موسى يلجأ إلى مدين وبعد ثمانِ ليالٍ قضى موسى بعض ساعاتهن نوماً في المغارات والكهوف، وقطع في باقي ...

منذ 2017-08-11
موسى يلجأ إلى مدين
وبعد ثمانِ ليالٍ قضى موسى بعض ساعاتهن نوماً في المغارات والكهوف، وقطع في باقي الوقت كل هذه المسافات الشاسعة سعياً وجرياً ومشياً على رمال الصحراء، يقتات من بعض النبات والعُشب سداً لجوعه حتى بدأت معالم مدينة "مدين" تلوح له من بعيد (1).
وها هو الآن وصل إليها منهكاً متعباً، قد أعياه الجوع وغُبِرَ وجهه بتراب الصحراء، وتقطع نعله من كثرة المشي، ليبدأ رحلة جديدة في بلد مجهولة المعالم بالنسبة له، لا يعرف فيها أحداً يؤيه أو يطعمه ويسقيه .. فهو كالراكب الذي قفز من سفينة غرقت، وألقت براكبها في الماء، فكان أسعدهم حظاً من وضع رجله على اليابسة، ولو كان في مورد الوحوش!
لذا تجده يرقب الأحداث في هذه البلد بتأنٍ شديد غير معهود على شخصيته الانفعالية المندفعة(1)، فقد تعلم من أخطائه السابقة؛ إذ أدى اندفاعه مرة إلى أن قتل، وفي المرة الثانية ظن تلميذه الغبي أنه يريده فأفشى كل الأسرار!!
أما الآن فهو يرقب الأحداث بتأنٍ ورويةٍ شديدةٍ رغم ما يراه على بئر مدين من غرائب وأمور تنكرها الفطرة السليمة.
موسى وماء مدين
تمشَّى موسى حتى وصل إلى بئر واسعة الفُوّهة يتزاحم حولها الرعاة بإبلهم وغنمهم ويحملون الماء منها إلى خيامهم، ﴿ وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عليه أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ ﴾ القصص:23، وقد كانوا قرابة الأربعين رجلاً غلاظ شداد تفتقر وجوههم إلى الرحمة، يتدافعون على البئر لكي يسقي كل منهم قبل أن يعكر صفو الماء الأوائل الذين قال في مثلهم عمرو بن كلثوم شاعر تغلب:
ونشرب إن وردنا الماء صفوا ... ويشرب غيرنا كدرا وطينا
ولكن ما أثار دهشة موسى أنه وجد بعيداً عن هذا الزحام امرأتين تدفعان وتحوطان على غنمهما لكي لا يدخلا على غنم الرجال ﴿ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ ﴾القصص:23، فاستوقفه خروجهن في مثل هذا المكان المزدحم بالرجال، رغم ما عليهما من سمات العفة والشرف!
فتقدم نحوهما يمشي حتى وصل إليهما وسألهما مستغرباً: أي حدث جلل جعلكما تخرجان من بيتكما في هذا المكان المزدحم بالرجال ؟!﴿ ما خَطْبُكُمَا ﴾.
فأجابتا عن السبب بكل أدب فقالتا: إن لدينا من الأدب والحياء ما يجعلنا لا نزاحم الرجال في السقيا، فنصبر حتى ينتهوا ثم نسقي نحن ﴿ لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِير ٌ﴾، وما دفعنا لذلك إلا كبر سن والدنا فهو شيخ كبير، وليس في بيتنا من يعولنا.
فلما علم سبب خروجهما وحاجتهما لرجل يقوى على مزاحمة الرجال، ثارت نخوته ومروءته - التي ماتت عند الأخرين- فقلد كان من الأجدرَ بالالتفات لهاتين المرأتين ذوو القرابة والعشيرة من غريب لا يعرفهما ولا تلحقه بتركهما ملامة !
ولكنه على كل حال ندب نفسه ليسقي لهما، فمن كان في حاجة الناس كان الله في حاجته ومن فرج عن أحدهم كربة فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة(2).
موسى يرفض الصدام
ولكنّ موسى عليه السلام وجد نفسه قد يقع في مأزق صدامي جديد في بلد لا يعرفه فيها أحد، فهو لايريد مزاحمة الرجال عند البئر تجنباً لأي شجار قد يحدث معهم – كعادة أي طابور وزحام- بعدما أيقن أن ضربته قاتله!
فسألهما: هل توجد عين ماء أخرى غير هذه في هذا المكان؟
فقالتا: توجد عين ماء في مكان كذا، ولكن وقعت عليها صخرة عظيمة من الجبل فلم يقو من يومها الرجال على رفعها.
فذهب موسى إلى تلك الصخرة، واستجمع قواه التي خارت أثناء سيره في الصحراء، وتمكن بقدرة الله من إزاحتها عن البئر(1) وسقى لهما.
﴿ فَسَقى لَهُما ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ ﴾ القصص:24، دون أن ينتظر مديحاً منهما على قوته، ولا شكراً على صنيعه، ولا مكافأة بطعام سداً لجوعه، بل ﴿ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ ﴾ القصص:24.
ويالها من صورة تستحق من الشعراء والروائيين الوقوف عندها طويلاً؛ فما كان أحوج موسى - في نظر قومٍ - إلى استغلال هذا الموقف وهو الجائع المطارد الهارب من بلد إلى بلد - بل من قارة إلى قارة(2) أخرى - إلى شيء من طعام يسد جوعه، لكن أخلاق المصلحين ومن قبلهم النبيين تأبى ذلك كله وتجنح بأربابها من بهر الأضواء إلى سكون الظل وخفائه حيث روعة الاستكانة، وجمال السكينة، ولذة المناجاة ﴿ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ﴾.
ما أحوج الذين أصبحت حياتهم بأدق تفاصيلها من أسفار وتنقلات وعبادات ودعوات ودمعات، وأكلهم وشربهم وصحوهم ونومهم ولقاءاتهم وزياراتهم -أصبح ذلك كله في العراء وأصبحت حياتهم (إمبراطورية لا تغيب عنها الشمس)، ويوشك أن تلج معهم كاميراتهم غرف نومهم ودورات خلائهم !
موسى يناديكم .. افعلوا المعروف وتولوا بكل ما أوتيتم حتى ذلك القلب الذي ينبض بداخلكم ﻻ تجعلوه يتمنى الشكر والجزاء يكفيكم أن يجازيكم الكريم سبحانه وتعالى، إذا أحسنت لأي شخص فابتعد عنه، لا تحرج ضعفه، ولا تلزمه شكرك ، واصرف عنه وجهك لئلا ترى حياءه عاريًا أمام عينيك، لم يقل الله سبحانه وتعالى عن موسى ثم "ذهب" بدلاً من "تولى "لأنه تولى بكامل ما فيه.

5790110a908f2

  • 0
  • 0
  • 49

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً