قيام ليلة النصف من شعبان وصومه

حامد بن عبد الله العلي

  • التصنيفات: فقه الصيام -
السؤال:

فضيلة الشيخ لدي ثلاثة أسئلة بارك الله فيك:
1ـ ما حكم إحياء ليلة النصف من شعبان وحدي أو في المسجد مع الجماعة؟
2ـ هل يستحب الإكثار من صيام شعبان وهل يجوز صيامه كله؟
3ـ هل صح النهي عن الصيام بعد النصف من شعبان وما هي الحكمة؟

الإجابة:

الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وبعد:

قد ورد في فضل ليلة النصف من شعبان بعض الأحاديث من أقربها ما رواه ابن حبان والبيهقي من حديث أبي موسى الأشعري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله ليطلع في ليلة النصف من شعبان فيغفر لجميع خلقه إلا لمشرك أو مشاحن» (رواه البيهقي من حديث أبي موسى الأشعري).

وفي ما يدل على استحباب إحياء تلك الليلة بالطاعات والأعمال الصالحات، غير أنه لايُشرع أن يكون ذلك جماعيا، كما قال شيخ الإسلام: "وأما ليلة النصف فقد روي في فضلها أحاديث، وآثار، ونقل عن طائفة من السلف أنهم كانوا يصلون فيها، فصلاة الرجل فيها وحده قد تقدمه فيه سلف وله فيه حجة فلا ينكر مثل هذا".

وأما الصلاة فيها جماعة فهذا مبني على قاعدة عامة في الاجتماع على الطاعات والعبادات، فإنه نوعان:

أحدهما: سنة راتبة، إما واجب، وإما مستحب، كالصلوات الخمس، والجمعة، والعيدين، وصلاة الكسوف، والاستسقاء، والتراويح، فهذا سنة راتبة ينبغي المحافظة عليها والمداومة.

والثاني: ما ليس بسنة راتبة، مثل الإجتماع لصلاة التطوع، مثل قيام الليل، أو على قراءة قرآن، أو ذكر الله، أو دعاء.

فهذا لا بأس به إذا لم يتخذ عادة راتبة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم صلَّى التطوع في جماعة أحيانا، ولم يداوم عليه إلاّ ما ذكر، وكان أصحابه إذا اجتمعوا أمروا واحداً منهم أن يقرأ، والباقي يستمعون.

وقد روي في الملائكة السيارين الذين يتبعون مجالس الذكر الحديث المعروف، فلو أن قوما اجتمعوا بعض الليالي من غير أن يتخذوا ذلك عادة راتبة، تشبه السنة الراتبة، لم يكره.

لكن اتخاذه عادة دائرة بدوران الأوقات مكروه، لما فيه من تغيير الشريعة، وتشبيه غير المشروع بالمشروع.

ولو ساغ ذلك لساغ أن يعمل صلاة أخرى وقت الضحى،  أو بين الظهر والعصر، أو تراويح في شعبان، أو أذانا في العيدين، أو حجا إلى الصخرة ببيت المقدس، وهذا تغيير لدين الله وتبديل له.

وهكذا القول في ليلة المولد وغيرها).

إلى أن قال: (وما لم يشرعه الله ورسوله فهو بدعة وضلالة: مثل تخصيص مكان أو زمان باجتماع على عبادة فيه، كما خص الشارع أوقات الصلوات وأيام الجمع والأعياد.

وكما خص مكة بشرفها، والمساجد الثلاثة، وسائر المساجد بما شرعه فيها من الصلوات، وأنواع العبادات كلُّ بحسبه؛ وبهذا التفسير يظهر الجمع بين أدلة الشرع من النصوص، والإجماعات، فإن المراد بالبدعة ضد الشرعة، وهو ما لم يشرع في الدين، فمتى ثبت بنص  أو إجماع في فعل أنه مما يحبه الله ورسوله خرج بذلك عن أن يكون بدعة، وقد قررت ذلك مبسوطا في قاعدة كبيرة من القواعد الكبار).

 

أما استحباب الإكثار من صيام التطوع في شعبان، فقد ورد فيه:

عن ‏عائشة ‏ ‏رضي الله عنها ‏ ‏قالت :  «كان رسول الله ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏يصوم حتى نقول لا يفطر، ويفطر حتى نقول لا يصوم، فما رأيت رسول الله ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏استكمل صيام شهر إلاّ رمضان، وما رأيته أكثر صياما منه في شعبان» (رواه البخاري).

‏قال الإمام ابن حجر رحمه الله: "زاد حديث يحيى بن أبي كثير «فإنه كان يصوم شعبان كله»".

زاد ابن أبي لبيد عن أبي سلمة عن عائشة عند مسلم «كان يصوم شعبان إلاّ قليلا».

ورواه الشافعي من هذا الوجه بلفظ "بل كان يصوم.. إلخ".

وهذا يبيّن أن المراد بقوله في حديث أم سلمة عند أبي داود وغيره: "أنه كان لا يصوم من السنة شهرا تامّا إلاّ شعبان يصله برمضان "أي كان يصوم معظمه".

ونقل الترمذي عن ابن المبارك أنه قال: "جائز في كلام العرب إذا صام أكثر الشهر أن يقول صام الشهر كلَّه، ويقال قام فلان ليلته أجمع، ولعله قد تعشى، واشتغل ببعض أمره"، قال الترمذي: "كأنّ ابن المبارك جمع بين الحديثين بذلك".

وحاصله أنّ الرواية الأولى مفسرة للثانية، مخصّصة لها، وأنَّ المراد بالكلّ الأكثر، وهو مجاز، قليل الاستعمال.

واستبعده الطيبي قال: "لأنّ الكلّ تأكيد لإرادة الشمول، ودفع التجوز، فتفسيره بالبعض منافٍ له، قال: فيحمل على أنّه كان يصوم شعبان كلّه تارة، ويصوم معظمه أخرى لئلاّ يتوهم أنه واجب كلّه كرمضان".

وقيل المراد بقولها «كلّه» أنه كان يصوم من أوله تارة، ومن آخره أخرى، ومن أثنائه طورا، فلا يخلي شيئا منه من صيام، ولا يخص بعضه بصيام دون بعض.

إلى أن قال: (والأول هو الصواب ـ يعني صيام أكثر شعبان وليس كلّه ـ ويؤيّده رواية عبد الله بن شقيق عن عائشة، عند مسلم، وسعد بن هشام عنها، عند النسائي ولفظه «ولا صام شهرا كاملا قط منذ قدم المدينة غير رمضان»).

 فنعم، قـد صح من حديث أبي هريرة قال صلى الله عليه وسلم: «إذا انتصف شعبان فلا تصوموا حتى يكون رمضان» (رواه أصحاب السنن الأربعة).

 
‏قال في تحفة الأحوذي شرح الترمذي: (وفي رواية أبي داود وغيره: «إذا انتصف شعبان»، وفي رواية: «فلا صيام حتى يكون رمضان»).

قال القاري في المرقاة: والنهي للتنزيه رحمة على الأمّة أن يضعفوا عن حق القيام بصيام رمضان، على وجه النشاط.

وأمّا من صام شعبان كلّه فيتعود بالصوم، ويزول عنه الكلفة، ولذا قيَّده بالانتصاف، أو نهى عنه لأنّه نوع من التقدم، والله أعلم.

قال القاضي: "المقصود استجمام من لا يقوى على تتابع الصيام، فاستحب الإفطار كما استحب إفطار عرفة، ليتقوى على الدعاء، فأمّا من قدر فلا نهي له، ولذلك جمع النبي صلى الله عليه وسلم بين الشهرين في الصوم". انتهى.

 

هذا ويمكن أن يجمع بين صيام النبي صلى الله عليه وسلم بعد النصف من شعبان، كما تقدم في حديث عائشة، وبين النهي الوارد في حديث أبي هريرة هذا، على نهي الصائم أن لايصوم شيئا من شعبان إلاّ بعد النصف منـه يتقصّده.

وعلّة النهي حتىّ لايزيد الناس في رمضان شيئا فشيئا، فيُبدأ بصيامه قبل حلوله كالاحتياط له، فيبتدعون في الشريعة، ويتعدُّون حدود الله تعالى فيما افترض عليهم.

ولهذا أيضا حُرّم صيام يوم العيد حتى يحافظ على الحدّ الشرعي للفريضة، ويُوضّح الفرق بينها، وبين النافلة، ومن هذا أيضا نهي المصلّي للفريضة أن يصلي بعدها النافلة مباشرة من غير أن يغير المكان، أو يفصل بكلام، كما ورد في الحديث.

وقـد ذكر العلماء أنَّ أهل الكتاب كان قد افتُرض عليهم صيام شهر، فما زالوا يزيدون فيه حتى صار أربعين يوما، فحذّرنا الله تعالى أن نسلك سبيلهم.

ويدلّ ذلك كلُّه على أنَّ الصائم إذا كان يصوم من أوّل شعبان فاستمر إلى آخره، ولو بعد النصف منه، أنَّ ذلك جائز لاشيء فيه، وكذلك إذا كان معتادا صوم يوم الإثنين والخميس، أو صيام يوم وفطر يوم، فلا مانع أن يتم ذلك إلى آخر شعبان، وإنما النهي لمن يدع الصيام من أول شعبان ولا يبتديء الصيام إلاّ بعد النصف الثاني منه والعلة في النهي ما ذكرته آنفا والله أعلم.