الأصلَ في الطلاق الحظر

خالد عبد المنعم الرفاعي

  • التصنيفات: قضايا الزواج والعلاقات الأسرية -
السؤال:

زوجي يحبني بشدة، حتى بعد الزواج لَم يظهر منه إلا كلُّ خير، حتى وأنا متزوجة الآن. زوجي كان متزوجًا من قبل، وطلَّق زوجته منذ 4 سنوات، وله منها أطفال، وهو يقطن ويعمل في ليبيا؛ أي: إننا لا نعيش معًا، فكلُّ واحد في بلد، وزوجته تقطُن في نفس البلد الذي يعيش فيه هو كل 3 أشهر، وكنا متفاهمين - والحمد لله - رغم البُعد بيننا. وكنَّا نتقابَل كلما عاد، وآخر مرة تقابلنا فيها هذا الصيف، وعند عودته إلى مقرِّ عمله تغيَّر تمامًا، وقال لي: إنه يودُّ أن يعودَ إلى أولاده وإلى زوجته السابقة، ولكن بشرط أن يطلِّقَني، (علمًا بأنه طلَّق زوجته للمرة الثالثة)، ودائمًا أقول له: هذا حرام في الدين الإسلامي أن تطلِّقَ زوجة ظُلْمًا للرجوع إلى الأولى، فما حُكم هؤلاء الناس الذين يحَلِّلون الحرام، ويحَرِّمون الحلال؟ علمًا بأن جلسة المحكمة لرجوعهما آخر الشهر؛ لأن زوجته تُلحُّ لرجوعه إلى بيت الزوجيَّة، ولا بُدَّ من تطليقي لإرجاع الأولى، فهل صحيح أنه يوجد في ليبيا قانون ينص على هذا؟

الإجابة:

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصَحْبه ومن والاه، أما بعدُ:

فإنَّ الأصلَ في الطلاق الحظر، وإنما يُباح للحاجة المعتبرة والدواعي الطارئة؛ لما فيه من قطع النكاح الذي تعلقتْ به المصالحُ الدينية والدنيويَّة، وما ينتج عن هذا الزواج من ذُرية طيبة، ويدل على هذا الأصل ما رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي: "أيما امرأة سألتْ زوجها الطلاق من غير ما بأس، فحرامٌ عليها رائحة الجنة".

ودلَّ القرآنُ الكريم على أن التفريق بين الزوجين من أقبح أفعال السحرة؛ قال تعالى: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} [البقرة: 102].

وأخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن الطلاق هو الغاية التي يريدها الشيطانُ مِنْ أتباعه، وأنه من أهم العوامل التي يستعين بها إبليس على إفساد الحياة البشرية؛ فقد روى مسلم عن جابر مرفوعًا: "إن إبليس يضع عرشه على الماء، ثم يبعث سراياه، فأدناهم منه منزلة أعظمهم فتنة، يجئ أحدهم فيقول: فعلتُ كذا وكذا، فيقول: ما صنعتَ شيئًا، قال: ثم يجئ أحدهم فيقول: ما تركتُه حتى فرقت بينه وبين امرأته، قال: فيُدنيه منه، ويقول: نِعْم أنت!"، من أجل هذا جعله الإسلام في أضْيق الحدود، ونهاية المطاف بعد فشل جميع محاولات التوفيق.

قال شيخُ الإسلامِ ابن تيميَّة رحمه الله: "الأصل في الطَّلاق الحظر، وإنَّما أُبيح منه قدْر الحاجة؛ كما ثبتَ في الصَّحيح عن جابرٍ عن النَّبي صلى الله عليه وسلم: "إنَّ إبليس ينصب عرشَه على البحْر، ويبعث سراياه، فأقربُهم إليه منزلةً أعظمُهم فتْنة، فيأتيه الشَّيطان فيقول: ما زلت به حتَّى فعل كذا، حتَّى يأتيه الشَّيطان فيقول: ما زلتُ به حتَّى فرَّقتُ بينه وبين امرأته، فيدْنيه منه، ويقول: أنت أنت، ويلتزِمُه".

وقد قال تعالى في ذمِّ السحر: {فَيتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يفَرِّقُونَ بِهِ بَينَ المَرْءِ وَزَوْجِهِ} [البقرة: 102]، وفي السُّنن عن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّ المختلعات والمنتزعات هنَّ المنافقات"، وفي السُّنن أيضًا عن النَّبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: "أيما امرأةٍ سألت زوجَها الطَّلاق من غير ما بأسٍ، فحرامٌ عليها رائحة الجنَّة"؛ ولهذا لَم يُبِحْ إلاَّ ثلاث مرَّات، وحرمت عليه المرأة بعد الثَّالثة، حتَّى تنكح زوجًا غيره".

وقال الشيخ ابنُ عثيمين في "الشَّرح الممتع": "الأصْل في الطَّلاق الكراهة، والدَّليل قولُه تعالى في الَّذين يؤْلون من نسائهم -أي: يحلفون ألاَّ يجامِعوا مدَّة أربعة أشهر-: {فَإِنْ فَاؤُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ . وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 226، 227]، وهذا فيه شيءٌ من التَّهديد، لكن في الفيء -أي: الرجوع- قال: {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}، فدلَّ هذا على أنَّ الطَّلاق غير محبوب إلى الله -عزَّ وجلَّ- وأنَّ الأصلَ فيه الكراهة، وهو كذلك". اهـ.

وعليه؛ فإنَّنا ننصح ذلك الزوج بعدم الإقدام على حلِّ ذلك الميثاق الغليظ، ما دامتْ زوجتك مستقيمة، وليس هنالك ما يدعو لطلاقها، وحتى وإن كنت تكره منها بعض الصفات، فقد قال تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء: 19]، وقال صلى الله عليه وسلم: "لا يفرك مؤمنٌ مؤمنة، إن كره منها خلقًا رضي منها آخر" (رواه مسلم).

وكونك تريد الرجوع لمطلقتك، فراجعها إن شئتَ، إن كانتْ قد نكحتْ بعدُ زوجًا غيرك، ودخل بها، ثم فارقها أو مات عنها، ولكن لا يجوز في شريعة الإسلام لتلك المرأة أن تشترط طلاق زوجتك التي معك لتعود إليك؛ ففي الحديث: "لا تسأل المرأة طلاق أختها لتستفرغ ما في صحفتها، فإن لها ما قدِّر لها" (متفق عليه)، وفي رواية: "فنهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك" لما فيه من البغي والأذى والظلم للتي تشترط طلاقها.

وقال ابن عبدالبر: في هذا الخبر من الفقه أنه لا ينبغي أن تسأل المرأة زوجها أن يطلق ضَرَّتها لتنفرد به، فإنما لها ما سبق به القدر عليها، لا ينقصها طلاق ضرتها شيئًا مما جرى به القدر لها ولا يزيدها، وقال الأخفش: كأنه يريد أن تفرغ صحفة تلك من خير الزوج وتأخذه هي وحدها، قال أبو عمر: وهذا الحديث من أحسن أحاديث القدر عند أهل العلم والسنة، وفيه أن المرء لا يناله إلا ما قدر له؛ قال الله عز وجل: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} [التوبة: 51]، والأمر في هذا واضح لمن هداه الله، والحمد لله، وفقه هذا الحديث أنه لا يجوز لامرأة ولا لوليِّها أن يشترط في عقد نكاحها طلاق غيرها".

وننبه الأخت السائلة أن قولكِ: "هذا حرام في الدين الإسلامي أن تطلِّقَ زوجة ظُلْمًا للرجوع إلى الأولى"، قول صحيح؛ إن كنت تقصدين بذلك حرام على زوجته الأولى، وأما إن كنت تريدين حرام على زوجكِ أيضا، فلا؛ لأن الطلاق مكروه فقط وليس بحرام،، والله أعلم.