البلاء، أن يكونوا هم المخْتارين من الله، ليكونوا أُمَناء على حقِّ الله، وأن يشْهد الله لهم بأنَّ في دينهم صلابةً، فهو يختارهم للابتلاء". اهـ. موضع الشَّاهد منه.