حكم ترك الجمعة والجماعة بسبب فيروس كورونا

خالد عبد المنعم الرفاعي

السؤال:

ما هو الدليل على وجوب الجمعة في وجود فايروس كورونا ، انا اعرف انها واجبة و لكن اهلي لا يقتنعون بهذا و يقولون ان الفايروس ينتشر بسرعة في أماكن التي فيها تجمعات و يمكن في السجادة فايروس ...إلخ ، و لقد تركت الجمعة السابقة و صليتها ظهرا بسببهم و لقد جادلتهم و لم يقتنعوا فهل علي ذنب؟

الإجابة:

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصَحْبه ومن والاه، أما بعدُ:

فإن صلاة الجمعة من أعظم شعائر الإسلام، وهي فرض عين على الرجل البالغ الصحيح المقيم؛ قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9].

وروى أبو داود عن طارق بن شهاب، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " الجمعة حق واجب على كل مسلم في جماعة إلا أربعة: عبد مملوك، أو امرأة، أو صبي، أو مريض".

أما التخلُّف عن الجمعة من غير عذْر شرعي فكبيرةٌ من كبائر الذُّنوب، توعد الله فاعلها بالوعيد الشَّديد؛ ففي الصحيح من حديثِ أَبي هُرَيْرة وابْنِ عُمر - رضِي الله عنْهُما - أنَّهما سمِعا النَّبيَّ - صلَّى الله عليْه وسلَّم - يقول: "لينتَهينَّ أقوامٌ عن ودْعِهم الجمُعات، أو ليختِمنَّ الله على قلوبهم، ثمَّ ليكونُنَّ من الغافلين".

وعن أبي الجعْد الضمري قال: قال رسولُ الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم -: "مَن ترك الجمُعة ثلاثَ مرَّات تهاوُنًا بها، طَبَع الله على قلبه"؛ رواه الترمذي.

والطبع على القلب؛ هو الختم على القلب، فلا يصل الخير إليه.

ولكن من رحمة الله بعباده أنه لا يكلفهم إلا ما في طاقتهم ووسعهم، فأباح سبحانه التخلف عن الجمعة والجماعات لمن تحقق الخوف أو الضرر، سواء خاف في نفسه أو ماله أو أهله أو غيرها مما يشق معه القصد إلى الجمعة أو الجماعة؛ فعن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من سمع النداء فلم يأته، فلا صلاة له إلا من عذر. قالوا: يا رسول الله، وما العذر؟ قال: خوف أو مرض"؛ رواه أبو داود.

قال أبو عمر بن عبد البر في "التمهيد"(16/ 243): "وأما قوله في الحديث: "من غير عذر"، فالعذر يتسع القول فيه، وجملته كل مانع حائل بينه وبين الجمعة، مما يتأذى به أو يخاف عدوانه، أو يبطل بذلك فرضاً لابد منه، فمن ذلك السلطان الجائر يظلم، والمطر الوابل المتصل، والمرض الحابس، وما كان مثل ذلك". اهـ.

وقال ابن قدامة في "المغني" (1/ 451): "ويعذر في تركهما الخائف؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم –: "العذر خوف أو مرض"، والخوف ثلاثة أنواع؛ خوف على النفس، وخوف على المال، وخوف على الأهل.

فالأول: أن يخاف على نفسه سلطاناً يأخذه، أو عدواً، أو لصاً، أو سبعاً، أو دابة، أو سيلاً، ونحو ذلك، مما يؤذيه في نفسه". اهـ.

وقال المرداوي في "الإنصاف": "ومما يعذر به في ترك الجمعة والجماعة خوف الضرر في معيشة يحتاجها، أو مال استؤجر على حفظه، كنظارة بستان ونحوه، أو تطويل الإمام". اهـ.

وقال ابن النجار في "منتهى الإرادات": "ويعذر بترك جمعة وجماعة من ... أو يخاف ضياع ماله أو قواته أو ضرراً فيه أو (ضرراً) في معيشة يحتاجها أو (يخاف ضرراً)" . اهـ.

هذا؛ وقد رخص الشارع الحكيم في التخلف عن الجمعة بسبب المطر الذي يُتأذى منه، فيقاس عليه كل ما يلحق الأذى من الأوبة وغيرها، بجامع خوف الضرر على النفس؛ ففي الصحيحين عن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما أنه قال لمؤذنه في يوم مطير: "إذا قلت أشهد أن محمدًا رسول الله، فلا تقل حي على الصلاة، قل: صلوا في بيوتكم"، فكأن الناس استنكروا، قال: "فعله من هو خير مني - يعني النبي صلى الله عليه وسلم - إن الجمعة عزمة، وإني كرهت أن أحرجكم فتمشون في الطين والدحض"، والدحض: هو الزلق والزلل، وقوله: عزمة، أي: واجبة متحتمة، فلو لم يقل ما قال لبادر إليها من سمع النداء.

قال ابن قدامة في المغني لابن قدامة (2/ 252): "ولا تجب الجمعة على من في طريقه إليها مطر يبل الثياب، أو وحل يشق المشي إليها فيه... ولأنه عذر في الجماعة، فكان عذرا في الجمعة، كالمرض، وتسقط الجمعة بكل عذر يسقط الجماعة".

وكذلك نصّ المالكية على أن شدة المطر أو شدة الوحل من أعذار التخلف عن الجمعة والجماعة كما في "الشرح الكبير" للدردير.

أيضًا فإن الشريعة الإسلامية مبنية على الاحتياط وسد الذريعة والأخذ بالتحفظ، وحماية الصحة العامة، والأخذ بأسباب السلامة والواقية من الأمراض، والابتعاد عن أصحاب الأمراض المعدية، خشية انتقاله إلى الأصحاء بواسطة الملامسة، أو المخالطة، أو الشم؛ فمخالطة المريض من الأسباب التي جعلها الله مفضية إلى مسببَاتها كغيرها من بقية الأسباب.

قال الله - تعالى -: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195]، وقال: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء: 29]

ونهى رسول الله صاحب الإبل المراض أن يوردها على صاحب الإبل الصحاح، حتى لا تصاب بنفس المرض؛ ففي الصحيحين عن هريرة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يوردن ممرض على مصح لئلا تنتقل العدوى"، فين أن مخالطة المريض ذريعة إلى إعدائه، أو إصابته بالتوهم والخوف.

 وفي الصحيح عن عمرو بن الشريد، عن أبيه، قال: كان في وفد ثقيف رجل مجذوم، فأرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم "إنا قد بايعناك فارجع"، هذا موافق للحديث الآخر في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال "وفر من المجذوم كما تفر من الأسد".

وهذان الحديثان ظاهرا الدلالة في البعد عن المصاب بالمرضى المعدي.

وقال صلى الله عليه وسلم عن الطاعون: "وإذ سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه"؛ متفق عليه، فالابتعاد عن العدوى أسكن للقلب.

والحاصل أن اتخاذ الأسباب والأخذ بها مأمور به شرعًا، وأن من ترك الأسباب يقدح في الشرع.

قال الإمام ابن القيم في "زاد المعاد"(4/ 134): "فصل في هديه - صلى الله عليه وسلم - في التحرز من الأدواء المعدية بطبعها وإرشاده الأصحاء إلى مجانبة أهلها:

فالنبي - صلى الله عليه وسلم - لكمال شفقته على الأمة، ونصحه لهم، نهاهم عن الأسباب التي تُعرضهم لوصول العيب والفساد إلى أجسامهم وقلوبهم، ولا ريب أنه قد يكون في البدن تهيؤ واستعداد كامن لقبول هذا الداء، وقد تكون الطبيعة سريعة الانفعال، قابلة للاكتساب من أبدان من تجاوره وتخالطه، فإنها نقالة، وقد يكون خوفها من ذلك ووهمها من أكبر أسباب إصابة تلك العلة لها، فإن الوهم فعال مستول على القوى والطبائع، وقد تصل رائحة العليل إلى الصحيح فتسقمه، وهذا معاين في بعض الأمراض، والرائحة أحد أسباب العدوى، ومع هذا كله فلا بد من وجود استعداد البدن وقبوله لذلك الداء". اهـ.

واختار شيخ الإسلام ابن تيمية أن يمنع المريض من السكن بين قوم أصحاء، فقال في "مختصر الفتاوى المصرية" (ص: 435): "ومن كان مبتلى بأمراض معدية يجوز منعه من السكن بين الأصحاء، ولا يجاور الأصحاء". اهـ.

إذا تقرر هذا، فإن كان الخوف من فيروس كورونا متحققًا أو يغلب على الظن حصوله في المكان الذي تقيم فيه، فإنه يبيح لك التخلف عن الجمعة والجماعة، ولكن إن كنت تستطيع الاحتراز من العدوى بأخذ شيء تصلي عليه (مصلية)، مع لبس الكمامة والجلوس خارج حدود المسجد، كان ذلك متعينًا، إلا أن رأى الأطباء المتخصوصون أن الوقاية لا تتحقق إلا بمنع الاجتماع مطلقًا،، والله أعلم.