التصرف في مال الغير بغير إذن

حسام الدين عفانه

  • التصنيفات: فقه المعاملات -
السؤال:

ورثت قطعة أرض من والدي، وحاول زوجي أن يستولي عليها ليبني عليها محلات تجارية ورفضت ذلك، إلا أنني فوجئت بأن زوجي قد باع الأرض بدون موافقتي وتصرف في ثمنها، فما حكم هذا البيع؟

الإجابة:

من المقرر شرعاً أن للمرأة ذمة مالية مستقلة عن زوجها فلها أن تتملك وأن تتصرف في ملكها، ولا يتوقف ذلك على إذن زوجها؛ قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: "للمرأة الرشيدة التصرف في مالها كله بالتبرع والمعاوضة. وهذا إحدى الروايتين عن أحمد، وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي وابن المنذر..."، ثم قال ابن قدامة مستدلاً لذلك: "ولنا قوله تعالى: {فَإِنْ ءَانَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} وهو ظاهر في فك الحجر عنهم وإطلاقهم في التصرف. وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يا معشر النساء تصدقن ولو من حليكن"، وأنهن تصدقن فقبل صدقتهن ولم يسأل ولم يستفصل. وأتته زينب امرأة عبد الله، وامرأة أخرى اسمها زينب، فسألته عن الصدقة: هل يجزيهن أن يتصدقن على أزواجهن وأيتام لهن؟ فقال: نعم ولم يذكر لهن هذا الشرط. ولأن من وجب دفع ماله إليه لرشده جاز له التصرف فيه من غير إذن كالغلام، ولأن المرأة من أهل التصرف، ولا حق لزوجها في مالها فلم يملك الحجر عليها في التصرف بجميعه..." (المغني: 4/348-349). وقد قرر العلماء أنه لا يجوز للزوج أن يتصرف في مال زوجته دون رضاها وموافقتها، يقـول الله تـعالى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} [النساء: 4].

ومن القواعد المقررة شرعاً أنه لا يجوز أخذ مال المسلم -ويدخل في ذلك المسلمة- إلا بإذنه، ويدل على ذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29]. ويدل على ذلك أيضاً قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه" (رواه مسلم)، وقوله صلى الله عليه وسلم: "إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا" (رواه البخاري ومسلم). وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس" (رواه أحمد والبيهقي والطبراني والحاكم وابن حبان وصححاه، وقال العلامة الألباني صحيح، إرواء الغليل 5/279). وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل لامرئ من مال أخيه إلا ما أعطاه عن طيب نفس" (رواه البيهقي بإسناد صحيح)، وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يحلبن أحدٌ ماشية أحدٍ إلا بإذنه، أيحب أحدكم أن تؤتى مشرُبته فينتقل طعامه، وإنما تخزن لهم ضروع مواشيهم أطعمتهم، فلا يحلبن أحدٌ ماشية أحدٍ إلا بإذنه" (رواه البخاري ومسلم)، والمشرُبة بضم الراء: الغرفة. قال الإمام النووي: "ومعنى الحديث أنه صلى الله عليه وسلم شبه اللبن في الضرع بالطعام المخزن المحفوظ في الخزانة في أنه لا يحل أخذه بغير إذنه، وفي الحديث فوائد منها تحريم أخذ مال الإنسان بغير إذنه والأكل منه والتصرف فيه، وأنه لا فرق بين اللبن وغيره وسواء المحتاج وغيره إلا المضطر... فيأكل الطعام للضرورة ويلزمه بدل عـنـدنـا وعند الـجـمـهـور" (شرح صحيح مسلم 4/391). وقال الحافظ ابن عبد البر: "في الحديث النهي عن أن يأخذ المسلم للمسلم شيئاً إلا بإذنه، وإنما خص اللبن بالذكر لتساهل الناس فيه فنبه به على ما هو أولى منه" (فتح الباري 6/14).

إذا تقرر هذا فإن ما قام به الزوج من بيع أرض زوجته بغير إذنها، يسمى بيع الفضولي عند الفقهاء، ويطلق الفضولي على من يتصرف في حق الغير بلا إذنٍ شرعي، وذلك لكون تصرفه صادراً من غير ملكٍ ولا وكالةٍ ولا ولاية، (انظر الموسوعة الفقهية الكويتية 32/171). وقد ذهب جمهور الفقهاء الحنفية والمالكية، والشافعي في قوله القديم، وهو أحد قوليه في الجديد، وأحمد في إحدى الروايتين عنه، إلى أن البيع صحيح إلا أنه موقوف على إجازة المالك. وذهب الشافعي في القول الثاني من الجديد، وأحمد في الرواية الأخرى عنه، إلى أن البيع باطل. قال الإمام النووي: "سبق أن شروط المبيع خمسة: منها أن يكون مملوكاً لمن يقع العقد له، فإن باشر العقد لنفسه فشرطه كونه مالكاً للعين، وإن باشره لغيره بولاية أو وكالة، فشرطه أن يكون لذلك الغير، فلو باع مال غيره بغير إذن ولا ولاية، فقولان، الصحيح أن العقد باطل، وهذا نصه في الجديد، وبه قطع المصنف (أبو إسحاق الشيرازي) وجماهير العراقيين وكثيرون أو الأكثرون من الخراسانيين لما ذكره المصنف... والقول الثاني وهو القديم أنه ينعقد موقوفاً على إجازة المالك، إن أجازه صح البيع وإلا لغى..."، ثم قال الإمام النووي: "فرع في مذاهب العلماء في تصرف الفضولي بالبيع وغيره في مال غيره بغير إذنه، قد ذكرنا أن مذهبنا المشهور بطلانه، ولا يقف على الإجازة، وكذا الوقف والنكاح وسائر العقود، وبهذا قال أبو ثور وابن المنذر وأحمد في أصح الروايتين عنه. وقال مالك: يقف البيع والشراء والنكاح على الإجازة، فان أجازه من عقد له صح وإلا بطل، وقال أبو حنيفة: إيجاب النكاح وقبوله يقفان على الإجازة، ويقف البيع على الإجازة، ولا يقف الشراء، وأوقفه اسحق بن راهويه في البيع" (المجموع 9/259). والراجح من أقوال أهل العلم في بيع الفضولي أنه صحيحٌ، ولكنه موقوفٌ على إجازة المالك، ويدل لذلك ما ورد في الحديث الذي رواه الإمام البخاري بإسناده عن شبيب بن غرقدة، قال: "سمعت الحي يحدثون عن عروة أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه ديناراً يشتري له به شاة، فاشترى له به شاتين، فباع إحداهما بدينار، وجاءه بدينار وشاة، فدعا له بالبركة في بيعه، وكان لو اشترى التراب أربح فيه". [فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم أجاز هذا البيع، ولو كان باطلاً لرده، وأنكر على من صدر منه، وأيضاً فإن هذا تصرف تمليك، وقد صدر من أهله فوجب القول بانعقاده، إذ لا ضرر فيه للمالك مع تخييره، بل فيه نفعه، حيث يكفي مؤنة طلب المشتري وقرار الثمن (أي المطالبة) وغيره، وفيه نفع العاقد لصون كلامه عن الإلغاء، وفيه نفع المشتري لأنه أقدم عليه طائعاً، فثبتت القدرة الشرعية تحصيلا لهذه الوجوه] (الموسوعة الفقهية الكويتية 9/136). ويدل على جواز بيع الفضولي أيضاً حديث ابن عمر في قصة الثلاثة أصحاب الغار، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {قال الثالث: اللهم استأجرت أجراء فأعطيتهم أجرهم غير رجل واحد ترك الذي له وذهب، فثمَّرتُ أجره حتى كثرت منه الأموال، فجاءني بعد حين فقال: يا عبد الله أدِ إليَّ أجري، فقلت: كل ما ترى من أجرك من الإبل والبقر والغنم والرقيق، فقال: يا عبد الله لا تستهزئ بي، فقلت لا أستهزئ، فأخذه كله فاستاقه فلم يترك منه شيئاً} (رواه البخاري ومسلم)، وغير ذلك من الأدلة.

وبناءً على ما سبق فإن بيع الأرض الذي عقده الزوج، يعتبر عقداً موقوفاً على إجازة الزوجة، فإن أجازته جاز، وإن فسخته فُسخ، قال الزيلعي الحنفي: "ومن باع ملك غيره فللمالك أن يفسخه ويجيزه إن بقي العاقدان والمعقود عليه وله وبه لو عرضاً؛ أي للمالك أن يجيز العقد بشرط أن يبقى المتعاقدان والمعقود عليه والمعقود له وهو المالك بحالهم، والأصل فيه أن كل تصرف صدر من الفضولي وله مجيز حال وقوعه انعقد موقوفاً على الإجازة عندنا وإن لم يكن له مجيز حالة العقد لا يتوقف ويقع باطلاً" (تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق 4/102-103). وجاء في المادة 378 من مجلة الأحكام العدلية: "بيع الفضولي إذا أجازه صاحب المال، أو وكيله، أو وصيه، أو وليه نفذ وإلا انفسخ إلا أنه يشترط لصحة الإجازة أن يكون كل من البائع والمشتري والمجيز والمبيع قائماً وإلا فلا تصح الإجازة". وجاء في الموسوعة الفقهية الكويتية: "اتفق الفقهاء على أن من شروط البيع: أن يكون المبيع مملوكاً للبائع أو له عليه ولاية أو وكالة تجيز تصرفه فيه واتفقوا أيضا على صحة بيع الفضولي، إذا كان المالك حاضراً وأجاز البيع، لأن الفضولي حينئذ يكون كالوكيل. واتفقوا أيضا على عدم صحة بيع الفضولي إذا كان المالك غير أهل للإجازة، كما إذا كان صبياً وقت البيع" (الموسوعة الفقهية الكويتية 9/117). ويدل لما قرره الفقهاء أن من شروط صحة البيع أن يكون المبيع مملوكاً للبائع، ما ورد في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا طلاق إلا فيما تملك، ولا عتق إلا فيما تملك، ولا بيع إلا فيما تملك" (رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجة وغيرهم، وصححه العلامة الألباني في إرواء الغليل 6/173).

وبناءً على ما سبق فإن أجازت الزوجة تصرف زوجها في أرضها فإن ثمن الأرض من حقها وحدها، تتصرف فيه كما شاءت، وما قام به الزوج من التصرف في ثمن أرض زوجته بدون إذنها، فهو تصرفٌ باطلٌ شرعاً، ويلزمه أن يرد المال إليها، وإن لم يفعل فهو من باب أكل أموال الناس بالباطل، وقد سبقت النصوص الشرعية في تحريمه. وأما إن فسخت الزوجة تصرف زوجها في بيع الأرض، فهو ملزم شرعاً أن يرد المال إلى المشتري وتبقى الأرض للزوجة. وخلاصة الأمر أن الإسلام قد قرر ذمةً ماليةً مستقلةً للزوجة، ولها أن تتملك وأن تتصرف في ملكها كما تشاء، ولا يجوز لزوجها أن يمنعها من ذلك، وأن ما قام به زوج السائلة من بيع أرضها بدون إذنها، يعتبر تصرفاً موقوفاً على إجازتها على الراجح من أقوال أهل العلم، فإن أجازته جاز، وكان ثمن الأرض من حقها وحدها، وإن فسخته فُسخ ويلزم الزوج بإرجاع المال للمشتري.

تاريخ الفتوى: 20-8-2009.