قطيعة الرحم

خالد عبد المنعم الرفاعي

  • التصنيفات: الآداب والأخلاق -
السؤال:

مَن هو قاطعُ الرَّحِم بالتَّحديد؟ وما هي واجبات المُسلم لوَصْلِ الرَّحِم؟
لي خالة، وبيني وبينَها مشاكل، في كلِّ مرَّة تَشتُمني وتسبُّني وتتلفَّظ بألفاظ غيرِ أخلاقية، وأنا مسلم -والحمد لله- أتخلَّق بأخلاق المسلمين، وفي كل مرة أسكتُ عمَّا أسمع، وتكرَّر هذا للمرة الثَّالثة على الأقل، وأنا لا أستطيع أن أتَحمَّل مثل هذه الشتائم؛ لأني بطبعي إنسان، ولي كرامتي وأحاوِل الصبر، وأتَمنَّى من الله الصَّبر الدَّائم على هذه الشتائم، لكن سؤالي هو: أني لا أستطيعُ زيارَتَها ولا الاتِّصال بِها؛ لأنَّ قلبي لا يقدِر على تحمُّل رؤيتها ولا سماع صوتِها، فأريد أن أعرف: هل بِسبب شتائِمها ومسبَّتها وبغضها لي، هل أكون أنا من قطَّاع الرَّحِم؟ مع العلم أني أتَّصل بِجميع الخالات وأودُّهم؛ إلا هي بعد حدوث ما ذكرت.
ملاحظة: أنا أعرف أنَّ زيارتي لها هي زيادة في عمَل الخير -والله أعلم- لكن السؤال: كواجبٍ شرعي، هل سقط مني أو لا؟

الإجابة:

الحمدُ لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصَحْبِه ومَن والاه، أمَّا بعدُ:

فقاطع الرَّحم: هو الذي لا يصِلُ رحِمه، سواء بالإساءة إلى الرَّحِم أو ترْك الإحْسان، أو بالهجْر والقطيعة، فالقاطع ضدّ المحسن.

قال القاضي عياض: "صِلَةُ الرَّحِمِ درجاتٌ، بعضُها أرفع من بعض، وأدْناها ترْك المُهاجَرة، وصلتها بالكلام ولو بالسَّلام، ويختلف ذلك باختِلاف القُدرة والحاجة، فمِنْها واجبٌ ومنها مستحبٌّ، فلو وصل بعضَ الصِّلة ولم يصِل غايتَها، لم يُسَمَّ قاطعًا، ولو قصَّر عما يقدِر عليه وينبغي له، لم يسمَّ واصلاً".
4وقال القرطبي: "الرَّحم التي تُوصل: الرَّحم عامَّة وخاصَّة؛ فالعامَّة رحم الدِّين، وتَجب صلتُها بالتَّوادِّ والتَّناصح، والعدل والإنصاف، والقيام بالحقوق الواجبة والمستحبَّة، والرَّحِم الخاصَّة تزيد بالنَّفقة على القريب، وتفقُّد حالِه، والتَّغافُل عن زلَّته.

واعلم: أنَّ صلةَ الرَّحم واجبة، وقطيعتها من الكبائر الموجبة للَّعْن والطَّرْد من رحْمة الله؛ لقولِه تعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ . أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد:22 - 23].

وفي الحديث الذي رواهُ أبو هريرةَ رضي الله عنه: أنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: "إنَّ الله خلَقَ الخلْق، حتَّى إذا فرغَ منهُم، قامَتِ الرَّحم، فقالتْ: هذا مقام العائِذ من القطيعة، قال: نعم، أما ترضَين أن أصِل مَن وصلك، وأقطع مَن قطعك؟ قالت: بلى، قال: فذاك لكِ"، ثُمَّ قال رسول الله صلى الله عليه وسلَّم: "اقرؤوا إنْ شئتم: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ . أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ}" (متَّفق عليه، واللفظ لمسلم).

وعن جُبير بن مطعم رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: "لا يدخُل الجنَّة قاطعٌ" - يعني قاطع رحِم (متَّفق عليْه).

وعن ابن الزبيْر رضي الله عنه: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلَّم قال: "لا يحلُّ لمسلمٍ أن يهجُر أخاهُ فوق ثلاثِ ليال" (رواه البخاري).

فعلى السَّائل احتساب أجْرِ صلة خالتِه عند الله عزَّ وجلَّ ولا يُثنيه ما يلقاه من جفاءٍ وسوءِ معاملة، وإن كان شاقًّا على نفسه؛ فإن الصحب الكرام قد بايعوا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بيعة تلزم كل مكلف يجيء بعدهم، على السمع والطاعة، في المنشط والمكره، وفي العسر واليسر؛ يعني فيما يحبون وفيما يكرهون، فليس لتحملك خلق خالتك مذلَّة، ولا إهانة لكرامتك؛ بل إن فعلت ذلك تواضعًا لله تعالى وابتغاءً للمثوبة عنده، فسيكونُ ذلك رفعًا لقدرك عند الله وعند الناس؛ فقد ثبتَ في "صحيح مسلم"، عن أبي هريرة رضي الله عنه: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلَّم - قال: "ما نقصتْ صدقةٌ من مال، وما زادَ الله عبدًا بعفْوٍ إلا عزًّا، وما تواضَع أحدٌ لله إلا رفعه".

وعن أبي هُريْرة رضي الله عنْه: أنَّ رجُلاً قال: يا رسول الله، إنَّ لي قرابةً أصلِهُم ويقطعونني، وأُحْسِن إليْهِم ويسيئون إليَّ، وأحلُم عليهم ويَجهلون عليَّ، فقال: "إن كنتَ كما قلتَ، فكأنَّما تُسِفُّهم المَلَّ، ولا يزالُ معك من الله ظهيرٌ عليْهم، ما دُمْتَ على ذلك" (رواه مسلم).

قال النووي في "شرح مسلم": "ومعناه: كأنَّما تُطْعِمُهم الرَّماد الحارَّ، وهو تشبيهٌ لِما يلحقُهم من الألم بِما يَلْحق آكلَ الرَّماد الحارِّ من الألم، ولا شيء على هذا المُحسِن، بل ينالُهم الإثم العظيم في قطيعتِه، وإدخالهم الأذَى عليه، وقيل: معناه: إنَّك بالإحسان إليْهم تُخزيهم وتحقرهُم في أنفسِهم؛ لكثرة إحسانِك وقبيح فعْلِهم، من الخزي والحقارة عند أنفُسِهم، كمن يسفُّ الملَّ، وقيل: ذلك الذي يأكلونه من إحْسانِك كالملِّ يُحرق أحشاءَهم".

ولعلَّه باستِمرارِك في دفْع الإساءة بالإحسان والصِّلة يشرحُ الله صدْرَها للحقِّ؛ كما قال تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ . وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت: 34، 35].

هذا؛ ولتعلمْ: أنَّ لقطيعة الرَّحم آثارًا سيِّئة على العبد، منها:
- أنَّها من الإفساد في الأرض؛ قال الله تعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} [محمد: 22].
- لا يدخلُ الجنَّةَ قاطع رحِم؛ كما تقدم في الحديث.
- قاطعُ الرَّحم لا يُقبَل عملُه، وقد جاء التَّصريح بذلِك في حديثٍ أخرجَه أحمدُ في المسنَد، ولفظُه: "إنَّ أعمال بني آدم تُعْرَض كلَّ خَميسٍ ليلةَ جُمعة، فلا يُقْبَل عملُ قاطعِ رحمٍ".

قال ابنُ حجرٍ الهيتَمي في كتابِه "الزَّواجر" ما نصُّه: "إنَّ القاطع لا يدخُل الجنَّة، وإنه ما من ذنبٍ أجدر أن يعجّل عقوبته من ذنبِه، وأنَّه لا يقبل عمله".

وعليه؛ فوصْل خالتك لم يسقُطْ عنْك بسبها إياك، والواجب عليْك أن تصلها، فإن لم تستطِع الذَّهابَ إليْها -وإن كان هو الأفضَل- فيكفيك في ذلك أن تتَّصل بِها، وتسلِّم عليْها عبر الهاتِف، ولا حرج عليْك بعد ذلك، ولتبحث عن شخص عاقل من العائلة أو من خارجها لينصحها،، والله أعلم.