إبطال حكم المحكمين

حسام الدين عفانه

  • التصنيفات: فقه المعاملات -
السؤال:

كنت شريكاً مع أحد الأشخاص في شركة تجارية ثم حصل نزاع بيننا على مبلغ كبير من المال، فاتفقنا على اللجوء إلى التحكيم، فاختار كل واحدٍ منا محكماً، وقدمنا حججنا مكتوبة للمحكمين، ولكن المحكمين لم يستمعا لنا، ولم يقبل المحكان أن أطلع على حجة خصمي، ولم يقبلا أن أطلع على كشف الحساب الذي قدمه خصمي، ثم أصدرا الحكم وألزماني بتنفيذه، مع أن الحكم جائر في حقي، فهل يجوز نقض حكم المحكمين؟

الإجابة:

التحكيم بين الناس في الخصومات مشروع بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وثابت عن الصحابة والتابعين. فمن كتاب الله قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقْ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} [النساء: 35]، وهذه الآية نص صريح في إثبات التحكيم كما قال الإمام القرطبي في تفسيرها، (تفسير القرطبي 5/179). ومن السنة النبوية ما رواه البخاري في صحيحه في قصة تحكيم سعد بن معاذ رضي الله عنه في يهود بني قريظة، وقد رضي الرسول صلى الله عليه وسلم بسعدٍ رضي الله عنه حكماً. وقد وقعت حوادث كثيرة في زمن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يحكّمون فيها بين المتخاصمين.

إذا تقرر هذا فإن جمهور أهل العلم من الحنفية والمالكية والشافعية في القول المعتمد عندهم والحنابلة وهو قول الظاهرية، ونقل عن جماعة من السلف يرون أن حكم المحكّم أو المحكّمين لازم للمتخاصمين، ولا يصح شرعاً رفض حكم المحكّم أو المحكّمين من قبل أحد المتخاصمي، ويدل على هذا أن المتخاصمين ما داما قد قبلا بالتحكيم ورضيا بالمحكّم أو المحكّمين فلا بد لهما من قبول الحكم الذي يصدر عن المحكّم أو المحكمين. ولولا أن حكم المحكّم لازم للمتخاصمين لما كان للترافع إليه أي معنىً، قياساً على الحاكم المولّى من ولي الأمر. (انظر عقد التحكيم في الفقه الإسلامي والقانون الوضعي ص 147- 149، الموسوعة الفقهية الكويتية 10/244).

وهذا ما قررته مجلة الأحكام العدلية فقد جاء في المادة 1448 ما يلي: "كما أن حكم القضاة لازم الإجراء في حق جميع الأهالي الذين في داخل قضائهم كذلك حكم المحكّمين لازم الإجراء، على الوجه المذكور في حق من حكّمهم وفي الخصوص الذي حكموا به، فلذلك ليس لأي واحدٍ من الطرفين الإمتناع عن قبول حكم المحكّمين بعد حكم المحكّمين حكماً موافقاً لأصوله المشروعة". وكلام العلماء هذا وارد في المحكم صاحب الأهلية والكفاءة للحكم والنظر، وهو من كان أهلاً لتولي القضاء، وعلى ذلك اتفاق المذاهب الأربعة، (انظر الموسوعة الفقهية الكويتية 10/237). وكذلك فإن حكم المحكم يكون لازماً ومقبولاً إذا كان موافقاً للأصول الشرعية، كما ورد في مجلة الأحكام العدلية: "... فلذلك ليس لأي واحدٍ من الطرفين الإمتناع عن قبول حكم المحكّمين بعد حكم المحكّمين حكماً موافقاً لأصوله المشروعة"، ومما يؤسف له أنه قد دخل في التحكيم الشرعي من ليس أهلاً له من بعض المتسلقين الجهلة الذين لا يعرفون ألف باء التحكيم الشرعي، وخاصة في القضايا المالية، وكذلك فإن هؤلاء اتخذوا التحكيم الشرعي مصدراً للتكسب فتراهم يفرضون على المتحاكمين مبالغ مالية كبيرة، وبعضهم يتقاضى نسبة مئوية من المبلغ محل الخصومة والنزاع، فكانت أجورهم بالآلاف. وقد صدرت عن هؤلاء أحكام كأحكام قراقوش، فيها من الجور والظلم ما الله به عليم.

وبناءً على ما سبق فإن الفقهاء قد نصوا على أنه يمكن نقض حكم المحكم أو حكم المحكمين إذا كان مخالفاً للشرع كأن يصدر الحكم عن محكم جاهل، بل قال جماعة من الفقهاء تنقض كل أحكامه حتى لو أصاب في بعضها وإلى هذا ذهب الشافعية وهو المذهب عند الحنابلة وقول للمالكية إلى أن أحكامه -أي المحكم الجاهل- كلها تُنقض وإن أصاب فيها، لأنها صدرت ممن لا ينفذ حكمه، وذهب بعض المالكية وبعض الحنابلة إلى أنه تنقض أحكامه المخالفة للصواب كلها، سواء أكانت مما يسوغ فيه الاجتهاد أم لا يسوغ، لأن حكمه غير صحيح وقضاؤه كعدمه، لأن شرط القضاء غير متوفر فيه، ولكن القول المعتبر هو ما اختاره صاحب الإنصاف الشيخ المرداوي الحنبلي ومعه جماعة من فقهاء الحنابلة بأنه لا ينقض من أحكامه إلا ما خالف كتاباً أو سنةً أو إجماعاً، وأن هذا عليه عمل الناس من زمن ولا يسع الناس غيره. (انظر الإنصاف للمرداوي 11/225- 226، الموسوعة الفقهية الكويتية 41/162- 163). وقرر جمهور الفقهاء أن الحكم إذا كان جائراً فإنه ينقض، بل إن فقهاء الحنفية قد نصوا على أنه إن كان القاضي تعمد الجور فيما قضى وأقر به فالضمان في ماله، سواء كان ذلك في حق الله أو في حق العبد، ويعزر القاضي على ذلك لارتكابه الجريمة العظيمة، ويعزل عن القضاء ونص أبو يوسف على أنه إذا غلب جوره ورشوته ردت قضاياه وشهادته. (حاشية ابن عابدين 5/418).

وكذلك فإن عدم اتباع الإجراءات القضائية بشكل صحيح يعتبر سبباً في نقض حكم المحكم أو حكم المحكمين، فإذا لم يستمع المحكم أو المحكمون لأحد الخصوم أو لم يمكنوه من الاطلاع على حجة خصمه أو لم يمكنوه من الرد عليها والدفاع عن نفسه، أو قصر المحكم في الكشف عن الشهود وبيان حالهم حتى لا يكونوا شهود زورٍ، فإن هذه تعتبر أسباباً كافية لنقض الحكم الصادر عن المحكم أو المحكمين، قال صاحب (درر الحكام شرح مجلة الأحكام) عند شرحه المادة (1849): "إذا عرض حكم المحكم على القاضي المنصوب من قبل السلطان فإذا كان موافقاً للأصول صدَّقه وإلا نقضه؛ إذا عرض حكم المحكم على القاضي المنصوب من قبل السلطان أو على محكمٍ ثانٍ ليدقق الحكم مرةً ثانيةً فإذا كان موافقاً للأصول صدَّقه لأنه لا فائدة من نقض الحكم الموافق للأصول والحكم ثانية بذلك. وفائدة تصديق حكم المحكم من قبل القاضي هو: أنه لو عرض هذا الحكم على قاضٍ آخر يخالف رأيه واجتهاده رأي المحكم فليس له نقضه، لأن إمضاء وقبول القاضي لحكم المحكم هو بمنزلة الحكم ابتداءً من القاضي؛ أما إذا لم يصدق القاضي على حكم المحكم فيكون من الممكن للقاضي الآخر أن ينقض حكم المحكم (نقلاً عن الزيلعي في تبيين الحقائق) فإذا حكم المحكم حكماً غير موافق للأصول ينقضه القاضي والمحكم الثاني. وعدم موافقة حكم المحكم للأصول يكون على وجهين: الوجه الأول: أن يكون حكم المحكم خطأً لا يوافق أي مذهب من المذاهب؛ وبتعبير آخر أن يكون حكم المحكم غير موافق لمذهب المجتهد الذي يقلده القاضي ولا يوافق رأي أي مجتهد من المجتهدين والعلماء. وبما أن الحكم الذي يكون على هذه الصورة ظلمٌ واجبٌ رفعه فيرفع هذا الحكم وينقض، ويحكم القاضي في القضية على وجه الحق..." (درر الحكام شرح مجلة الأحكام 4/702).

وكذلك فإن من أسباب نقض حكم المحكم أو المحكمين التهمة، فإنها تؤثر في حكم القاضي وتعرضه للنقض، فإذا كان المحكم قريباً لأحد الخصوم فهذه تهمة تعرض حكمه للنقض، جاء في (الموسوعة الفقهية الكويتية): "اختلف الفقهاء فيما إذا حكم القاضي لنفسه أو لأحد أبويه أو ولده أو زوجته أو من لا تقبل شهادته له، ولهم في ذلك رأيان: الرأي الأول: يرى الحنفية والحنابلة والمختار عند المالكية والشافعية على الصحيح نقض الحكم لكونه باطلاً لمكان التهمة، بخلاف ما إذا حكم عليهم فينفذ حكمه لانتفاء التهمة. وزاد الحنفية والشافعية أنه لا ينفذ حكمه لنفسه أو شريكه في المشترك. الرأي الثاني: يرى المالكية في مقابل المختار والشافعية في مقابل الصحيح أنه ينفذ حكمه لهم بالبينة، لأن القاضي أسير البينة، فلا تظهر منه تهمة. وأضاف المالكية أنه إن كان مبنى الحكم هو اعتراف المدعى عليه يجوز الحكم عليه لابنه أو غيره ممن ذكر، أما إذا كان الحكم يحتاج إلى بينة فلا يجوز الحكم لهم لأنه يتهم بالتساهل فيها. وينقض الحكم إذا أثبت المحكوم عليه ما ادَّعاه من وجود عداوة بينه وبين القاضي، أو بينه وبين ابنه أو أحد والديه، وهو ما ذهب إليه الحنفية والمالكية والحنابلة والمشهور في المذهب عند الشافعية. وجوز الماوردي الحكم في هذه المسألة بقوله: إن أسباب الحكم ظاهرة بخلاف شهادته على عدوه" (الموسوعة الفقهية الكويتية 41/164-167).

وأخيراً أنبه من يلجأ للتحكيم أن يختار محكمين من أهل الخبرة والمعرفة، فليس كل شيخٍ أو إمام مسجد أو حامل شهادة في الشريعة أو القانون، يكون أهلاً للتحكيم، وكذلك فإني أنصح بالبعد عن المتكسبين من التحكيم لأن الغالب على هؤلاء الجشع والطمع وقد تشترى أحكامهم بالمال. وخلاصة الأمر أن التحكيم مشروع في الخصومات وأن الأصل الذي قرره فقهاؤنا هو أن الحكم الذي يصدره المحكم لازم للخصوم وواجب التنفيذ، ما دام المحكم أهلاً للتحكيم، وما دام الحكم غير مخالف لأحكام الشريعة الإسلامية، وصدر الحكم بعد استكمال جميع الإجراءات اللازمة لإصداره من استماع حجج الخصوم وطعونهم فيها ونحو ذلك.

تاريخ الفتوى: 20-8-2009.